نور بنت محمد الشحري
لستُ من الذين يكتبون مواكبة للأحداث السائدة أو مع المواسم الرائجة للأخبار المتداولة، إن قرأت لأحدهم ما يتوافق مع مكنون صدري، أو أفق فكري، أكتفي بما كتب، ولا تدفعني قريحة أو اهتمام لأضع بصمتي مع المهتمين للحدث.
إلّا أهل غزة، لأني أرى وكأنهم أناس من عالم آخر مختلف عنا، يجبرك ما تشاهده وتحسه من تفرد جميل في كل شيء منهم، أن تكتب عنهم إجلالا وإعجابا وإكبارا، ولا يفيهم نضم المعلقات حقهم، شعب ليس كغيره من أهل الأرض.
فلا شيء من أحوالهم يماثل حال غيرهم.
تمعنت كثيرًا فيما يتداول من مقاطع مرئية على شاشات التلفاز أو تطبيقات الهواتف النقالة، في وجوههم ونظراتهم وكلماتهم ومفرداتهم، وهم في أشد ظرف وأحلك وقت.
لم أرَ وجوههم مخطوفة، ولا نظراتهم تائهة أو مكسورة، ولا خطواتهم مضطربة، ولا هيئتهم رثة، ولا شعورهم شعثاء كبارهم وصغارهم.
إنه التعود الذي ولد التأقلم، اليقين الذي ولد الثبات والتمكين لمعايشة أهوال الحرب وكأنها مجرد حدث طارئ سيزول يقينا لا أملا.
ذاك الخطب الجلل الذي تشخص له الأبصار، وترتعد له الفرائص، وتخطف له العقول.
ما الذي آمن روعاتهم، ما الذي ثبتهم وهم يسعفون ذويهم واحبابهم ولا يعلمون احياء هم أو أموات، وهم يجمعون اشلاء أطفالهم.
إنه اليقين بالله، ملأ حب الله قلوبهم وتعلقهم بالله خفف عنهم مرارة الفقد، وعذابات الحرب ودك القذائف، ووابل الرصاص. لقد منحهم الله رزق أمان الروعة وما أعظمه من رزق اثناء الخطوب وأهوال الحروب.
نحن البعيدون عنهم، القريبون منهم شعورًا بالمصاب، اسودت الدنيا بالكثيرين منا، هلعنا وأصاب الكثير من ابناء الأوطان العربية، شعور حزن جم، أفقدهم الشعور بملذات الدنيا وأمان أوطانهم.
لربما كل حسب رضاه عن نفسه، الفلسطيني يعلم يقينا بالله أن ما أصابه كله خيرا له، وأن حظه مما يلاقيه من عدوان الصهاينة وتجبرهم وظلمهم، وخذلان المسلمين وتخليهم عنهم، جبر بالأخير، إما نصر وإما شهادة. ثم أن صاحب الأرض ليس كصاحب القضية، أرض الأجداد مداد من صبر، جرعات من عزيمة، عنوان الطهر.
نحن أصحاب القضية، بعيدين عن تسلط اليهود، عن التخويف والتجويع والتهجير والأسر والقتل والتيتم والترمل وفقدان الأهل والولد وتشتت الأسر، عن تدنيس اليهود للأرض.
الأرض التي يدنسها العدو لا يطهرها الا دماء ابنائها، الفلسطيني يعلم ذلك ويدركه يقينا، تهون عليه روحه، يهون عليه أرواح احبته فداء لأرضهم.
يعلمون أن المهجر والغربة ذل، والوطن عز، والغاصب لا يستحق أن يفسح له، وهو عدو دين وعدو مقدسات وعدو انسانية.
علت سلطة الاعلام الرقمي، على سلطة الحكام والدول، ما كان يخفى في سالف الأجيال والعقود الماضية، صار اليوم بفضل التقنية الرقمية خير شاهد عيان، لا مكان للتزوير والتدليس ولقلب الحقائق.
عرف الجلاد وعرفت الضحية، عرف الإرهاب، وتعرت منظمات حقوقية دولية، تعرت هيئات الاتجار بالبشر عبر قوانين وضعية، وضعت لتؤطر الشر على أنه اتفاقات دولية، يلزم بها الضعيف ويحتملها، يصادر خيره ويضطهد بحجة مخالفتها. والقوي يخرقها كيفما يشاء وقتما يشاء بالكيفية التي يشاء، إذا اراد سلب الضعيف حقا من حقوقه دون وجه حق.
لم يقصر شباب الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم في ايصال الصورة الحقيقية لفلسطين ومجريات الأحداث فيها، ما حصل خلال حرب -انتفاضة الاقصى- قلب على الصهاينة واللوبي الداعم لهم موازين القوى، ثارت الشعوب منادية بحق الفلسطينيين في العيش الكريم احرار في وطنهم، ومنادية بمحاسبة اليهود وقوتهم العسكرية الغاشمة.
هل توقفت الحرب؟!
"ما أخذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة".
والقوة كتلة يدعمها الصبر والايمان بالله ونصره، نرى ذاك الرجل الذي فقد ابنه بعمر الثامنة عشر يقف بين الجموع كالطود الشامخ، وينهر الباكي ان لا يبكي على من فقد (متعيطش يا زلمة) الشهيد بيشفع لسبعين من أهل بيته كرهان؟! يا لها من كلمات تتضاءل أمامها توافهنا التي كنا نظنها منغصات عيش.
نرى الصحفي وائل الدحدوح فجع بعائلته يواسي نفسه والمفجوعين من حوله بكلمة (معليش) "معليش" تحمل الكثير من الحزن والقهر الذين وضعهم في كفة وغزة في كفة ورجحت كفة غزة.
رأينا الكثير من الدم والموت، وسمعنا الكثير من الصراخ والبكاء المهذب مع الله، الذي يتردد بين ثناياه الحمدالله يقينا أن ما عند الله خير وأبقى.
رأينا أمهات كبار بالسن فقدن ابناءهن وبناتهن وربما اسرهن بالكامل، وما رأينا الا العجب العجاب من ثبات وصبر وتصبر، على الرغم من أن الفقد بالتأكيد تكرر عليهن، بحكم العمر وما يعانيه الفلسطينيون منذ سنة النكبة، ولكن ذلك ما زادهن الا صبرا وعزما لدعم مقاومة المحتل، أثابهن الله ومسح عن قلوبهن ألم الفراق وقهر العدو.
رأينا أطفال غزة كبروا وشابوا قبل أقرانهم في العالم بسنوات عدة، رأينا اطفال يحضنون اخوتهم لتهدئة روعهم بعد القصف، رأينا أطفال يلقنون اخوانهم الشهادة بكل ثبات.
ومن كل مشاهد الحزن المبكية مشهد "روح الروح" وكأنه سكين في صدر كل من أحس بألمه. الرجل الذي من شدة ثباته، يحمل حفيدته الطفلة الجميلة المتوفاة يحضنها ويقبلها كأنها نائمة بين ذراعيه، ويقول هذه روح الروح ويفتح عينيها بيديه في نظرات وداع مؤلمة، لا يعرف ألم شعوره وهو يودع عيناها ويقبلها الا من فقد بالموت عزيز يوده ويحبه، أشد ما آلمه عند الرحيل وداع النظرات المحبة الدافئة التي لن يرى بريق حبها أو يشعر بدفئها مرة أخرى وللأبد.
يودعون أحبتهم بكل ألم وصبر، ولسان حالهم لدينهم وعقيدتهم ومقدساتهم جهادنا في سبيل النصرة لله وللحق عن كل حزن ودمع يشغلنا، والملتقى بالأحبة في الجنة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رحم الله الدكتور محمد خير الزبير الذي إرتحل اليوم إلى الدار الباقية
مضى إلى الدار الباقية
رحم الله الدكتور محمد خير الزبير الذي إرتحل اليوم إلى الدار الباقية وأخلف الله على أهله وأحبابه وإخوانه ووطنه من بعده بخير كثير
*مصابيح التنوير شخوص ورموز
الدكتور محمد خير الزبير
ولد محمد خير الزبير في شمبات ، ولد في العام 1945 ونشأ بها ودرس مراحله الاولى بشمبات. التحق بجامعة الخرطوم كلية الاقتصاد ونال بكالريوس الإقتصاد في العام 1968
دكتوراة الاقتصاد – جامعة ويلز – المملكة المتحدة 1983م .
ماجستير الاقتصاد المالي جامعة ويلز – المملكة المتحدة 1976 .
بكالوريوس الاقتصاد والعلوم الاجتماعية – جامعة الخرطوم 1968 . عمل بوزارة المالية قسم التخطيط الإقتصادي وابتعث في دورة تدريبية
إلى معهد التنمية الاقتصادية – نايلي – ايطاليا لمدة ستة اشهر حول التنمية و التخطيط الإقتصادي. ثم دورة تدريبية في التخطيط في مصر في العام 1973في معهد التخطيط القومي.
بعدها ابتعث في العام 1973 – 1975 لفترة دراسية للتحضير لدرجة الماجستير في الاقتصاد المالي – جامعة ويلز- المملكة المتحدة. وعاد للعمل بوزارة المالية بادارة القروض والمعونات الأجنبية في الفترة من 1975الى1979 ثم
وتسنى له أن يواصل في ذات جامعة ويلز 1979 – 1983 للحصول على درجة الدكتوراة في الاقتصاد المالي فحصل عليها من ذات الجامعة جامعة ويلز-المملكة المتحدة ثم عاد للمالية وبعث بعدها لتلقي دورة
في معهد القانون الدولي – واشنطن – الولايات المتحدة الأمريكية حول مفاوضات الاستثمار في العام 1979 وعاد يعمل بالمالية بالتخطيط الإقتصادي ثم حصل إبان ذلك على دورة تجريبية في معهد هارفارد للتنمية
الدولية – جامعة هارفرد بوسطن.
وعين مديرا لأدارة لأدارة العون السلعي في 1983 ثم مديرا القروض والمنح الخارجية في العام 1986. وشغل منصب وكيل أول التخطيط في الفترة 1988الى1993 وأعتذر عن وكالة وزارة المالية بعد الإنقاذ في العام 1990
ثم عين في1993 – 1996 وزيرا للدولة للتخطيط – وزارة المالية والتخطيط الإقتصادي عمل بعدها في العام 1996 – 1998 رئيسا لمجلس الإدارة – ومديرا عاما امؤسسة التنمية السودانية واعيد تعيينه وزير دولة للمالية من 1998الى 2001 ثم عين نائبا لمدير بنك الساحل والصحراء( بنك إقليمي رئاسته في ليبيا) من 2002 حتى 2009.
وعين في مارس 2011 رئيسا لمجلس ادارة ومحافظ بنك السودان المركزي . وأعيد محافظا مرة أخرى في سبتمبر في العام 2018. وكان شغل بحكم المنصب رئاسات. وعضوية مجالس أدارات
منها رئيس مجلس ادارة مطابع السودان للعملة
رئيس مجلس ادارة شركة السودان للخدمات المالية
رئيس مجلس ادارة اكاديمية السودان للعلوم المصرفية
وكذلك على المستوى الإقليمي شغل منصب العضو بمجلس ادارة الاكاديمية العربية للعلوم المصرفية بالاردن
والمحافظ المناوب بالبنك الاسلامي للتنمية جدة
وعضو مجلس ادارة شركة سكر كنانة
وعضو مجلس الخدمات المالية الاسلامية بماليزيا وعضو مجلس إدارة الهيئة العربية للإنماء والاستثمار الزراعي .
وعضو مجلس إدارة الشركة العربية السودانية للزيوت النباتية .
عضو مجلس إدارة الشركة العربية السودانية للزراعة الآلية بالنيل الأزرق .
وعضو مجلس إدارة الشركة العربية السودانية للإنتاج والتصنيع الزراعي
محافظ السودان وشارك بحكم عمله محافظا لبنك السودان في اجتماعات و مؤتمرات البنك الدولي للإنشاء والتعمير .
وصندوق النقد الدولي .
وبنك التنمية الأفريقي .
والبنك الإسلامي للتنمية .
والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي .
وصندوق النقد العربي .
والمصرف العربي للتنمية الاقتصادي في أفريقيا .
والصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) محافظ مناوب .
وبنك التجارة التفضيلية لدول شرق ووسط أفريقيا .
ورغم طبيعة جدول أعماله المزدحم فله مؤلفات ودراسات ومطبوعات :
منها دراسة حول الحوافز الممنوحة للاستثمار الأجنبي المباشر في الدول العربية تجربة السودان ورقة مقدمة لورشة عمل نظمتها المؤسسة العربية لضمان الاستثمار – تونس – مارس 1997م .
وورقة حول إدارة الديون الخارجية في السودان ورقة مقدمة للمؤتمر القومي للإصلاح الاقتصادي في السودان 1986م .
ودراسة حول القروض والمعونات الدولية أثرها على التنمية الاقتصادية . تجربة السودان 1960 – 1980 هي رسالته للدكتوراة.
وورقة تقديم المشروعات في قطاع النقل . بحث مقدم لجامعة ويلز المملكة المتحدة بحث مكمل لدرجة الماجستير 1976م.
القروض والمعونات الدولية – أثرها على التنمية الاقتصادية – وله كتاب تجربة السودان في نصف قرن . 1956 – 2006 – صدر في عام 2008.
تعكس دراسات وخبرات الدكتور محمد خير الزبير صورة لخبير إقتصادي إجتمعت لدية علوم وخبرات عملية واسعة وكان أحد شهود تجربة إسلام الإقتصاد في السودان وشارك بخبرات في المجال الإقليمي والدولي ووجد تقديرا عاليا ربما لم يحظ به في موطنه. وإلى جانب تخصصه الإقتصادي نشط د محمد خير الزبير في العمل الإسلامي داخل وخارج السودان إبان دراسته هناك. و لا يزال ينشط بوصفه استشاريا وخبيرا على المستوي الوطني و الإقليمي… مد الله في أيامه ونفع بعمله و كسبه وبارك فيه لنفسه ووطنه العزيز.
أمين حسن عمر عبد الله