لماذا يمضي الوقت سريعا كلما تقدمنا في العمر؟
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
يتضح لنا جميعا أن الشعور بالوقت هو مسألة معقدة نسبيا، وتختلف من فرد لآخر ومن مرحلة لأخرى، وإن اتفقنا أن الزمن يتسارع كلما تقدمنا في العمر.
وقد أظهر استبيان قام به كل من مارك ويتمان وأندرا لينهوف المتخصصان في مجال علم النفس بجامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونخ عام 2005، وشارك فيه 499 مشاركا تتراوح أعمارهم بين 14 و94 سنة، أن كبار السن كانوا أكثر ميلا إلى الإحساس بأن الوقت كأنه "يطير"، وأن تجربتنا مع الوقت تختلف باختلاف ما نقوم به وكيف نشعر به، ولكن لماذا يتسارع الوقت كلما تقدمنا في العمر رغم أن ساعات اليوم كما هي؟
الساعة الداخلية للدماغاختلف علماء النفس في إجابة هذا السؤال، وقدموا العديد من النظريات والتفسيرات، وأظهرت ورقة بحثية نشرت عام 2019 أن الزمن الفعلي للساعة يختلف عن الوقت الذي يدركه العقل البشري "زمن العقل" والذي يرتبط بسلسلة من الصور والمدخلات البصرية والتغيرات البيولوجية، وأشار البحث إلى أن قدرة الأفراد على معالجة المعلومات البصرية تتباطأ مع التقدم في العمر وبالتالي يتسارع الوقت من منظورهم.
وربطت دراسة قادها دكتور آدم أندرسون بجامعة كورنيل الأميركية، ونشرت في مجلة علم النفس الفسيولوجي 2023 بين إدراكنا للوقت ومعدل ضربات القلب، وطلب الباحثون من المشاركين تقدير مدة الاستماع إلى نغمة صوتية مختصرة بعد تزويدهم بمخطط كهربية القلب، وتبين أن النغمة بدت أطول مع ضربات القلب السريعة على عكس ضربات القلب البطيئة، لذا ليس غريبا أن يشعر الأطفال ببطء الوقت، إذ تتسارع عادة دقات قلوبهم.
تأثير العمر على تقديرنا للوقتوقدمت دراسة من جامعة أيوتيفوس لوراند المجرية 2023 تفسيرا آخرا لهذا اللغز وهو أن الوقت يمر ببطء عند الأطفال مع الأحداث المثيرة للاهتمام، ويحدث العكس عند البالغين، وقام الباحثون بتقسيم المشاركين إلى 3 فئات عمرية، المجموعة الأولى من 4 إلى 5 سنوات، والمجموعة الثانية من 9 إلى 10 سنوات، ومجموعة للبالغين من عمر 18 فأكثر.
وعُرض عليهم مقطعان من الفيديو مدة كل منهما دقيقة واحدة، أحدهما كان مليئا بالأحداث المثيرة والآخر كان رتيبا وخاليا من الأحداث، وعند سؤالهم أيهما أطول كشفت إجاباتهم عن تأثير مذهل للعمر، فقد أجاب معظم الأطفال أن الفيديو المليء بالأحداث هو الأطول، في حين بدا الفيديو الرتيب أكثر طولا بالنسبة لمعظم البالغين.
وينقل موقع (إنسايدر) عن هايلي نيلسون المتخصصة في علم الأعصاب والسلوك قولها "إن اللدونة العالية في أدمغة الأطفال تساعدهم على تكوين روابط عصبية جديدة وتكوين ذكريات تفصيلية للأحداث".
وتوضح نلسون أن العالم في مرحلة الطفولة يمثل مكانا جديدا ومليئا بالتجارب وكل حدث يمثل مغامرة بالنسبة للطفل، وبالتالي يكرس قدرا أكبر من قوة الدماغ لمعالجة وتشفير هذه المعلومات الجديدة باستمرار، ولهذا يمر الزمن بطيئا مقارنة بالبالغين العالقين في الروتين ورتابة الحياة بعد أن أصبحوا أكثر دراية بكل التفاصيل وغارقين في مسؤوليات العمل والمنزل والأسرة.
الوقت من منظور استرجاعي يكون أبطأوتضيف نلسون أن الأمر يتعلق كذلك بنظرتنا للماضي من منظور استرجاعي، إذ ينشط الدماغ عندما يواجه أحداثا مهمة مثل الفشل في اختبار القيادة أو السفر مع شريك الحياة لأول مرة، وعندما نتذكر هذه الأحداث تظهر لفترة أطول وبشكل تفصيلي بالرغم من أن الحدث قد يبدو قصيرا أثناء حدوثه، والزمن لم يكن أبطأ حينها.
وبحسب نلسون، تسهم المشاعر القوية مثل القلق والخوف والرهبة في إبطاء الوقت، ويؤكد ذلك دراسة أجرتها جامعة بواتييه الفرنسية عام 2011 حول تأثير الحالة العاطفية على إدراكنا للوقت، عرض علماء النفس على الطلاب مقتطفات من أفلام رعب، وطلبوا منهم تقدير مدة التحفيز البصري، وتوصلت الدراسة إلى أن الخوف يؤثر على إدراكنا للوقت ويؤدي إلى تسريع معدل الساعة الداخلية للعقل، ويبدو الزمن وكأنه لا يمر.
وتوضح سيندي لوستينج، أستاذة علم النفس بجامعة ميشيغان لموقع (هاف بوست)، أن أدمغتنا تميل إلى تجميع الأشياء والأحداث المتشابهة معا في مكان واحد، ويصبح من الطبيعي لشخص يبلغ من العمر 65 عاما ويفعل الأشياء نفسها كل يوم أن يتزايد إحساسه بتسارع الوقت، لأن أحداث السنة بأكملها يتم تجميعها في جزء صغير جدا من الدماغ، وهذا بخلاف التجارب الحياتية الجديدة والمتنوعة التي يقوم الدماغ بترميزها في الذاكرة وعند استدعائها في وقت لاحق تبدو وكأنها فترة زمنية طويلة.
وفي مقال له على موقع (ذا كونفرزيشن) يوضح المحاضر في علم الأحياء الرياضي بجامعة باث البريطانية، كريستيان ييتس، سببا آخر لهذه الظاهرة وهو الطبيعة النسبية للوقت وأنه كلما تقدمنا في العمر فإن الإحساس بالزمن يتضاءل، لأنه يمثل نسبة مئوية بسيطة بالنسبة لحياتنا كلها.
وبحسب هذه النظرية، فإن السنة بالنسبة لطفل عمره 3 سنوات تمثل ثلث حياته، غير أنها تمثل 2% فقط عند 50 عاما، وهذه النظرية طرحها الفيلسوف الفرنسي بول جانيت لأول مرة عام 1897 وتعتمد على إدراك الزمن بما يمثله من إجمالي حياتنا.
كيف نحافظ على إدراكنا للوقت؟ حل الألغاز: تعزز وظائف المخ مما يساعد على إدراك ثابت للوقت. التجارب الجديدة: يعتمد إدراكنا للوقت على عدد التجارب الجديدة. تمارين التنفس البطيء: تحافظ على المعدل الطبيعي لضربات القلب. الاهتمام بالجوانب النفسية والاسترخاء باتباع أنماط غذائية صحية وانتظام ساعات النوم.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: التجارب الجدیدة ضربات القلب
إقرأ أيضاً:
لذا لزم التنويه: الزمن في السجن (4-8)
"أضعُ علامة جديدة على الحائط، لأنهي شهرا بانتظارٍ آخرفي الحائطِ متسعٌ لمنتهى العمر.. عاما بعد عام
الحوائط -أصلا- لا تعبأ بالحياة، تماما كما لا يعبأ السجان
أما النفسُ فقد ضاقت بالعلاماتِ.. بالحوائط.. وبالانتظار"
ليس أحمق من بدء رحلتك السجنيّة بحساب الوقت، تلك العلامات على الحائط ستبقى ندوبا في روحك، حتى بعد خروجك، وإلى أن تموت، لن تنصلح علاقتك بالوقتِ وقد ظللت تحسبه يوما فساعة فدقيقة، بانتظارِ أن تخطّ خطا جديدا على حائط زنزانتك، لن تسامحه و-ربّما لن تسامح نفسك.
وليس أحمق كذلك من التخلّي عن الانتباه للوقتِ والوعي به، حفرةٌ هائلةٌ تترقّب ابتلاعك حينها، في لحظتك المناقضة لكلّ ما هو حيّ/حيوي أو إنساني، عليكَ أن تنتبه دون أن تسقط، عليكَ أن تعي -ربّما- حتى تستطيع التحايل. فالزمن السجنيّ ليس مجرّد معيار، إنّما معركة قائمة/مستمرّة بين حفرة اللحظة، وبين الماضي ذاكرة والقادمُ أحلاما، وكلّ احتيالٍ تقوم به سيكون جسرا يعبر بك إلى العالم والحياة والحريّة ولو لـ لحظات.
الزمنُ في السجن أزمانٌ، أو على الأقلّ هو زمنٌ مركّب: زمنٌ مسلوبٌ وآخر داخليّ مقاوم أو منكسر، وثالثٌ كنصٍّ يُعاد تأويله بعد قراءته مع كلّ رسالةٍ أو زيارةٍ أو خبر
الوقت في السجن ليس محايدا، بل هو سلطة، أداةُ قمع، ومعركةٌ دائمة. ويكفي -بحسب فوكو- أن يُنتزع منك الحق في إدارة وقتك حتى تُنتزع إنسانيّتك بالتدريج، لا يحتاج الأمر إلى أسوار وأبواب ليحدث، فما بالك وكلاهما واقعٌ في حياتك السجنيّة؟ بين عشرات الجدران الأسمنتيّة الخرساء، وعشرات الأبواب الحديديّة الصدئة، تحدّد السلطةُ -حسب قوانينها أو حسب مزاج المختلّ صاحب القرار- متى تستيقظ ومتى تأكل ومتى تنام ومتى تتحرّك و-ربّما- متى تموت.
هي لا تسجن جسدكَ وحده حين تفعل، إنّما زمنك كذلك، وسجن الزمن ليس فقط أشدّ قسوة، إنّما أكثر قدرة على الإرباك، وإحداث الزلزلة فيما رسخ بنفسك وذهنك.
في السجن ليس ثمّة زمنٌ واحد، هناك زمنٌ آخر تحت الجلد وفي الدماغ أو الروح، زمنٌ داخليٌّ أشدّ بطئا وثِقلا من ذلك الآخر الدائر في تعاقب الليل والنّهار. إنّه ذلك الزمن الحيويّ الذي لا يدور مع عقارب الساعة أو يُنزع مع أوراق التقويم، بل تقيسه دقّات قلبٍ وتخلّجات جلد وتقلّباتُ نفس، دقيقةُ الانتظار تمتدُ فيه عمرا، ولمسةٌ في الزيارة تطولُ لتملأ أسابيع ما بين زيارتين.
والزيارةُ ليست ذلك اللقاء الذي يجرب تحت أعين الضباط والمخبرين وأجهزة التسجيل فحسب، بل هو نصٌّ مليءٌ بالعلامات وكل نصّ يفتح أبوابا للمعنى تمتد بعيدا عن الحوائط والقضبان: كلّ كلمة عابرة، نَفَس روتينيّ، رعشة شفاة، أو تشتّت فكرٍ ونظر.. يُعاد رسم الزمن حولها -كما الأفكار والهواجس- فتطول وتقصر حسب ما تحمله من أملٍ أو خيبة.وسطر في الرسالة قادرٌ على "شقلبة" عالمك لأيّام: تؤوِّلُ الكلمات، تستنبط النبرة والصوت، تفتّش عمّا لم يُقل وتفسّر ما لم يُبيّن، تقرأ الفراغات بين السطور قبل أن تقرأ الكلام المكتوب ذاته.
والزمنُ في السجن أزمانٌ، أو على الأقلّ هو زمنٌ مركّب: زمنٌ مسلوبٌ وآخر داخليّ مقاوم أو منكسر، وثالثٌ كنصٍّ يُعاد تأويله بعد قراءته مع كلّ رسالةٍ أو زيارةٍ أو خبر.
هكذا تصبح الرسالةُ براحا متحايلا، وشعاع حريّةٍ أو جسر عبورٍ مؤقّت إلى رحابة العالم من ضيق الزنزانة، وإلى الوقت الحيّ من مواقيت السجّان القسريّة.
والزيارةُ كذلك لا تعودُ مجرّد لقاءٍ جسديّ مؤّقت، بل طقسُ مقاومة، و"وعاء ادّخار" للمشاعر كما للجسد وللذاكرة كما للروح، يتجسّد فيها زمنك الداخليّ: عناق لحظةٍ يروي عطش أسابيع الحرمان، ونظرة واحدة تختزنُ عونا على ألف يومٍ من الغياب؛ الزيارةُ تعيد تشكيل الزمن، وتكسر إيقاع السجن المفروض.
حتى التريّض (ساعةُ الشمس في السجن) التي رأى درويش استحقاقها لأن تُذكر ضمن ما تستحقّ الحياة لأجله على هذه الأرض، يتحول إلى فسحة دلالية: خطى قليلة بين جدارين قريبين، تصبح إبحارا كاملا إلى ذكريات العمر جميلها وثقيلها، أو إلى مستقبلٍ تخلقه متجاوزا لإمكانات الواقع والجسد في خيالك الذي لا يُسجن.
هكذا يصبح السجن ليس موتا للزمن بالضرورة، كما يريد منه أن يكون، بل مولدا لأزمنةٍ جديدة: زمن الذاكرة، زمن الحلم، زمن التأويل، زمن الحب.. والوقت الذي كان سلاحا بيد السجّان، نصنع منه نحن جسورا صغيرة، ضيقة، لكنها تقود إلى عالم كامل من الحياة والحريّة
في مواجهة زمننا السجنيّ، نبتكرُ جسورا أو ثغرات "ربّما ننفق العمر كي نثقب ثغرة ليمرّ النور للأجيال مرّة"، لكنّنا نفعل هذه المرّة ليمرّ النور والحريّة والحياة -ولو مؤقّتا وجزئيّا- لنا نحن.. جسور من أحلام مؤجّلة، من رسائل سوّد الكثير من سطورها حبرُ الرقيب، من زيارات تخرقُ الزمن ولو خرقتها أعين الضبّاط والمخبرين، من تريّضٍ يُستعاد فيه الجسد ولو لدقائق، ولو في الخيال المتفلّت من الرقابة والقمع.
ولأن فوكو علّمنا أن الزمن المراقب يخلق أجسادا طيّعة، فإن جسورنا ليست مجرد عزاء، بل مقاومة.. ولأن برغسون أهدانا فكرة الزمن الحي، فإن كل لحظة أملٍ -مهما خفت نورها- تمتد كالعروق تحت تراب الأسى.. ولأن بارت نبهنا إلى أن كل نصّ مفتوح على تأويلات لا نهائية، فإن كل رسالة وزيارة تصبح وثيقة حرية مكتوبة بالحبر الخفي للصبر.
هكذا يصبح السجن ليس موتا للزمن بالضرورة، كما يريد منه أن يكون، بل مولدا لأزمنةٍ جديدة: زمن الذاكرة، زمن الحلم، زمن التأويل، زمن الحب.. والوقت الذي كان سلاحا بيد السجّان، نصنع منه نحن جسورا صغيرة، ضيقة، لكنها تقود إلى عالم كامل من الحياة والحريّة.
سيأتي يومٌ -ولو بعُد-
تعالجُ ضمتُنا فيه كلَّ ما اعتَرَانا،
تسيلُ دمعاتُنا المؤجلات، وداعا لمن فُقد،
ننتشي بالشعر، بالأمنيات، بالحياة.
أنشغلُ عنها بصحبةِ موسيقاي وكتبي،
وتنشغلُ عني بتخيّل طفلٍ تأخرَ مجيئه.
ننحشرُ في مطبخٍ صغير، نعدُّ وجبة نحبها،
ولا يفيقنا من (قبلةٍ اعتراضية) إلا رائحة الشوّاط.
ننتفضُ في حضرةِ فلسطين، بتوقٍ وحنين.
نتأسّى على ثورتنا المغدورة،
نرفضُ الكراهيةَ والقبح،
نُكملُ الحلم، ونُكملُ الحياة.