ما من فيلسوف عربي أثار جدلا وأشعل معارك فكرية مثلما فعل ابن رشد، ففي الوقت الذي احتفى به الغرب ورأى كثيرون أن مؤلفاته كانت أحد روافد نهضته العقلية، أدت معاركه الفكرية وخلافاته مع فلاسفة المسلمين وعلماء الكلام والفقهاء إلى حرق كتبه وانزواء أفكاره في جانب بعيد عن التيار الرئيسي للفكر العربي والإسلامي.

وُلِد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد بمدينة قرطبة حاضرة الأندلس عام 520 للهجرة، ونشأ في بيت عريق في العلم والأدب، وكان والده قاضيا وفقيها له مجلس يُدّرس فيه في جامع قرطبة.

درس ابن رشد الفقه والتفسير والطب والرياضيات والفلك والفلسفة.

مارس الطب وتولى القضاء في إشبيلية وقرطبة، وتنوعت مؤلفاته لتشمل الفلسفة وعلم النفس والفقه واللغة وعلم الكلام والفيزياء والجغرافيا والقانون، وبلغ ما وصل للعصر الحالي من كتبه 58 مؤلفا.

من أبرز ما قدمه ابن رشد للثقافتين العربية والغربية شرحه الوافي لفلسفة أرسطو، فتناول كل ما استطاع أن يحصل عليه من مؤلفاته وشروحها بالدراسة العميقة المبنية على التحليل الدقيق والنقد العميق لأفكاره، بعدما اطلع على كل ما تُرجم من كتب اليونان التي ضاع أغلبها فيما بعد، لذلك فهو صاحب الفضل الأكبر في الحفاظ على فلسفة أرسطو وقراءتها نقديا، حتى أنه لقب في الأوساط العلمية الغربية بـ"الشارح".

وكان لإعجابه العظيم بمنطق أرسطو دور كبير في نقده لأفكار الفلاسفة العرب من أمثال الفارابي وابن سينا، اللذين سار في نقدهما على نفس منهج نقد أرسطو لأفلاطون، بل وحاول أن يدمج فلسفة أرسطو مع الفكر الإسلامي، معتبرا أن الفلسفة لا تتعارض مع الدين، ورأى أن كليهما طريق للغاية نفسها، وهو الأمر الذي جعله يختلف مع كثير من فقهاء عصره، فاختلف في مسائل كثيرة مع الأشاعرة، كما لم يُقرّ كثيرا من أفكار المعتزلة الذين مثلوا اتجاها باطنيا في الفكر الإسلامي.

من مؤلفاته في الفقه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" و"مناهج الأدلة"، أما كتابه "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال"، فقد أكد فيه أهمية التفكير التحليلي في تفسير القرآن، مخالفا علماء الكلام في عصره، ومعليا من قيمة البرهان العقلي. ويعد كتابه "الكليات" موسوعة لعلوم الطب في وقته، كما شرح "أرجوزة" ابن سينا في الطب.

كما كانت له أبحاثه في مجال الفلك، إذ قدم نقدا لنظرية بطليموس، ووصفا للقمر أضاف لما كان معروفا وقتها، بل إنه اكتشف كويكبا لم يكن معروفا من خلال رصد فلكي أجراه في المغرب وهو في سن الـ25. وبالإضافة إلى إسهاماته في مجال الرياضيات، يعتقد أنه أول من اقترح مفهوم "القصور الذاتي" في الفيزياء، واجتهد في تفسير ظاهرة قوس قزح.

أما أشهر كتبه ومعاركه الفكرية، فكان كتابه "تهافت التهافت" الذي رد فيه على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة"، والكتابان يقدمان عرضا فكريا شائقا لمدرستين متعارضتين في النظر إلى الفكر والوصول إلى الحقيقة.

ورغم انتمائه لعائلة تولت مناصب الفقه والقضاء، وتوليه هو نفسه مناصب القضاء في كل من إشبيلية وقرطبة، وتقلده وظيفة الطبيب الخاص للخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف في مراكش، وتكليفه بمهام سياسية بحكم قربه من البلاط، فلم يتحرج من أن تكون له آراء سياسية تحمل أفكارا إصلاحية لواقع الناس في الأندلس، فقد ركز على أهمية الممارسة السياسية، بمعني أن تتطابق أفعال الحاكم مع أقواله، وفي ذلك يقول عند الحديث عن التحول إلى المدينة الفاضلة إن ذلك يكون "بالأعمال الصالحة، لا بالآراء الحسنة، وأنت تلمس ذلك في مدننا، وبالجملة فلن يصعب على من كملت لديه أقوال أجزاء الفلسفة، واطلع على طرق تحول المدن، أن يرى أنها لن تؤول نحو الأفضل بالآراء وحدها".

بقي ابن رشد في بلاط الموحدي في مراكش حتى توفي الخليفة وخلفه ولده المنصور، الذي غضب على ابن رشد، واتهمه بالزندقة، ونفاه إلى قرية اليسانة في الأندلس، التي كان يسكنها أغلبية من اليهود، وأحرق كتبه، بل وأصدر منشورا يحرم قراءة كتب الفلسفة، لكنه بعد أعوام راجع نفسه وعفا عنه، فعاد ابن رشد إلى مراكش حيث توفي ودفن فيها عام 595 للهجرة، ثم نقل رفاته فيما بعد إلى مسقط رأسه في قرطبة.

من أشهر أقواله: "من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي لنفسه"، و"الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل"، و"لو سكت من لا يعرف، لقل الخلاف".

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

لتضامنه مع فلسطين.. فرنسا تعتقل المفكر السياسي فرانسوا بورغا

لتضامنه مع فلسطين.. فرنسا تعتقل المفكر السياسي فرانسوا بورغا

الرؤية- الوكالات

اعتقلت الشرطة الفرنسية، اليوم الثلاثاء، المفكر السياسي فرانسوا بورغا المناصر للقضية الفلسطينية، بتهمة "الدفاع عن الإرهاب".

وقال المحامي رفيق شِكّات، في منشور على منصة إكس، إن الشرطة اعتقلت فرانسوا بورغا في مدينة إي أن بروفانس (Aix-en-Provence) جنوبي فرنسا بدعوى دعمه للإرهاب.

واستنكر شكات هذا الإجراء، مشددا على أن مكان الأكاديمي ليس في مركز الشرطة.

ونقلت وكالة الأناضول عن شكات قوله "المنظمة اليهودية الأوروبية تقدمت بشكوى ضد بورغا، الخبير في شؤون العالم العربي والإسلاموفوبيا، بسبب إعادة نشره تغريدة على منصة إكس في الثاني من يناير الماضي".

وأفاد المحامي أنه تم الاستماع إلى بورغا في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والمحكمة الجنائية، وطُرحت عليه أسئلة بشأن الحرب في غزة وأتيحت له الفرصة للتعبير عن رأيه.

وكان بورغا قد أعرب علنا عن دعمه لغزة، وقال في منشور على إكس في وقت سابق من العام الجاري إنه يُكنّ الاحترام والتقدير لقادة حماس أكثر بكثير من قادة إسرائيل.

مقالات مشابهة

  • اعتقال المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا بسبب تصريح عن قرب نهاية إسرائيل
  • لتضامنه مع فلسطين.. فرنسا تعتقل المفكر السياسي فرانسوا بورغا
  • مهاتير محمد ينتقد موقف الغرب من الحرب على غزة ويدعو المسلمين إلى الوحدة
  • إسلام الكتاتني يروي كواليس مظاهرة «الثلاثاء العظيم» ضد الإخوان
  • الغرب هو نحن
  • الجريمة والثواب: توريث الجريمة للأبناء والأحفاد وبقية الأهل
  • الغرب أم روسيا.. ماذا يريد قادة حزام الانقلابات الأفريقي؟
  • «كل شوق يسكن باللقاء لا يعوَّل عليه»
  • شيخ الأزهر: الهجرة حدث ملهم غرس في نفوس المسلمين قيمًا أخلاقية عظيمة
  • مع من يجب أن نبحث وقف الحرب؟ و لماذا