البيئـة بوصفها سـؤالا وجوديّـا
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
ظلّت العقيدةُ الصّناعيّة - منذ نشأتها في القرن الثّامن عشر حتّى اليوم - تبرّر للإنسان جشعَـه واستغلالَه الوحشيّ للطّبيعة بدعوى أنّها مادّةٌ خامٌ لعِلْمه ولإرادة الإنتاج عنده، وأنّ الصّناعة قد تمدُّ الإنسان بما لم تستطع الطّبيعةُ أن تمدّه به، وأنّها وحدها تملك أن تستخرج من الثّروات والنّـفائس المخـبوءة في دفائن الأرض ما لا تجود به الطّبيعة عيانيّاً.
ليس معنى هذا أنّ فعْـل الصّناعة كان وقْـفًا على ما يبرِّرُهُ ويُسـوِّغ له. لقد فرض نفسَه بقـوّة الأمر الواقع: بقـوّة الرّأسمال والطّبقات الاجتماعيّة الحادبـة على مصالحه. وإلى ذلك، كانتِ الفكرةُ اللّيبراليّة وحدها تكفي لِتُـشَرْعن الصّناعة في وعي النّاس: تحسين شروط عيشهم، وتوفير فرص العمل للملايين منهم، والقضاء على الأمراض والأوبئة الفتّاكة...إلخ. هكذا، شيئًا فشيئًا، ومع كلّ تقدُّمٍ تُحْرِزه الصّناعة في مجال تعظيم الخيرات، وتقريب المسافات، وتحسين شروط الوجود الإنسانيّ، والتّمدين والكَهْربـة والاستشفاء...، كانت فُرصُها في استمداد المشروعيّة تتعاظم، وصورتُها في عيون النّاس تَعْـظُم. لذلك، في الوُسع أن يقال إنّ الصّناعة، مثل السّياسة ومثل أي ظاهرة أخرى عمليّة، تَحْمل في جوفها إيديولوجياها، أي نظامَ تبريرها، أمّا ما فاض عن ذلك من ضروب التّبرير ووسائله فهو من النّوافل، وهو - على الأغـلب - من ملاحـقها الوظيفـيّة.
أَشْرعَ التّصنيعُ الباب أمام سيرورةٍ مديدة من نهب مكنونات الطّبيعة من ثرواتٍ كوّنتها الطّبيعةُ عبر عشرات ملايين السّنين. لم يكن هناك ما يبرِّر كلّ ذلك القَـدْر المَهُول من أفعالِ الاستنزاف، التي تعرّضت لها المواردُ الطّبيعيّة من خلال الصّناعة، سوى الجشع الذي ظلّ يسكن قوى الرّأسمال المتنافسة على تعظيم المصالح ومراكمة الثّروات؛ ولأنّ منطق المصالح الأنانيّة لهذه القوى - مثل منطقِ أيّ مصلحةٍ أخرى - منطقٌ أعمى لا يرى إلى ما بعد إشباع حاجته، فقد تجاهل مصالح الموجات القادمة من عشرات الأجيال من البشريّة التي لن يترك لها نهبُ الطّبيعة من مواردَ تعيش عليها، لأنّها لا تقع (= أي الأجيال القادمة) ضمن الأفق الذّهنيّ لقوى النّهب الأنانيّة؛ فهي تسرق مَن هُمْ يعيشون بِجِوارها في الحاضر، فكيف لا تسرق حقوق مَن سيعيشون في المستقبل؟! لا غرابة، إذن، إنْ كان النّهب الوحشيّ لموارد الطّبيعة، خلال مائة عام، قد جرّد الطّبيعة من أكثر مواردها النّـفيسة. هكذا وقَع سَطْوُ الرّأسمال، في مائة عام، على ما تكوَّن في الطّبيعة، جوفًا وسطحًا، لعشرات الملايين من السّنين من مواردَ غنيّة لا تتجدّد، ولا سبيل إلى الحصول عليها ثانيةً بعد نفادها... إلاّ بعد غزو كوكبٍ ثانٍ وسرقة ما فيه على منوال ما حصل في الأرض (ما الذي تعنيه الرّحلات المكوكيّة، اليوم، بل منذ ستينيّات القرن الماضي، إلى القمر ثمّ إلى كواكبَ أبعد سوى الرّغبة في استكشاف ما يَختزنه هذا العالم الخارجيّ من ثروات يمكن استغلالها في المستقبل؟).
ولا يشبه هذا النّهب الوحشيّ للطّبيعة ضراوةً سوى تدمير البيئة الطّبيعيّة بالصّناعة أيضًا! ما عادتِ المصانع الكبرى تكتفي بتلويث الهواء ومياه الأنْهُـر والبحار والمحيطات، وبالقضاء على بيئة الحياة المائيّة فقط؛ ولا اكتفى التّوسُّع التّمدينيّ السّرطانيّ الاستيطانيّ بجرْف الغابات - لأغراض استغلال أخشابها أو لاستغلال أراضيها في البناء - وبتدمير بيئة آلاف الأنواع الحيوانيّة والنّباتيّة والحكم عليها بالانقراض التّامّ أو التّدريجيّ فقط؛ ولا بحرمان الأرض من غطائها الغابويّ الذي ظلّ الرّئة التي تتنفّس منها كائناتُها وتعيش في أكنافها لملايين السّنين فقط؛ بل لقدِ اجتمعتْ كلُّ هذه الفاعليّات التّدميريّة الصّناعيّة لتُـنْجِب حالةً حادّة من الاختلال في التّوازن البيئيّ والطّبيعيّ، وها نحن نعاين كيف يقودنا جحيمُ الانبعاثات الحراريّة اليوميّ إلى تدمير الغشاء الجويّ للأرض (طبقة الأوزون)، مع ما يأتي في ركاب ذلك التّدمير من احْتِـرارٍ متزايد داخل الأرض يأتي على مناطق القطب الجليديّة بالذّوبان، فيتهدَّد بذلك وجودُ جزرٍ وبلدانٍ ستغمُرها المياه. وفوق ذلك، وقبله، ها نحن نعاين كيف تتواتر ظواهر الاضطراب في انتظام فصول العام ومواسم الإِمطار، وكيف تتأرجح الظّواهر تلك بين حدّين نقيضيْن: موجات الجفاف الحادّ والفيضانات الكارثـيّة!
هذا ما جَنَتْهُ العقيدةُ الصّناعيّة على البيئة والحياة والإنسان. لقد أدخلتْ مسألةَ البيئة في جملة أكبر المسائل الكونيّة الإشكاليّة بعد أن كانتِ البيئةُ ،قبلها، معطًى خارجيًّا طبيعيًّا. بل هي فعلت أكثر من ذلك بكثير: نقلتْ مسألة البيئة إلى مرتبة السّؤال الوجوديّ. خارج نطاق الاحتمال الفلكيّ بنهاية كوكب الأرض، أو نهاية الحياة داخل كوكب الأرض (بفعل اصطدامٍ بينها وجسمٍ فلكيّ خارجيّ)، كانت الحياةُ من بداهات الأرض التي يؤسِّسُها قيامُ شروطها الموضوعيّة. أمّا اليوم فَبَطَل أن يُرى إليها بوصفها من البَداهات؛ لأنّ أفعال التّدمير اليوميّ للبيئة لا تشهد لتلك البداهة ولا تقدّم عليها دليلًا، بل دليلُها الوحيد الذي تقدّمه هو أنّ الحياة تتّجه إلى أن تصبح إمكانًا مستحيلًا في المستقبل لارتفاع بيئتها: أي شروطها الموضوعيّة. وعليه، يغدو الوجود الإنسانيّ - ووجود الكائنات الحيّة - قـيْد احتمال الزّوال؛ لأنّه، بكلّ بساطة، وجود طبيعيّ و- بالتّالي- مشروط بسلامة بيئته الطّبيعيّة التي تمدّه بأسباب الحياة. بهذا المعنى نقول إنّ سؤال البيئة، اليوم، ســؤالٌ وجـوديّ.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
توهج شمسي قوي يعد سماء الأرض بعروض شفق مبهرة اليوم
روسيا – سيستمتع سكان نصف الكرة الشمالي بعروض مبهرة من الشفق القطبي يوم الأربعاء، حيث تلامس كتلة إكليلية من الشمس كوكبنا، وفقا لعلماء روس.
وبعد أسبوعين من الخمول النسبي، شهدت الشمس توهجا من الفئة M امس الاثنين 23 ديسمبر، بقوة 8.9، وهو ما يقل قليلا عن الفئة X.
وتوصّف توهجات X بأنها الفئة الأقوى من أنواع التوهج الشمسي، وتأتي قبلها الفئة M. وتصنّف التوهجات الشمسية في خمس فئات: A وB وC وM وX، بناء على شدة الأشعة السينية التي تطلقها، حيث يكون لكل مستوى 10 أضعاف شدة الفئة السابقة.
ويُشار إلى قوة الانفجار الشمسي في كل تصنيف بعدد يتراوح بين 1 و9، وهو عامل يحدد قوة الحدث داخل كل تصنيف.
وحدث التوهج المرصود يوم الاثنين في البقعة الشمسية الكبيرة المسماة AR3932، والتي كان علماء الفلك يراقبونها لأنه كان من المنتظر أن تتقاطع مع خط الشمس-الأرض (عندما تصطف الشمس والأرض في خط واحد) خلال الأيام الخمسة إلى السبعة القادمة.
وقال ميخائيل ليوس من مركز الأرصاد الجوية “فوبوس” في موسكو يوم الثلاثاء على قناته على “تيليغرام”: “قد يصطدم جزء من الانبعاثات الكتلة الإكليلية (CME) بكوكبنا بعد ظهر يوم 25 ديسمبر”.
وأضاف: “تظهر التوقعات أنه قد يؤدي إلى عاصفة مغناطيسية من الدرجة G1 أو G2”.
وأوضح ليوس أن التوهج الذي حدث يوم الاثنين كان بزاوية 40 درجة من خط الشمس الأرض، ولهذا السبب من المرجح أن تكون العاصفة خفيفة. ومع ذلك، فهي كافية لإحداث الأضواء الشمالية.
وعندما تصل مثل هذه التوهجات الشمسية إلى الأرض، تنحرف معظم الجسيمات المشحونة بواسطة المجال المغناطيسي لكوكبنا، ولكن جزءا صغيرا منها يهاجر نحو القطبين ويدخل الغلاف الجوي. وهناك، تتصادم هذه الجسيمات مع الغازات وتخلق عروضا مذهلة من الأضواء الشمالية (الشفق القطبي).
وبالإضافة إلى الأضواء الشمالية، قد تتسبب العاصفة الشمسية يوم الأربعاء في حدوث بعض الاضطرابات الراديوية في نطاق التردد العالي (HF) وتؤثر على تشغيل بعض الأقمار الصناعية.
وتحمل العواصف الشمسية خطر الإشعاع على رواد الفضاء في المدار الأرضي والأشخاص على متن الطائرات عالية الارتفاع.
وتأتي هذه التوهجات في فترة ازدياد الاضطرابات في الشمس التي وصلت مؤخرا إلى ذروة دورة نشاطها التي تستمر 11 عاما. وقد لاحظ العلماء أكثر من 10 مناطق لبقع شمسية تخترق سطح الشمس حاليا، ما يعد بمزيد من النشاط الشمسي في العام الجديد.
كما تتزامن أحدث العواصف الشمسية مع أقرب اقتراب لمسبار الفضاء “باركر” التابعة لوكالة ناسا من الشمس، وهو اقتراب قياسي تاريخي لجسم من صنع الإنسان من نجمنا.
ويأمل العلماء أن تصادف توهجات شمسية مسبار الفضاء أثناء اقترابه الوثيق، ما سيوفر بيانات مفصلة قد تساعد على تفسير كيفية تسريع الجسيمات المشحونة في الشمس إلى سرعات قريبة من سرعة الضوء. لكن ناسا لن تعرف كيف كانت حالة السفينة أثناء العاصفة حتى تعود إلى العمل في العام الجديد.
المصدر: RT