يبدو عبدالله باتيلى، المبعوث الأممى فى ليبيا، وكأنه قد قرر قطع كل الخيوط مع قيادات العمل السياسى الليبى.. لقد بدا هذا من جانبه عندما قال مؤخراً، إن قادة ليبيا لا يريدون حلاً يذهب بالبلد الى الانتخابات التى طال انتظارها دون جدوى.
كان باتيلى يتحدث الى العدد الأخير من مجلة «جون أفريك» فقال: المشكلة أن معظم القادة الليبيين لا يريدون الانتخابات وعودة الاستقرار، وما يهمهم هو المكاسب غير المتوقعة من النفط، والاستمرار فى ضمان الوصول الى جزء من هذا المورد.
أستدرك هنا لأقول إن معنى كلامه أنه لا يقصد جميع القادة فى ليبيا، وإنه يقصد معظمهم لا كلهم، ومع ذلك، فهو لا يسمى أحداً منهم، وبالتالى، فالتهمة التى يطلقها تظل معلقة فى الهواء، ويظل كل واحد ممن يقصدهم يظن أن باتيلى يقصد سواه ولا يقصده هو!
فالبلد فيه خمس قيادات سياسية كبيرة تبدأ من عقيلة صالح، رئيس البرلمان، وتمر بأسامة حماد رئيس حكومة الشرق التى اختارها البرلمان وتسمى حكومة الاستقرار، ثم محمد تكالة، رئيس مجلس الدولة، ومن بعده محمد المنفى، رئيس المجلس الرئاسى، وأخيراً عبدالحميد الدبيبة، رئيس حكومة الغرب التى تسمى نفسها حكومة الوحدة الوطنية، وتتخذ من العاصمة طرابلس مقراً لها... وإذا كان المبعوث الأممى يتحدث عن معظم القادة فى ليبيا، لا عنهم كلهم، فلا تعرف مَنْ من هؤلاء يقصده بكلامه، ومَنْ لا يقصده، ولا يعنيه، ولا يشير إليه ؟
ولكن ما تعرفه أن ليبيا قد عانت أكثر مما يجب، وأن دماءها حسب تصريح باتيلى قد تفرقت بين القبائل أو بين الجهات، أو بين القادة.. أو.. أو.. فالمهم أنها تفرقت، وأن أبناءها هُم مَنْ يدفعون الثمن، وأن الأمر لم يعد يجدى فيه مجيء مبعوث أممى وذهاب آخر!
إن القادة الذين يعنيهم المبعوث الأممى غاضبون عليه، ويقولون إنه يغذى الانقسامات فى البلد، وبالتالى يرسلون من الإشارات ما يقول إنه لن يستطيع العمل معهم، ولا هُم سوف يستطيعون، وأنه لا بد من مبعوث جديد فى مكانه ترسله الأمم المتحدة من مقرها فى نيويورك.
وبما إن باتيلى ليس المبعوث الأول، فإنه فى الغالب لن يكون الأخير، وكل المبعوثين الأمميين الذين سبقوه ذهبوا، دون أن يقدموا شيئاً ينقذ بلد العقيد مما تعيش فيه منذ إسقاط حكم القذافى فى ٢٠١١، وليس من الظاهر أن المبعوث المقبل سوف يختلف عن الذين جاءوا ثم عادوا.
أفهم أن ليبيا تعانى من تدخلات أطراف خارجية كثيرة تلعب على أرضها، وأفهم أن كل طرف له مصلحته التى يلعب من أجلها، ولا تعنيه المصلحة الليبية فى قليل ولا فى كثير، ولكنى أفهم أيضاً أن الأطراف الداخلية لو قدمت المصلحة الوطنية على ما عداها، فلن يكون للأطراف الخارجية موطئ قدم هناك.. ليبيا فى أشد الحاجة الى أن تستريح، فلقد عانت طويلاً وكثيراً ومن حقها أن تطمح فى شىء من الهدوء، وشىء من راحة بال مواطنيها، وشىء من حُسن توظيف ثرواتها لصالح أهلها من آحاد الناس.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: خط احمر عبدالله باتيلي جدوى
إقرأ أيضاً:
قنبلة ترامب في وجه القادة العرب
هل يجب أن نصدّق الإصرار الرسمي العربي على رفض اقتراح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترحيل سكان غزة (أو جزء منهم) إلى الأردن ومصر بزعم تسهيل إعادة إعمار القطاع؟
أيضا، هل يمتلك القادة العرب قوة وأدوات منع ترامب من تنفيذ خطته؟
من المفروض نعم، يجب أن نصدّق الموقف الرسمي العربي الرافض بالنظر إلى خطورة اقتراح ترامب وتبعاته على غزة والمنطقة وعلى القضية الفلسطينية. في المقابل يبدو التوجس من ردود الفعل الرسمية المصرية والأردنية، والعربية عموما، مشروعا، بل مطلوبا، بالنظر إلى تجارب المواقف العربية الرسمية من الصراع مع إسرائيل في السر واختلافها في العلن.
عبر العقود الماضية عوَّد القادة العرب شعوبهم والعالم على وجهين متناقضين، الوجه الحقيقي الذي يُعبّرون عنه في الجلسات المغلقة، ووجه الاستهلاك الشعبي الذي تنقله وسائل الإعلام والتصريحات العلنية.
آخر فصول الثنائية في المواقف بين السر والعلن ما كشفه المبعوث الأمريكي السابق للشرق الأوسط، دينس روس، بعد بدء إسرائيل حرب الإبادة على غزة. يوم 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 كتب روس مقالة في صحيفة نيويورك تايمز ذكر فيها أنه تحدث إلى قادة عرب في المنطقة فاتفقوا جميعا على أن الفرصة مواتية لسحق حماس. قال إنهم أبلغوه أن أيّ انطباع بأن الحركة انتصرت سيكون بمثابة «انتصار لأيديولوجيتها الإقصائية» ويضعهم في موقع غير مريح. لكنهم جميعا ترجوا روس ألا يُفصح عن مواقفهم الحقيقية خوفا على صورتهم أمام العالم ومن ردود الفعل المحتملة من شعوبهم.
ردُ الرئيس ترامب يوم الخميس على سؤال حول رفض قادة مصر والأردن اقتراحه ترحيل سكان غزة، وتكراره بكل ثقة واقتضاب «إنهم سيقبلون.. سيقبلون» مثير للمخاوف والشكوك. كان لافتا أنه لم يكلف نفسه حتى عناء بذل الحد الأدنى من الجهد للشرح وإقناع من سأله، وفي ملامحه الواثقة ولغة جسده وكلامه القليل رسائل وإشارات كثيرة. تنبع المخاوف من احتمال أن ترامب سيفرض خطته المجنونة على الجميع بكل ما يعنيه ذلك من تبعات هو حتما لا يدركها. أما الشكوك فنابعة من فرضية أنه تلقى من القاهرة وعمان، وربما عواصم عربية أخرى، رسائل سرية إيجابية استمد منها ثقته تلك (مثلما تلقى دنيس روس في بداية الحرب تطمينات من قادة عرب أنهم متحمسون لسحق حماس مع احتفاظهم بحق الاحتجاج والتنديد لضرورات الاستهلاك الإعلامي).
وجاء اجتماع القاهرة الخماسي نهاية الأسبوع الماضي ليكرّس المُكرَّس، وينتهي مكررا أمنيات عربية مشابهة لتلك التي تصدر منذ سنين عن القمم العربية واجتماعات وزراء الخارجية العرب. يكفي أن القاهرة هي المستضيفة للاجتماع والجامعة العربية طرف في البيان الذي توّجه ليدرك المرء ألّا أمل يُرجى من ورائه.
عدا عن الحجج التي يبرر بها القادة العرب (حتى الآن) رفضهم خطة ترامب، ومنها أنها تعرقل إنشاء الدولة الفلسطينية المنشودة، يجب البحث عن المخاوف الرسمية العربية بعيدا عن التصريحات الإعلامية. يجب البحث عنها في سياق الذاكرة الرسمية العربية المعبأة بتجارب سلبية مع الشتات الفلسطيني.
في كثير من الأحيان تحوّل الشتات الفلسطيني في الدول العربية إلى صداع سياسي وعبء اقتصادي واجتماعي وجدت الحكومات العربية، خصوصا القريبة من فلسطين، صعوبة في التعاطي معه، ووظفته بعضها لحساباتها الإقليمية والداخلية.
في الحالات التي امتلك الشتات الفلسطيني السلاح، أصبحت علاقته بالأنظمة العربية التي استقبلته عنيفة ودامية كما في الأردن خلال ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي. وفي لبنان كان السلاح الفلسطيني طرفا في حرب أهلية كادت تقضي على وجود الدولة اللبنانية. وفي سوريا استغل نظام البعث الوجود الفلسطيني في تصفية حساباته مع معارضيه الداخليين وخصومه الإقليميين.
في بداية النصف الثاني من القرن الماضي كانت معضلة الشتات الفلسطيني تحت رعاية جامعة الدول العربية وبعض الدول العربية الكبرى، لكنها شيئا فشيئا تحوّلت إلى ظاهرة خارج التأطير الرسمي ومثيرة لمشاعر متناقضة بين مؤيد لهذا الشتات ومتعاطف معه، ورافض له يعتبره قنبلة موقوتة.
وزاد القرار الرسمي العربي عدم تجنيس الفلسطينيين بذريعة أن التجنيس يصفي القضية الفلسطينية، في إبقاء الفلسطينيين في عدد من الدول العربية كتلة منفصلة منبوذة في بعض الأحيان محشورة في مخيمات تفتقر لأدنى شروط العيش الكريم. كما فاقم موضوع التجنيس مشاعر الفلسطينيين السلبية إزاء «إخوانهم» الذين يرفضون تجنيسهم بينما لا تتردد الحكومات الغربية في استقبالهم ومنحهم جنسياتها وتسهيلات أخرى.
خطة ترامب تجارية بحتة، سواء فكر في غزة كصفقة من صفقاته الكثيرة، أو أرادها للإسرائيليين كمشروع يوسع مساحة بلادهم الجغرافية ويعزز أمنها القومي وقدراتها الاقتصادية. الخطة إذن خالية من أي عواطف أو حمولة نفسية وتاريخية وإنسانية كالتي يختزنها الفلسطينيون والمتعاطفون معهم من عرب ومسلمين.
ترامب يرى في غزة مجرد قطعة أرض تتميز بموقع جغرافي ساحر وتمتلك مقومات نجاح أيّ مشاريع عقارية وتجارية. هنا تنتهي نظرته لأنه لا يعرف غير هذا ولا يريد أن يعرف تفاصيل أكثر ستكون متعبة لذهنه الذي سيعجز عن استيعابها (قال عنه مساعدوه وأحدهم مستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون في مذكراته إنه يكره التفاصيل لأنها تزعجه ولا يستطيع الإمساك بها).
هل يستطيعون فرض رفضهم على ترامب؟
أما للفلسطينيين، فغزة حكاية أخرى مختلفة جدا بحمولتها غير المرئية، فهل يستطيع القادة العرب إقناع ترامب بهذه الحمولة؟ وهل يستطيعون إجباره على تحمل تفاصيلها المملة بالنسبة له؟
من السهل والجميل أن يرفض القادة العرب موضوع ترحيل الفلسطينيين من غزة. لكن هل يستطيعون فرض رفضهم على ترامب؟ هناك سابقة حديثة ستليها أخرى: اتفاق كندا والمكسيك على التصدي لتعريفات ترامب الجمركية. هل يستطيع العرب تقليد كندا والمكسيك؟ نعم. هل سيفعلونها؟ أشك. وهنا مربط الفرس.
يمتلك القادة العرب أوراقا لرفض ما يطرحه ترامب إحداها الرأي العام العربي الرافض. لكن المعضلة أن الهوان العربي بلغ درجة اللارجوع، فلو تحركت مظاهرات شعبية كبرى في عواصم عربية رافضة لخطة ترامب سيقمعها القادة ويحشدون أخرى مصطنعة يوظفونها وفق مصالحهم.
ترامب ألقى قنبلة في حضن القادة العرب والمجتمع الدولي، ولم تكن مجرد فكرة. لن تكون هذه القنبلة اختبارا له وحده ولجرأته، بل للقادة العرب أيضا الذين أحرجهم وسيواصل إحراجهم كل يوم من الألف وأربعمئة وخمسين يوما المتبقية من رئاسته.
القدس العربي