( لمجد الله وعزّة الوطن ) يوسف ناصر (1) رفّهْ عنك يا أخي ولا تتجنَّ ! لا تشمت، ولا تهرف بما لا تعرف، ولا تكن نذير شؤم! صيدحًا ينأم في الظلام، وغرابًا ينعب في الخراب.. لا تقل: غاب صاحبنا ولن يرجع بعد، كسرت عوادي الأيّام قلمه منذ سنين خلت! ولم ينطق ذلك القلم بحرف واحد من حروفه! فقد نضبت ينابيعه تحت طوفانه الغامر! ويبست غصونه في ربيعه الزاهر.
.! بل أنضاه الحرّ والضنك، وأضناه الجوع والعطش لطول التسيار معه في صحاريه بقيظها، ووِهاده بقَتادها، فسكت نبض القلم في يده، وماتت أجنّة كلماته في أرحامها! ولم نعد نسمع في روضة من رياضه حفيفًا لورقه، وشدوًا لحروفه، وخريرًا لكلماته كما عهدناها كلّ يوم من مطلع الفجر حتّى مجيء الغسق..! خاب ظنّك يا أخي، وضلّ رأيك! فلا تحسبنّ قلمًا في يدي مات في مجاعة الأقلام الّتي ما تزال في هذا العهد تفتك بأكثرها منذ نزل القحط والجفاف في بلادنا، فنضبت المواهب، وجفّت القرائح! أو أنّ قلمًا في يدي كان بين الأقلام الكثيرة التي أودى بها طاعون عمواس بعدما عاد إلينا من جديد مع عواصف الجراد هذه المرّة ليحصد الأقلام، ويأكل الورق! .. لله أنت!… إنّ في يدي لو علمتَ عشرة أقلام تكتب! بل إن شئتَ يا أخي عشرات الأقلام تزاحم بعضها بعضًا خلف أبواب خيالي ليحظى أوّلها بالسبْق إلى أصابعي، وإنّ تحت لسان كلّ قلم منها بحيرة من مداد، وفي صدره آبار رحيق، ومن نبضاته تندفع أنهار عطر تجري إلى فمه على الورق.! أروّي بترياقه النفوس الجرداء…والعقول القاحلة…وأسقي من رضابه الأرواح العطشى في عهد حجزت السماء عن الأرض اندلاق المطر، فتقهقر الفكر بين الناس وتعثّر البصر! فما بالك بسماع جعجعة الطواحين وثرثرتها كلّ يوم، ولا نرى طِحنًا عندها سوى الزّوان والحسك! … ذاك قلمي نفحات صباي، وجمرات شبابي، ونفثات روحي، وشذرات فكري! دواته دمي! وورقه لحمي! ما زال أنهار شهد دفّاقة في يدي أهصر كلّ يوم أعناقها، وأعصر ألسنتها فتسيل منها محبّتي للناس صافيةً، ووفائي لوطني نقيًّا، ومن لسانه يطير صوتي إلى الدنيا من أجل قيام العدل والمحبة والسلام بين الناس في الأرض..! (2) كلّ ما في الأمر يا أخي ـــــــــ ولا تقل إنّ صاحبنا مبتلًى بسكرة من الزّهو والعُجب والكبرياء ـــــــ أنّ مشيئة الله وعنايته كانت أيقظتني فجأة ساعة كنت أغطّ في نوم عميق من إيماني وصلواتي، وشغفي بقريتي، وتهيامي بوطني وقالت لي: قمِ انهضْ! فنهضت من فوري فرأيت حصانًا صهّالًا من همّتي يقف إزائي! ثم قالت: قمِ امتطِ صهوة جوادك هذا، واشددْ لجامه إليك، وسرْ فوقه بعيدًا إلى حيث ترى هناك في ليل داجٍ على بعد ثلاثين عامًا قبسًا من نور وهّاج كنتَ أضأتَه بنفسك بمشيئتي قبل أعوام خلت، وانزعْ حجاب الضباب عن وجهه الوضّاء لترى تحته كنيستي التي بنيتَها أنت لمجدي، ولغرس أقدام الأبناء والأحفاد عميقًا في تراب الوطن الحبيب فلا يهاجرون.. ولا يرحلون، بل يبقون فيه شجرًا باسقًا مثمرًا جذوره من حديد لا تصدأ.. وثمراته مصابيح تتدلّى على غصونه لا تنطفئ! .. يثبتون فيه ولا يقتلعهم القادم من هزّات الأيّام وزلازلها حتّى لو استحالت الأرض تحت أقدامهم صفيحة نار وجمر ولهب..! أكملْ عِمارتها، ونحِّ أقلامك بعيدًا منك فلا يشغلنّك عن بنائها شاغل سبع سنوات متتاليات أعطيتُكَها فرصةً لنيل الأَرَب، وخذ من يدي هذا القلم الفريد واكتبها به للملأ أبلغ كتاب وأنفس سفر سطّره شاعر بحروف من حجر ! فقلت لأقلامي مودّعًا إلى حين، أيتها الأقلام! لا تجزعي لفراقي، انظري إليّ وشاهديني حيث أنت تحت هذه الدوحة الوارفة قريبة منّي أبدّل بنعمة الروح القدس ورقي بورق لا يبلى! ومدادي بمداد لا يجفّ.! وأحرفي بأحرف لا تُمحى.! وأحمل بيدي دونك قلمًا مِعطارًا ولا ككل الأقلام، وهبَتْنِيه السّماء، وقد تختّم بالعقيق، وتضمّخ بلمسة مقدّسة من لمسات الله وعدله، ويا قلّما ضمّته في الأرض أصابع كاتب أو يمين شاعر يومًا! أيّتها الأقلام الكئيبة لا تبوحي بسرّي للملأ! ولا تفزعي ممّا أقوله لك! ولا تتبرّمي أنني بدّلتك لوقت موقوت بقلم آخر! أنت أيّتها الأقلام لا تعلمين أنّني مكثت ثلاثين عامًا تُجرّع السّماء هذا القلم حبرًا من كوثر.. وأحرفًا من شهد.. وكانت تُعدّه أعوامًا طويلة لكتابة هذا الصرح المِشماخ لتزهو به البلاد وتفخر! ذلك صرح مقدّس مكثتُ زمنًا لأجله ناسكًا.. كان كفاف يومي الملح والماء في صومعتي، قضيته جاثيًا على ركبتي أمدّ ذراعي إلى السّماء في ليل حالك، صائمًا أصلّي بلا انقطاع إلى أن أومض البرق، ولمع عدل الله من فوق فجأة كما رأيتِ، وألقى في يدي هذا القلم الريّان بالإيمان لأدوّن به أنفس ملحمة لم يُلهَمْها شاعر! ولأكتب به أبلغ كتاب لم يكتبه أديب منذ وُلد القلم! هوذا قلم سطّرت به كتابًا أبلغ كتبي، وأنفس ذخائري، كتبته لا بحبر ومداد ، ولا بلغة ذات حروف وكلمات، ولا على أسطر من ورق! بل كتبته بنعمته تعالى بأحرف من حجارة حمراء استخرجتها من أرحام الجبال في وطني، وعلى ورق من تراب آبائي، وعلى أسطر الصخر المطعّم بعناد أجدادي، وفوق القمّة العصماء من عزمي وصبري وإيماني! … ليست هي بيتًا من بيوت الله في الأرض! فالله لا يسعه الكون كلّه ليكون بيتًا له، بل هي شعلة وهّاجة سقطت من نور السماء على الأرض لا تنطفئ، حطّها الله بتدبيره ككل بيوت العبادة لدى أبناء البشر في المسكونة، كي يستنير المؤمنون منهم بأنوار هذه البيوت ، ويطهّروا نفوسهم من خطاياها ، ويرفعوا فيها أصواتهم لله بإيمان وخوف ورعدة، في بشريّة مسكونة بعبادة المال، وتحيا يومها على القتل والجريمة والاستبداد، وتحتاج أن يكون الله حاضرًا في قلب كلّ واحد من أبنائها كي يجعلوا “سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل” فيظلّل السلام والمحبّة والرحمة والعدل سائر الشعوب في أرجاء العالم..! كتبتها بالحجارة الحمراء التي يجري في عروقها لون دم الشهداء القدّيسين ممّن كانت قطرات دمائهم بذارًا لانتشار تعاليم السيّد المسيح له السجود في أرجاء المعمورة! فخرجتْ ببنائها تكاد أن تكون أعجوبة من أعاجيب الجمال في الأرض، بهجة الناظر ومتعة الزائر.. كتبتها بحيطانها المنمّقة بنوافذها البيضاء المنمنة، والأبواب المزخرفة والأعمدة المقعّرة، والتيجان المشجّرة ، والقباب المذهّبة ، والسطوح المقرمدة، والأفاريز المفلّجة، والفسيفساء المنضّدة ، وصفائح الزجاج المعشّقة، والأيقونات المقدّسة مع صنوبرات نيّرات لقناديلَ معاقيلَ في الحائط لألاءةً، والثريّات النيّرات الصّاعدات النازلات المضيئات في سمائها، والأقواس المفوّفة، وصفائح الرخام المسقّفة فوق ساكف بابها المحلّى بالكتابات المقدّسة، وسرب أجراس نائمة في برجها العالي تستيقظ فجأة على رجع الصلوات، والابتهالات، فتصدح عنادلها جذلى بألحانها الشجيّة، مسبّحة رب القوّات السرمديّة، إلى غير ذلك من مناظر في هذه الكنيسة وصور تقصّر عن وصفها لغة من لغات الإنس والجنّ في هذا العالم.. (3) …وإن أنسَ لا أنسَ يوم كنت أطوف فيها بين البنّائين والصُنّاع والفعَلة ــــ وما أكثرهم ــــ كان يأتي كلّ صباح شيخ عجوز ناحل الجسد، وقد غارت عيناه تحت سنابل حاجبيه، يطوف في الموضع وينظر بطرفه اللمّاح هنا وهناك، ويكتب في دفتره ما تمليه عليه مشاهد هذا الصرح العظيم، وإذ كنت أجهل الرجل سألته مرّة فقال مبتسمًا: يا “ذا الجدّين” أنا التاريخ ولا تخش شرًّا! أنا لست كأكثر إخوتي الذين يشهدون بالزّور، ويصبغ واحدهم الظلام بالنور، والنور بالظلام!.. ودليلك إلى صدقي أنّ الطاغوت وقف لي في مدخل الكنيسة لكنّه لم يستطع أن يصدّني عن الدخول إلى هنا!. أنا من أنا !.. أنا من يدوّن للأجيال بصدق أخبار قلّة من أولئك الناس في هذا العالم ممّن يحمل واحدهم صليبه، ويدقّ المسامير في رجليه ويديه بنفسه راضيًا بعذابه من أجل مجد الله وخدمة الإنسان والوطن! أولئك الذين أنكروا ذواتهم، وقضوا حياتهم سجناء محبتهم لأوطانهم! أعلم أنّك “دخلت من الباب الضيّق”… وحملت كلّ حياتك صليبك ثقيلًا مسافة أعوام طوال، وبذلت لأجله من التضحيات الجسام ما يبقى سرًّا مكنونًا في ذاكرة أعمدته، ومكتومًا في ألسنة حجارته!. وما أوفاهم وأعظمهم! إذ شاهدت سمعان القيروانيّ نفسه في كلّ فرد من أهل بيتك يحمل الصليب معك، ويبذل نفسه لأجل هذا البيت المقدّس! إنّ فمي يغصّ بالكثير من الكلام لأقوله لك عنك ممّا رأيت وسمعت، فافرح وتهلّل! ليس في الوطن كلّه من هو أحقّ منك بالفرح! تعزّ واذكر دائمًا أنّ بعد كلّ طريق آلام قيامةً.. وبعد كلّ ضيق خلاصًا، وأنّه ” على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها “… ولا الطاغوت ، ولا “رجسة الخراب” “ولا الرؤساء والسلاطين وأجناد الشرّ الروحيّة” في هذا العالم ! قلت له: مَدّ الله من أجَلك أيّها الضيف المفضال، لست أنا كما ذكرتَ، بل أنا بين من عناهم السيّد المسيح حين قال : “كذلك أنتم أيضًا ، متى فعلتم كلّ ما أمرتم به فقولوا : إنّنا عبيد بطّالون، لأنّنا إنّما عملنا ما كان يجب علينا” ( لوقا 17ــــ 10)… لا تحسبنّ أيها الشيخ الجليل أنّ قيمة هذا الصرح تُحسب بفخامته وأبّهته كما تراها، بل إنّ ما تراه عينك من جمال نادر في هذه الكنيسة لا يكتمل إلّا بالخطاة الآتين إليه للتّوبة عن الآثام والزلّات، وأنا واحد منهم ! ليصدّوا عنهم وثبات الشّهوات، ونزوات النزعات بالتألّه، والندم وقصاص النفس، والصوم والصلاة بلا انقطاع! وليدخلوا من أبوابه وقلوبهم أبواب للملائكة والقدّيسين! ودون ذلك لا يكون واحدهم سوى من يبذر الرمل ليحصد السنابل، أو سائحٍ غريب جاء ليمتع نفسه بمناظره الخلّابة ومشاهده الآسرة وعن قليل يغادر..! (4) …ويوم أتممت السعي، وكان أسعد أيّام عمري، وأحبَّها لدى أبناء أسرتي، وكنت وضعت آخر حبّة رمل في هذا الصرح العظيم، وكانت آخر حرف كتبته في كلمات هذا السّفر النفيس، وإذ هممت بالعودة إلى نفسي لأطلقها من سجنها بعد غياب طويل قضته في غياهبه، وقد شفّني الشوق إلى أقلامي حيث تحت تلك الدوحة تنتظرني سبع سنوات، رأيت ذلك الرجل العجوز يقف إزاء الحائط ويكتب هناك بإلهام علويّ على إحدى الصفائح، وأنا أسمع هاتفًا من السماء يملي عليه ما يكتب.. وما ذلك إلّا ليقرأ بعضَ تاريخ هذا الصرح العجيب كلُّ زائر يأتي إليه من قريب ومن بعيد..! وإذ كنت لحظتئذ في أشدّ ما لقيته طوال عمري من حرّ الفرح، ووهج المسرّة، وقد نفّضت عنّي كلّ كآبة، وما خلّفته العواصف وراءها من آثار وغبار كثيف في قلعتي تحت أضلعي نفسي المنيعة! وكانت السكينة تخرس كل صوت، والصمت يمنع كلّ حركة، والرياح هاجعة في قيلولتها تحت ظلال الشجر في تلك الغابة الخضراء على سفح الجبل من قريتي، أقبلتْ فجأة إليّ من هناك ريح خفيفة عبّاقة بعطرها الشذيّ، وقد استفاقت من فراشها، وجاءت ترفرف أمامي وتدور دورات متتالية حولي ولا تتوقف! ولم تشأ أن تبرح المكان لحظة واحدة! عرفت للوقت بغيتها فعاجلت ووضعت في لسانها نداء قلبي كي تحمله عنّي للملأ، وتنادي به بلسان سليط في فمها لا يستطيع أيّ سيف أن يقطعه : ” أيّها الأحبّة الذين أتمثّلكم من هنا تحملون نعشي على رؤوسكم يومًا! لا تنسوا ساعة تلقون برفاتي في أعماق القبر هناك في ذلك الموضع، أن تصغوا إلى صوتي يشقّ التراب إليكم قائلًا: يا أبناء أسرتي الحبيبة التي حمل فوارسها معي على أكتافهم إلى هنا هذه الأمنية الثقيلة مسافة أميال طويلة من الأعوام! ويا قريتي ووطني الحبيبين: ما أسعدني في قبري! وما أطول حياتي في موتي! هي ذي الكنيسة المقدّسة هديتي النفيسة أقدّمها لكم، ولأجلها أهلكت حياتي، وبذلت عمري قبل هذا الغياب! فاذكروني في صلواتكم دائمًا، ولا تنسوا أن تذكروا معي دائمًا قلمي النائم معي هنا في أعماق التراب! كفرسميع
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
فی الأرض
فی هذا
إقرأ أيضاً:
بوراص: درنة تكتب فصولاً جديدة من الأمل
أشادت عضو مجلس النواب ربيعة ابوراص، بعمليات إعادة الإعمار والتنمية التي تشهدها مدينة درنة.
كتبت على فيسبوك اليوم خلال تواجدها بفندق اللؤلؤة بدرنة “من رماد المحن تكتب فصولاً جديدة من الأمل درنة”.
كان مجلس النواب دعا إلى جلسة اليون الإثنين بمدينة درنة، لمناقشة بعض القوانين ومن بينها مسروع فانون المصالحة.