من المكوكية إلى فن الواقعية السياسية.. ما هي مدرسة كسينجر الدبلوماسية؟
تاريخ النشر: 30th, November 2023 GMT
"باحث ورجل دولة ودبلوماسي شهير وصاحب مواقف غيرت شكل العالم"، هكذا عرف هنري كيسنجر، الذي كان يتمتع بسلطة لا مثيل لها بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، قبل وفاته الأربعاء، عن 100 عام، في منزله بولاية كونيتيكت، فما هي مدرسته الدبلوماسية؟
في يناير 1969، انضم كيسنجر إلى البيت الأبيض في عهد الرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون، كمستشار للأمن القومي، وبعد تعيينه وزيرا للخارجية في عام 1973، احتفظ بكلا المنصبين.
وكيسنجر هو الشخص الوحيد على الإطلاق الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض ووزير الخارجية في نفس الوقت، ولذلك فقد مارس سيطرة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة نادرا ما يعادلها أي شخص لم يكن رئيسا، وفق تقرير لصحيفة "واشنطن بوست".
وعندما عينه الرئيس نيكسون مستشارا للأمن القومي، خطط كيسنجر حينها لزيارتين لا مثيل لهما إلى الصين والاتحاد السوفيتي عام 1972.
وعندما تم تعيينه وزيرا للخارجية، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" أنه الشخص الأكثر إثارة للإعجاب في البلاد.
وبات كيسنجر أول أميركي وُلد خارج الولايات المتحدة، يتولى منصب وزير الخارجية، واستمر في المنصب حتى بعد استقالة نيكسون، وقدوم جيرالد فورد.
وفي عام 2014، قال جون كيري، الذي كان وزيرا للخارجية آنذاك: "هنري كيسنجر... كتب حرفيا كتابا عن الدبلوماسية".
وأضاف "لقد أعطانا كيسنجر، مفردات الدبلوماسية الحديثة، وهي عبارة (الدبلوماسية المكوكية) و(الصبر الاستراتيجي)".
وكان كيسنجر "مهندس" انفتاح الولايات المتحدة على الصين، وتفاوض على خروجها من فيتنام، وإعادة تشكيل علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي في ذروة الحرب الباردة، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
وأطلق كيسنجر عجلة التقارب بين واشنطن وكل من موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي وقد حاز في 1973، تقديرا لجهوده السلمية خلال حرب فييتنام، جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الفيتنامي، لي دوك ثو.
الدبلوماسية "السرية"ومن بين إنجازات كيسنجر الدائمة الإشراف على "التواصل السري" لإدارة نيكسون في أوائل السبعينيات مع الصين، مما أدى إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين واشنطن وبكين، حسبما يشير تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال".
وينسب إلى كسينجر الفضل في تشكيل "الدبلوماسية السرية" التي ساعدت الولايات المتحدة في عهد نيكسون، على الانفتاح على الصين، وفق تقرير لشبكة "سي إن إن" الإخبارية.
وهو ما أبرزته زيارة نيكسون للصين في عام 1972.
وأدت المفاوضات السرية التي أجراها كيسنجر مع ما كان يسمى آنذاك بـ"الصين الحمراء" إلى إنجاز نيكسون الأكثر شهرة في السياسة الخارجية.
وكان المقصود منها أن تكون خطوة حاسمة في "الحرب الباردة" لعزل الاتحاد السوفييتي.
وكان لهذا التنفيذ الناجح لـ"الدبلوماسي السرية". الفضل في المساعدة على قلب التوازن العالمي ضد الاتحاد السوفييتي وتسريع اندماج بكين في الاقتصاد الدولي.
وأعاد كيسنجر العلاقات مع الصين في السبعينيات بعد "زيارة سرية" عام 1971 مهدت الطريق لأخرى تاريخية للرئيس نيكسون في العام التالي.
وفي رحلة إلى باكستان، أفلت كيسنجر من الصحفيين المتجولين بالتظاهر بالمرض وسافر سرا إلى بكين لتأمين الدعوة الرئاسية، الأمر الذي أذهل العالم عندما أُعلن عنها.
وشهد شهر فبراير 1972، الحدث الذي أعاد تشكيل توازن القوى العالمي، فقد كان نيكسون، الذي بنى مسيرته السياسية على معارضة الشيوعية، يرغب منذ فترة طويلة في الذهاب إلى الصين، وكان الصينيون على استعداد لذلك.
وقد أنتجت هذه الرحلة، من بين أمور أخرى، "بيان شنغهاي"، الذي اعترفت فيه الولايات المتحدة بأن "تايوان جزء من الصين".
كما اتفقت الدولتان على أنه بمجرد ترسيخ هذا المبدأ، فإنهما "لن تفعلا أي شيء لتغيير وضع تايوان شبه المستقل".
ولا يزال هذا هو أساس السياسة الأميركية والصينية بشأن تايوان.
نهج "الانفراج"وكان نهج الانفراج والواقعية السياسية الذي اتبعه كيسنجر في التعامل مع العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، قد ساعد في تخفيف التوترات وأدى إلى العديد من اتفاقيات الحد من الأسلحة، هو الذي قاد الموقف الأميركي إلى حد كبير حتى عهد ريغان.
وكان كيسنجر ممارسا لشكل من أشكال فن الحكم الدولي يسمى السياسة الواقعية، والتي يقول منتقدوه إنها وضعت هدف موازنة مصالح القوى العالمية فوق مساعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، حسبما تشير "وول ستريت جورنال".
وتمكنت واشنطن بسياساته من اتخاذ قرار الخروج من فيتنام التي تكبدت فيها خسائر فادحة، في صراع غير مباشر مع موسكو آنذاك.
ومن بين إنجازات كيسنجر الأخرى معاهدة الحد من الأسلحة (سولت 1) لعام 1972 مع الاتحاد السوفييتي، والتي تم التفاوض عليها عندما كانت القوتان العظميان النوويتان منخرطتين في حرب باردة وتواجه كل منهما الأخرى في حروب بالوكالة في جميع أنحاء العالم.
وتضع اتفاقيات "سولت" قيودا على أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ الباليستية وعلى نشر الصواريخ الهجومية وتلزم البلدين فعليا بـ"الانفراج بدلا من المواجهة".
وباعتباره مهندس "انفتاح" نيكسون التاريخي على الصين، وباعتباره "منظرا" للانفراج مع الاتحاد السوفييتي، حصل الدكتور كيسنجر على الكثير من الفضل في التحولات السياسية الزلزالية التي أعادت توجيه مسار الشؤون العالمية.
الدبلوماسية "المكوكية"في الشرق الأوسط، شكل كيسنجر ما يعرف باسم "الدبلوماسية المكوكية" للفصل بين القوات الإسرائيلية والعربية بعد تداعيات حرب يوم الغفران عام 1973.
واندلع هذا الصراع بعد أسبوعين من أداء كيسنجر اليمين كوزير للخارجية مع احتفاظه بمنصبه في البيت الأبيض كمستشار للأمن القومي.
وكانت حرب الستة عشر يوما التي بدأت في 6 أكتوبر 1973، بهجمات منسقة على إسرائيل من قبل مصر وسوريا، أصعب الاختبارات في حياة كيسنجر المهنية، حسبما تشير "واشنطن بوست".
وهددت الحرب وجود إسرائيل، وأشعلت مواجهة مع الاتحاد السوفييتي، وألهمت السعودية وغيرها من المصدرين العرب لفرض حظر نفطي أدى إلى شل تدفق الوقود في العالم.
وساعدت "دبلوماسيته المكوكية" الشهيرة بعد حرب عام 1973 في استقرار العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، وفق "واشنطن بوست".
وتفاوض كيسنجر على إنهاء حرب يوم الغفران عام 1973 التي أشعلتها الهجمات المشتركة بين مصر وسوريا على إسرائيل.
وجاء وقف إطلاق النار في أعقاب الجسر الجوي الأميركي المثير للأسلحة إلى الدولة اليهودية والذي أثبت أهميته لدرء التقدم الأولي للجيوش العربية.
كان هو ومسؤولون أميركيون آخرون يشعرون بالقلق من أن الصراع قد يتصاعد إلى أول صراع عسكري مباشر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الذي كان الراعي الرئيسي للقاهرة ودمشق.
وفي النهاية، كانت نتائج الحرب إيجابية في معظمها، وانتهى القتال عندما وافق الرئيس المصري، أنور السادات، على إجراء محادثات عسكرية مباشرة مع الإسرائيليين.
وكان كيسنجر قادرا على الحفاظ على أساسيات "الانفراج" مع استبعاد السوفييت من مفاوضات السلام التي تلت ذلك.
ومن أجل تمديد وقف إطلاق النار الهش وتحقيق الاستقرار في العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، قام كيسنجر بما أصبح "مهمته المميزة".
وابتداءً من يناير 1974، ذهب إلى الشرق الأوسط 11 مرة للترويج لاتفاقيات فض الاشتباك العسكري التي من شأنها تسهيل حقبة جديدة من مفاوضات السلام.
وكانت أكثر مهمات "الدبلوماسية المكوكية" شهرة هي الماراثون الذي استمر 34 يوما في ذلك الربيع، حيث زار القدس 16 مرة ودمشق 15 مرة، وسافر إلى ستة دول أيضا.
لم تسفر هذه الماراثونات عن أي اتفاقات "سلام دائمة" خلال فترة تولي كيسنجر مهام منصبه، لكنها نجحت في تحقيق الاستقرار في منطقة مضطربة وجعلت الولايات المتحدة "وسيط حصري" بالشرق الأوسط، مع استبعاد الاتحاد السوفييتي.
وخلال السنوات الثماني التي قضاها في الخدمة الحكومية، والتي امتدت من عام 1969 حتى عام 1977، منح الرئيس الأميركي السابق، جيرالد فورد، كيسنجر وسام الحرية الرئاسي.
وظل كيسنجر حتى وفاته فاعلا على الساحة السياسية الدولية ولم يثنه تقدمه في السن عن السفر ولقاء العديد من قادة العالم، وكان آخرهم الرئيس الصيني، شي جينبينغ، الذي التقاه في يوليو الفائت في الصين، وفق وكالة "فرانس برس".
والأربعاء، توفي كيسنجر، عن 100 عام، في منزله بولاية كونيتيكت، بحسب ما أعلنت مؤسسته.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة عام 1973
إقرأ أيضاً:
الصين:مستعدون للحوار مع الولايات المتحدة لدفع التجارة الثنائية للإمام
الصين والولايات المتحدة الأمريكية.. قال نائب وزير التجارة الصيني وانج شو وين اليوم الجمعة الموافق 22 نوفمبر، إن الصين مستعدة لإجراء حوار نشط مع الولايات المتحدة على أساس مبادئ الاحترام المتبادل وتعزيز تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية.
وقال وانج، ردا على سؤال حول تأثير الرسوم الجمركية المحتملة من الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الممثل التجاري الدولي للصين، إن الصين ستكون قادرة على "حل ومقاومة" تأثير الصدمات الخارجية..بحسب ما نقلته رويترز.
وقال وانج في مؤتمر صحفي في بكين "نعتقد أن الصين والولايات المتحدة يمكنهما الحفاظ على اتجاه تنموي مستقر وصحي ومستدام في العلاقات الاقتصادية والتجارية"، مضيفاً أن الصين مستعدة أيضا "لتوسيع مجالات التعاون وإدارة الخلافات" مع الولايات المتحدة.
تجنباً لرسوم ترامب الجمركية الجديدة.. المصنعين الصينيين ينقلون المصانع لجنوب شرق آسيا
ومع تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية تتجاوز 60% على جميع السلع الصينية، وهو ما هز المصنعين الصينيين وعجل بنقل المصانع إلى جنوب شرق آسيا ومناطق أخرى، يستعد المصدرون الصينيون لأي اضطرابات تجارية.
الولايات المتحدة قد تفرض رسوما جمركية بنحو 40% على الواردات من الصين
ويعتقد خبراء اقتصاديون استطلعت رويترز آراءهم أن الولايات المتحدة قد تفرض رسوما جمركية بنحو 40% على الواردات من الصين في أوائل العام المقبل، وهو ما قد يؤدي إلى خفض النمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم بما يصل إلى نقطة مئوية واحدة.
وكانت السلطات الصينية أعلنت أمس الخميس عن سلسلة من التدابير السياسية التي تهدف إلى تعزيز التجارة الخارجية، بما في ذلك التعهد بتعزيز الدعم المالي للشركات وتوسيع صادرات المنتجات الزراعية.
كما ستؤثر الاضطرابات التجارية التي شهدتها رئاسة ترامب الأولى على اليوان الصيني، فقد ارتفع اليوان بنسبة 10% خلال الأشهر الثمانية عشر الأولى قبل أن ينخفض بنحو 12% بسبب فرضه للرسوم الجمركية والوباء.
وقال ليو يي، أحد مسؤولي البنك المركزي الصيني، في المؤتمر الصحفي نفسه: "حكمنا الأساسي هو أن سعر صرف اليوان سيظل مستقرا بشكل أساسي عند مستوى معقول ومتوازن".
وأضافت أن البنك المركزي "سيحافظ على مرونة اليوان مع تعزيز التوجيهات بشأن التوقعات لمنع السوق من تشكيل توقعات أحادية الجانب".
الشركات الصينية تحدد أسعار العقود باليوان
وأضاف ليو أن البنك سيعمل أيضا على الحماية بشكل حازم ضد خطر تجاوز سعر الصرف والحفاظ على استقرار اليوان عند مستوى معقول ومتوازن.
وذكرت وكالة رويترز للأنباء اليوم الجمعة أن الشركات الصينية تدخر المزيد من الدولارات، وتحدد أسعار العقود باليوان وتفتح خطوط استيراد للتخفيف من مخاطر العملة.