«مواقد الذكرى» لأحمد حرب.. سيرة الطفولة والستينيات الفلسطينية اللاهبة
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
الجزء الأول من سيرة الروائي والناقد والأكاديمي الفلسطيني أحمد حرب (مواقد الذكرى) صدر حديثا عن دار الأهلية بالأردن، النقص المتمثل في الكتابة الفلسطينية عن مرحلة الستينيات قبل حرب يونيو (النكسة) الذي غطاه هذا الجزء الأول وبدا واضحا تماما بإجماع القراء والمهتمين والمتابعين لكتابات مدرس الأدب الإنجليزي في جامعة بيرزيت وصاحب الثلاثية الشهيرة: إسماعيل والجانب الآخر من أرض الميعاد وبقايا.
(كنا صغارا، نلعب في زقاق الحارة، نصنع كرة من قماش، بقايا ألبسة عتيقة، كنا صغارا وكانت شفيقة بيننا نتكلم معها ويصعب علينا فهمها، نشفق على شفيقة ونسخر منها في آن، ونقلبها كحارس مرمى، لأحد الفريقين، كنا صغارا وكنا نحس بألمها، مرآة ابتسامتها، مجرد شعور لدينا، يشحذ بواعث الشفقة، كان أهل الحارة متسامحين مع فتاة في مثل عمرها تلعب مع أولاد صغار، طفلة صغيرة في سن العشرين أقرب إلى الله من أولاد في سن العاشرة، وما كان ربك نسيا، ولكن هذا القول لم يقنع أهلها بأن يتركوها عل سجيتها، تلعب مع أطفال الحارة، في مثل عمرها : ظب أختك اللي دايرة على حل شعرها، قبل ما يصيبنا الشر من أولاد الحرام، وصية الأهل لأخيها الصغير).
من يصدق أن شفيقة هنا ليست شخصية روائية وأن أحمد حرب لم يكن روائيا هنا، هذه الحرارة في الوصف وهذه اللغة المتقشفة وهذا الموقف الدرامي الذي يشير ولا يشرح، كل ذلك لا يمكن أن يكون خارج عمل سردي روائي متقن. أظن أن الدكتور حرب كان محتارا في جنس هذا العمل، ربما يكون قرر أن يكتب سيرته لكن الروائي اليقظ فيه لم يسمح لكاتب السيرة بإتمام مهمته وفي النهاية اتفق كاتب السيرة مع الروائي على تقاسم أدوات ورؤية هذا الكتاب، فجاء (مواقد الذكرى) موزعا بين شطح الكاتب ومجازاته ولغته الشعرية وبين سرد الأحداث والمواقف والتاريخ. وهو يوضح هنا موقفه من مسألة تجنيس هذا العمل، ويوضح:
(هذه واحدة من الأسباب التي جعلتني ابتعد عن التصنيفات الأدبية. اللغة سواء في السيرة أو الرواية يجدر توظيفها بشكل يخدم النص وفنية العمل. من الطبيعي أن ننظر إلى الذكريات بنوستالجيا (حنين) في قلوبنا وبالتالي تكون اللغة مشحونة بعواطفنا ومشاعرنا أكثر مقتربة إلى الحالة الشعرية).
الكتاب يحفل بأشكال ممارسة الطقوس والمعتقدات للناس آنذاك، الخرافات والأساطير، والسحر، مما يشكل إطلالة مهمة على عالم الغيبيات والجانب الديني العفوي الطقسي البسيط، الذي حكم حياة الناس، وتصرفاتهم وأعيادهم وعلاقاتهم مع المكان والماضي:
(مقام الغماري اسم احتل ذاكرة الظاهرية، وسكن روحها، وبات بوصلة الحياة والموت فيها، يتوسلون إليه في السراء والضراء، يطوفون حول مقامه، في أعراسهم، وجنازاتهم، يطالبون بحياة سعيدة، رحيمة، في الدنيا والآخرة، يزفون العروس في اليوم الثالث من حنائها، يشدون هودجها، من الوسائد ولحافات الأطلس وتقود الجمل أحلى صبية في البلد، بمنديل من الحرير وتدور حول المقام ثلاث مرات، والمحتفلات من النساء يهللن ويرددن للعروسين، ويزفون روح الميت بعد الدفن، بالتناوح، وحلقات اللطم، تتبادل فيها النساء، أثناء اللطم الدوران، حول المقام، وكانت النساء يضربن خدودهن، بقسوة، حتى يسيل الدم، وبعضهن يصبن بالغماء..).
وحول رمزية البطولة ومفهومها في شخصية حسن ابن عم الرواي الشهيد والبطل والتي يظهرها الكاتب من خلال البعد النقدي الواضح للعقل الفلسطيني متمثلا في ارتجالية وعشوائية آليات الكفاح الفلسطيني ويستطيع قارئ العمل الحصيف تتبع هذا البعد ورصد في الكتاب، يقول حرب:
(حسن هو شخصية محورية في هذا العمل من حيث إن سيرة حياته ونضاله وحميته الوطنية وطريقة استشهاده يمثل مرحلة حاسمة في مقاومتنا قبل النكبة والظروف الموضوعية والسياسية للقوى المتآمرة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. نقطة أخرى هو أن حسن أضحى بعد استشهاده رمزًا أو أسطورة مؤسسة للوعي الوطني الذي تمسك بالرمزية على حساب المراجعات أو التقييم المطلوب للحالة الفلسطينية آنذاك ، وأنا أعتبر أن «أسطرة» الشهيد أو القائد مهما بلغت عظمته هي نقطة ضعف تفضي إلى الهروب من الواقع، الرمزية مهمة في حياة الشعوب ولكن الخطر يكمن في التفكير التحويلي الذي يجد ملاذًا أو رضاء بالرمز على حساب المرموز إليه. الأسطرة للأسف جزء من ثقافتنا العامة ويمكن استغلالها والواقع أنها (استغلت) من قوى الاستعمار لتعزيز هيمنته وسطوته. في فترات الهزيمة والنكوص وعدم القدرة على مواجهة الواقع نميل إلى أسطرة الأشياء (الأشخاص، الأماكن..) وأنا عشت وعايشت تلك الفترات، جزء مهم من أهداف عمل مواقد الذكرى هو انتقاد أو ربما تقويض مفهوم الأسطرة).
في فصل (لهيب حزيران) الذي يسرد فيه الراوي مع الحرب التي سقطت فيها فلسطين كاملة في يد الصهاينة، ولعل هذه الفقرة - المفتاح من أكثر فقرات الكتاب قدرة على إيلامنا بصدمة الضياع الكبير للبلاد من خلال التفاصيل الفجائعية واللغة القليلة:
(يدي تعبث بمفتاح الترازستر وتفركه، بعصبية، وتنقل المؤشر، بين محطة وأخرى، هنا لندن، صوت العرب من القاهرة، إذاعة المملكة الهاشمية الأردنية، دار الإذاعة الإسرائيليةـ بيان صادر عن قيادة جيش الدفاع يطلب من سكان نابلس التزام منازلهم ورفع الرايات البيض، ويحذرهم من إطلاق النار على الجيش، لم أصدق ما ورد في البيان، كذب كذب، هل معقول أن تستسلم نابلس جبل النار بهذه السهولة..).
أحمد حرب في سطور
هو كاتب وروائي وأكاديمي من مواليد فلسطين، بلدة الظاهرية عام 1951. تخرج من الجامعة الأردنية في عام 1974 بدرجة البكالوريوس في الآداب - الأدب الإنجليزي - وعمل مدرَساً للغة الإنجليزية للمراحل الثانوية في المدارس الحكومية في مدينة الخليل. أكمل دراسته العليا في الجامعات الأمريكية حيث نال درجة الماجستير ودرجة الدكتوراة في الأدب الإنجليزي والمقارن من جامعة أيوا- أيوا ستي - وهو عضو في برنامج الكتَاب العالمي (الكتابة الإبداعية) الشهير الذي تشرف عليه تلك الجامعة. من بين أهم رواياته «إسماعيل»، و«الجانب الآخر لأرض المعاد»، و«بقايا»، و«الصعود إلى المئذنة»، كما أنه معروف في الأوساط الأكاديمية والثقافية بدراساته في النقد والأدب والمنشورة في مجلات متخصصة مرموقة.
كما عمل أستاذا للأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة بيرزيت- فلسطين منذ عام 1987، وعمل خلالها كرئيس لدائرة اللغة الإنجليزية وآدابها عدة مرات، وعميد لكلية الآداب وعضو في مجلس الجامعة 2002-2007. وهو عضو في عدد من مجالس الأمناء والإدارة لمؤسسات ومراكز ثقافية وأكاديمية. وعضو مفوّض في مجلس مفوّضي الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان «ديوان المظالم» منذ عام 2006 حيث تم انتخابه من قبل مجلس المفوضين في 26-11-2011 كمفوّض عام للهيئة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أحمد حرب
إقرأ أيضاً:
يسري نصر الله: تحديت النقابة لأجل عبلة كامل ورفضت أحمد زكي
كشف المخرج المصري يسري نصر الله كواليس عدد من أفلامه الشهيرة، والتي حققت نجاحاً فنياً كبيراً على مدار السنوات الماضية، وذلك في أول ظهور تلفزيوني له بعد تكريمه بجائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين، التي اختتمت الجمعة.
الإصرار على عبلة كاملقال يسري نصر الله إنه شاهد الفنانة عبلة كامل للمرة الأولى في مسرحية، ثم رشّحها للمخرج يوسف شاهين في وقت لاحق، قائلاً: "شاهدتها خلال عرض مسرحي بنقابة الصحفيين، ثم اخترتها للمشاركة بفيلم (وداعاً بونابرت)، وبعدها اخترتها للمشاركة معي بفيلم (سرقات صيفية) في عام 1988".
وأوضح نصر الله أنه واجه أزمة كبيرة، بسبب اختياره لعبلة كامل في هذا الفيلم، مشيراً إلى أنها لم تكن قد انضمت لنقابة المهن التمثيلية آنذاك، وبالتالي كانت تحتاج إلى تصريح عمل من النقابة.
وأضاف أنه حصل على تصاريح لجميع الممثلين في فيلم "سرقات صيفية"، باستثناء عبلة كامل، فقد رفض النقيب آنذاك منحها تصريحاً بالعمل، وحين سأله المخرج عن سبب ذلك أجاب: "لدينا مثلها كثيرون.. خذ أي ممثلة أخرى.. لن أمنح عبلة تصريحاً للفيلم".
حينها أصرّ يسري نصر الله على اختياره للفنانة الصاعدة، وجعلها تشارك في الفيلم رغماً عن النقابة، فقد كان التصوير في منزل يملكه أقاربه داخل مزرعة، وأثناء العمل جاء أحدهم وأخبره أن النقابة أرسلت وفداً لإيقاف تصوير الفيلم، فقال له نصر الله: "أي شخص يقترب من المكان، أكسر رجله".
وأشار إلى أنه انتهى من تصوير الفيلم بهذه الطريقة، وجعل عبلة كامل تشارك في العمل رغماً عن النقابة، نظراً لإيمانه بموهبتها النادرة للغاية، وأنها الأكثر ملائمة لهذا الدور.
أما فيلم "مرسيدس" الذي أخرجه يسري نصر الله عام 1993، فأكد أنه رفض مشاركة أحمد زكي فيه، رغم إلحاحه الشديد على تقديم دور البطولة، قائلاً: "أنا أعرف أحمد زكي منذ أن كان طالباً في معهد التمثيل، وأؤمن بموهبته العبقرية، وكان نجماً آنذاك وكل المخرجين يتمنون العمل معه".
وتابع: "وأنا أيضاً كنت أتمنى العمل معه، لكنه لم يكن ملائماً للدور، فالقصة تدور حول سيدة تتزوج رجلاً إفريقياً وتنجب طفلاً لونه أبيض أكثر من اللازم، فماذا كنت سأفعل في بشرة أحمد زكي السمراء؟!".
وأضاف يسري نصر الله: "حينها أخبرت أحمد زكي أنني أرغب في العمل معه بالتأكيد، لكنه لو قدّم هذا الدور فسيخرج بشكل سيء لأنه غير ملائم للقصة، إلا أنه انزعج وغضب مني".
يذكر أن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الخامسة والأربعين كرّم ثلاث شخصيات سينمائية بارزة، تضم المخرج المصري يسري نصر الله الذي مُنح جائزة الهرم الذهبي التقديرية لإنجاز العمر، تقديراً لمسيرته الفنية الحافلة، والنجم أحمد عز بمنحه جائزة فاتن حمامة للتميز، كما تم تكريم المخرج البوسني دانيس تانوفيتش الذي ترأس لجنة تحكيم المسابقة الدولية.