جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-29@18:54:13 GMT

لم يتعلَّم الدرس!

تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT

لم يتعلَّم الدرس!

 

د. صالح الفهدي

 

غرَّتْهُ وظيفتهُ فلم يحترم القيم والمبادئ التي أنشأتهُ عليها الجهةِ التي ينتمي إليها وإنما فرضَ هوى نفسه، ومزاج طبعه، فاستغلَّ وظيفته ليعوِّضَ نقصًا في داخله، بمُخالفةِ هذا، وإيقافِ ذاك، دون مبررٍ واضح عدا أنَّه يريدُ أن يُشعرَ نفسه-أكثر من أن يشعر الآخرين- أنَّه صاحبُ سلطةٍ ونفوذٍ، وأَنه يمتلكُ القدرة على التهديد والوعيد، فيشعرُ نفسه بأَنه بذلك سعيد!.

وحينما ناقشتُ أحد المسؤولين في جهته عن تصرفاته الطائشة الرَّعناء، وأُسلوبه المتعالي مع الناس، تنبأتُ له بالقول: إنَّ هذا الموظف المغرور سيقعُ إن استمرَّ في هذا الأُسلوب المتعجرف، وهذه العنجهيَّة المفرطة مع الآخرين، فقال: وقد وقع، ولكنه لم يتعلَّم الدرس!!

"وقعَ ولم يتعلَّم من الدرس" فكم هم الذين وقعوا أمثاله ولم يتعلموا الدرس؟ وما الذي يدفعُ بعض الناس للتمادي في تصرفاتهم غير السَّوية، دون أن يتوقَّفوا للمراجعةِ، أو لتأنيب الضمير؟ يقول الشاعر صفي الدين الحلي:

إِن كُنتَ لا تَدري فَتِلكَ مُصيبَةٌ

أَو كُنتَ تَدري فَالمُصيبَةُ أَعظَمُ

فهل هم لا يدرون بأنَّ تصرفاتهم الحمقاء هي التي أوقعتهم، أم أنهم يدرون ولكنهم يستمرؤون أطباعهم المشينة؟! في كلا الحالتين فإدراكهم أو عدم إدراكهم مصيبة، لأنَّ الله قد ميَّز الإِنسان بعقل كي يميَّز الخبيب من الطيب، والصالح من الطالح، لكن المغرور المتعالى هو من يقمع إشارات العقل، ويضرب بالدروس التي يتلقاها عرض الحائط، كاللِّص الذي يقبضُ عليه متلبسًا في حالةِ سرقةٍ بسيطةٍ لكنه لا يتعلَّم الدرس فيواصل السرقة على نحوٍ أكبر وأوسع إذ تملَّكه الإعجاب الفارط بنفسه، والزهوَ بفهلوته، والإعجاب بشطارته، حتى وقعَ وقعةً لا قومةَ بعدها!.

لقد أورد الله على لسان لقمان الحكيم مجموعةً من النصائح لإبنه تعدُّ دروسًا فريدةً للبشر الذين هم على شاكلة المغرور السابق الذكر، فقال تعالى على لسانه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان]

وفي سورة الإِسراء يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا" (37). والقصدُ هو التواضعُ للناس، ووضع النفس في موضعها الصحيح دون علوٍّ أو نقصان.

أَما هذا الموظف المغرور الذي وقعَ في فخِّ نفسه، تعاظمًا، وتكبرًا، وبطرًا، فإِنه قد سقط دون أن يدري، وتاهَ دون ان يُدرك، فسمعتهُ السيئة قد لطَّخت سجلَّهُ الوظيفي، فأرتبطَ إسمه بطباعهِ المشينة، وقرنت سيرته بسلوكهِ الوضيع، فما الذي جناهُ لنفسه وهذه حاله؟! يرفعُ صوته على الناس وهذا ما شبهه الله بصوت الحمار وهو أنكرُ الأصوات، ويشيرُ إليهم مستهينًا مستحقرًا بيده وهو تصرف المتكبِّرين، ويمشي مرحًا في خُيلاء، وهو سلوك لا يحبه الله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور"، ويصعِّر خده للناس أي يستصغرهم ويحتقرهم، ويقزِّمهم!.

لا يستغني الإِنسانُ عن شهادة الناس فيه، وليس أعظم من ذكرهم إياه بالثناءِ والمديح، كما ليس أسوأ من ذكرهم إياه بالقبيح والمشين: "عن أَنسٍ قَالَ: مرُّوا بجنَازَةٍ فَأَثْنَوا عَلَيْهَا خَيرًا، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجبَتْ، فَقَال عُمرُ بنُ الخَطَّاب: ما وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيتُمْ علَيْهِ خَيرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وهَذَا أَثْنَيتُم عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرضِ" (متفقٌ عَلَيْهِ).

لا تعرف أخلاقُ البشر إلا في ميادين العمل والتضحيات، فهي على المحك، لهذا أقول: "إن أردت أن تعرف أخلاق إنسان فامنحه سُلطة"، فتجربة سجن ستانفورد قد أوضحت ذلك بجلاء إذ أظهرت أخلاق من كانوا ذو سمعةٍ أخلاقية رفيعة فتحوَّلوا إلى وحوش كاسرة بسبب منحهم للسلطة، لكن السلطة لا تفسد أحدًا- كما يظن البعض- بل إن بعض البشر هم من يفسدون السلطة، كما أفسدها الموظف- محور الحديث- بعنتريَّته، واستكباره، وبطره!

وإذا كان قد وقعَ سابقًا، فلم يتعلَّم الدرس وراء الآخر، فإِن وقعةً كُبرى تنتظرهُ إن هو استمرَّ على هذا الطبع الرديء، والأسلوب الدنيء، ووقعةِ المغرور أشدُّ إيلامًا، وأقسى أثرًا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

لماذا خلق الله البعض فقراء والآخر أغنياء؟.. الأطفال يسألون الإمام بمعرض الكتاب

يقدِّم جناح الأزهر الشريف بـمعرِض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الـ 56 لزوَّاره كتاب "الأطفال يسألون الإمام.. الجزء الثاني"، يشتمل على إجابات لـ ٣١ سؤالًا للأطفال، يجيب عنها فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، من إصدارات سلسة كتاب "نور".

وفي الجزء الثاني من الكتاب، يسأل أحد الأطفال: أحزن كثيرًا لأن أبي فقير ولا يستطيع أن يشتري لي أشياء أتمناها مثل الأطفال الآخرين؛ لذا أتساءل دائمًا: لماذا خلق الله بعضنا فقراء وبعضنا أغنياء؟

ويُجيبُ شيخ الأزهر بالقول: ابني العزيز التفاوت بين البشر أمر طبيعي، وهذا التَّفاوت قد يتخذ أشكالًا متنوعة، فهناك تفاوت في الأعمار والأرزاق وتفاوت في الفهم والعلم وغير ذلك، والله عزَّ وجلَّ له حكمة بالغة في هذا التفاوت؛ وهي أن يشعر الإنسان باحتياجه إلى الله تعالى وكذلك إلى من حوله من البشر مهما كان مستواه الاجتماعي، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك تعبيرًا بيانيًّا عظيمًا فقال عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف : ٣٢].

ويضيف فضيلة الإمام أنَّ التفاوت بين الناس في الأموال مهم جدًّا لتسير عجلة الحياة ويستمر العمران البشري، ولا تظن أن الفقير هو الذي يحتاج إلى الغني فقط، بل الغني أيضًا يحتاج إلى الفقير، على أنَّ مفهوم الفقر والغنى يحتاج إلى إعادة نظر، فليس الغنى مجرد كثرة المال فقط، كما أن الفقر ليس مجرد قلة المال فقط، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولَكِنَّ الغنى غنى النفس"، فالغنى الحقيقي هو غنى النفس، فكم من غني هو من أفقر الناس نفسًا، وكم من فقير هو من أغنى الناس بقناعته ورضاه، كما أن الله تعالى وصف كل الناس بالفقر إليه سبحانه، قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر : ١٥].

ويقدِّم شيخ الأزهر النصيحة للطفل بالقول: "أنصحك يا بني بالقناعة وعدم النظر إلى ما في يد غيرك، واعلم أن الأب والأم ينفقون ما هو أغلى من المال؛ فهم ينفقون أعمارهم ليوفروا لأولادهم ما ترجونه ولا يبخلون عليهم بشيء، وأذكرك بقوله تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [ طه : ۱۳۱]."

يُذكر أنَّ أسئلة كثيرة تدور في ذهن الأطفال الصغار لا يستطيع الكبار الإجابة عنها أحيانا ظنًّا منهم أنَّ تلك الأسئلة مسيئة للعقيدة ويطلبون من أطفالهم التوقف عن ذلك؛ لهذا جاءت فكرة هذا الكتاب الذي جمع أسئلة مهمة للأطفال ليجيب عنها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بنفسه، ليرشدهم ويعلمهم صحيح دينهم، وتكون رسالة تربويَّة لأولياء الأمور توجههم إلى أهمية الانتباه إلى أسئلة أبنائهم الصغار والإجابة عنها بعقل متفتح بل وتشجيعهم على التفكير والتدبر في أمور العقيدة وغيرها من الأمور الحياتية.

مقالات مشابهة

  • بيان الأعضاء التي يجب السجود عليها في الصلاة
  • دار الإفتاء: بعد غد الجمعة أول أيام شهر شعبان 1446 هـ 2025 م
  • حميد الأحمر: ''الظروف والجهات التي أوصلت الحوثيين إلى صنعاء وتواطئت معهم قد تغيرت ومأرب عصية عليهم''
  • مصطفى ميرغني: أضغطوا أبنص قافل رحمكم الله ليقبر القحاتة إلى مالا نهاية
  • نائب رئيس جامعة الأزهر: العداوة والبغضاء سبب عدم إقامة العدل والمساواة بين الناس
  • شاهد كابور يكشف حقيقة اتهامه لـ سلمان خان بـ المغرور
  • كيف تتقبل الآخرين؟!
  • لماذا خلق الله البعض فقراء والآخر أغنياء؟.. الأطفال يسألون الإمام بمعرض الكتاب
  • سوداني يحاول الانتحار في السعودية.. واعتقال بنغلاديشي لتصويره الواقعة
  • محمد مختار جمعة يكشف الدرس المستفاد من الإسراء والمعراج