سماء عيسى.. كبيرهم الذي علّمهم النثر
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
ناصر أبوعون
ما هذا الكون إلا قصيدة حب عُظمى، خطتها يد الإله الواحد الأحد، ولوحة شعرية لا إطار لها؛ تتدلّى النجوم في سمائها ثرياتٍ تتراقص على دبكات القلوب، وترشُّ من أراجيحها ضوء الرضا؛ فتذوب العتمة في عيون الأطفال، وتسافر المجرات في أفلاكها لتشتل الحياة صورا بيانية على زخّات موسيقى المطر، وترسم بالكلمات أقمارًا في عيون الصبايا؛ لتوقظ الشمس من سجدتها تحت العرش فتفرك عينيها فتولد ابتسامة الأمل، ويفرّ النعاس من ظلال الشك إلى حضن اليقين، وتتخلّق الرؤى تيجانًا مُرصعةً بالبهاء فوق رؤوس الشعراء.
أمّا الشعر فهو رسالة حب، وسيف يتأبطه الجمال، ونهر من دم الكرامة، ينبع من سويداء القلب، ويتغصّن شرايين تتدفق بالغواية المباركة من الربّ خالق الوجود، تروي الشقوق العطاش في أرض البلاغة، فيتبرعم الصدقُ شجيراتٍ؛ حتى إذا ما تفتحت بتلّاتها أزرها الله، وسقاها من أنهار الفكر، حتى شبّت، واستوت على سيقانها، وأينعت ثمارُها قصائدَ تسرُّ السائرين على شطآن الحقيقة. وربّما كان هذا المدخل التمهيديّ توطئة لدراسة قصيدة النثر في عُمان من خلال مدونة كبيرهم الذي علمهم النثر الشاعر سماء عيسى الطائي!
سماء عيسى مسافر زاده السردُ والنثر
وأمّا عن الشاعر سماء عيسى؛ فهو فرعٌ من شجرة الأدب العُمانيّ التي تجذّرت في السهول والأودية، وخرجت من أصلاب، رجال عركوا الثقافة ورضعوا حليب التنوير، وحرثوا أرض الأدب، وساسُوا فلج البلاغة في مقيظ نزوى، وبذرُوا القوافي في "وادي الطائيين"، ونثرُوا الموسيقى في شعاب سمائل، واستنبتوا الشعر في مسقط؛ فترعرعت حديقةُ الفكر، وامتد فيئُها ليُظلل مساحات شاسعة من شبه الجزيرة، واستطالت أشجارُها وتشابكت أغصانُها، لتعرش دالية الإبداع فيأوي إليها عشاقُ الكلمة جيلًا بعد جيل. لقد كان الخروجُ الأولُ من عُمان للفتى سماء عيسى بصحبة أبيه الشاعر ورجل الأعمال حمد بن عيسى المناهض للاستعمار البريطانيّ، وذاق بسبب مرارات التغرب والمصادرة والاحتجاز وأورث أولاده أنفةً وكبرياءً بعريكة لا تلين، وورِثَ (شاعرنا سماء) القسم الأكبر من نضال أبيه، وتحوّل به إلى الشعر فتمرّد على شكلانية القصيدة، وثار برؤاه الحداثوية على نفسه الأمّارة بالفكر، فمزّق أضابيره المتوارثة والمُهترئة وتوكأ على عصا الشعر، وهشّ بها على قطعان قصائده التي استولدها من رحم النثر، وكان له فيها مآرب أخرى. في إبداع سماء عيسى نثرًا وسردًا ونقدًا تتبدّى الرؤى الطُوباوية، كشموس تضيء عتمة النصوص، وتستند إلى فلسفة صُوفيّة صافية من التُّرّهات؛ لأنها تصدر عن يقين لم يفتّ الشك في عضده، بل ينطلق من إيمان مُتجذِّر بأنّ (سيرورة التجديد Process) لا تنقطع إلى قيام الساعة، و(صيرورة The Happening) الأشكال الإبداعية وتجاور وتحاور الأجناس الأدبية بلا إقصاء أو نفي تحدُوه الرغبةُ في إعادة بناء معمار القصيدة الحديثة، ورص و"طوبقة" مداميك حوائطها من طين الحقيقة، وهندسة مُوسيقاها من عناصر الطبيعة، ومُستقيًا مُفرداته من المشهدي واليومي، ونابذًا الإيقاع الخارجي، وهاجرًا التقفية والنبر المُتعمَّد، ومُعطيًا ظهره للصور التقليدية، ومُفجرًا اللغة لتتشظى كائنات حيةً في سماء النصوص.
سماء عيسى الشاعر الكونيّ والأرضيّ
أمّا الشعراء؛ فنوعان؛ فالأول شاعر كونيٌّ سديمّي أوشظيّة تناثرت من (الطارق الأعظم) تسبح في فضاء اللغة؛ وتتشكّل لوحاتٍ زاهيةَ الألوان، طبعتها يدُ الله مُعلَّقة على جدران الفضاء الواسع ما بين النجوم، وأمّا الآخر فشاعر أرضيٌّ نصف نبيّ أو رُوح ملاك طوّاف شفّاف. وكلاهما؛ الكمال غايته الكبرى ولا يبلغ مُنتهاها حتى يلقى ربّه، والجمال وسيلته في غواية الهائمين على وجوههم بحثًا عن الثابت المطلق الذي لا يتحوّل، والصور الشعرية شِصٌّ من نور الله يصطاد به الكلمات السابحة في لُجّة الموسيقى، والإيقاع فرسه يقطع بها الفيافي ويعبر عليها الحدود المسيّجة بين واحات الإبداع، والشكل عباءةٌ نسجتها جنيّات الشعر تطير منها القصائد قبّرات بأجنحة من يقين في سماء الحريّة.
وفي إطار مصطلح (الشاعر الكونيّ) يمكننا هنا استعارة بعض المفاهيم من علوم الفضاء والفلك وإعادة قولبتها داخل إطار (قصيدة النثر الطائيّة) التي يكتبها سماء عيسى، للخروج من نفق التجريد الفلسفي الغامض إلى المحسوس الماديّ لتقريب الصورة الشعرية المتخيلة إلى ذهنية المتلقي. وبناءً على ما تقدّم فقد رصدنا أربعة أشكال من النصوص الشعرية في ديوان (غيوم)؛ والذي يُصنَّف في خانة (المطولات الشعرية) أو (الديوان القصيدة).
أولا - السديم الكوكبي
وفي هذا السديم الشعريّ نجد المعاني في طوّافة في دوائر متداخلة، وتتسابق الصور البيانية في أفلاك ومدارات النصّ، وتتناثر شظاياها، ثُم تتحد حول نواة المركز لِتكوّن (معنى واحدًا- نجمًا جديدًا) ويبدأ الدوران في فلك القصيدة الأم، مُشَعشعًا بالضوء، فيبدد المناطق المعتمة في مساراتها. [امرأة ترافقها شجرة/ الشجرة دليلها إلى البحيرة المقدسة/ الشجرة حارسها/ حارس العتمة/ عندما الأرض/ تنجرف بنا إلى العدم/ نتدحرج في سديمها/ وكغيمة تندثر/ في سماء معتمة/ دون أن تمطر/ كنا نسير/ بحثا عن منازلنا الأولى].
ثانيًا- السديم الانبعاثي المنتشر
في هذا السديم يولد المعنى مُشِّعًّا بذاته، ثم يتفصّد الضوء من جزيئاته وبنيته الصوتية بفعل قانون جاذبية الكلمات التي تتخلى عن معانيها المفردة داخل حاضنة الإيقاع، ثم تتزاوج في تشكّلات ثنائية تتولَّد عن اتحادها معانٍ بكر غير مطروقة، ومغايرة للمعنى القاموسيّ الذي لازمها منذ ولادتها الأولى، ثم تُتابع دورانها في فلك القصيدة مصحوبة بأطياف ضوئية ذات طول موجيّ أكبر[ونحن نسير في الأرض متجهين إلى شاطيء آخر ثم إلى جبل آخر/ ثم إلى صحراء أخرى، بحثا عن ألوانك الدافئة وما تعطيه/ للقلب من ثمار غضة كنهود الصبايا عن قطرات نداك].
ثالثًا - السديم العاكس المنتشر
في هذا النوع من القصائد السديمية، وبفعل دوران المعاني داخل السياقات الجديدة التي نحتها الشاعر، نجدها تضيء على هيئة زخات من الصور الشعرية الملونة كمصابيح متوهجة تنبعث من داخل ثريات متدلاة في سماء القصيدة تتراقص على موسيقى الكلمات وتغمر المناطق المأهولة بالحزن بشلالات من الضوء المتدفق من ذبالة الأمل التي أوقدها الشاعر من روحه يستضيء بها في ظلمة أنفاق اليأس التي يعبرها بحثًا عن اليقين المفتقد. [وأنتِ/ يا غمامة مطرنا الأولى/ أيتها الرسولة/ إلى جفاف الضرع/ ومنفى الشعر/ أيتها العذراء/ المرسلة لأرض عذراء/ أيتها المفتقدة/ كروحال طفل/ وقمر الرعاة/ أيتها الخضراء/ كشجر الحطّابين].
رابعًا - السديم المظلم
في هذا النوع من القصائد السوداويّة، تختبيء المعاني التي قدّها الشاعر سماء عيسى من دُبُر القصيدة أثناء مراودته السعادة عن نفسها؛ لكن هيهات فالحزن مقيم على رأسه، ويجلس القرفصاء بين يديه يتلو أوراد العزلة المشتهاة؛ لذا نرى الصور المظلمة حبيسة ذات النَّاصّ والنَّصّ، ومن ثَمَّ تتوارى الأفكار خلف ظلال الكلمات، ويمارس الشاعر لعبة الغُميضة والاختباء وراء غيوم الألم الحبلى باليأس، ويُمعن في مواربة الأبواب ومراودة ضوء الأمل الذي لا يجيء [أفيقي معنا إذن/ وارحمينا/ ونحن نسير إلى الموت/ نود لو شربنا منك/ بعضا من الروح/ وبكينا.../ والطير الناريُّ/ طير الغابة/ وابن الصحراء أخذنا بعيدا إلى كهف جبليّ عندما رآك/ وأنت مثقلة بالرغبة والحب/ تحملين إلى الأرض خلودها/ وإلى الزمن وردة الملاك/ ورماده الجميل]، و[وإلى الأبد سيمضي الكائن بين الأحجار وتحت الرمال/ لكنه سيظل ينتظر دومًا أن تبعثه الغيوم/ بالمطر وترويه فتخضر من حوله الأرض بالعشب/ وعلى قبره تحلق الطيور ويبتسم العشاق].
سماء عيسى في عيونهم
فلمّا سقى، وأروى آوى إلى ظل جدار تنام تحته القصائد، وأخرج الناي من أكمام بُردته وغنّى، يترقبُ بزوغ فجر القصيدة الجديدة، هاربًا ومحطّمًا القيود الشعرية القديمة، وكُلما دعاه سدنتها، وفتح له حُراسها الأبواب على مصراعيها للدخول إلى ساحتها جعل أصابعهُ في أُذنيه واستغشى ثيابهُ، وفرّ من ربقة (الشعر الغنائي)؛ فـ"السعادة/ هي ما يتواطؤ معك/ ضد الروح/ فاهرب عنها/ إلى جبانة الأطفال/ لم يعد لدينا بيت نأوي إليه/ بعد أن أوصد آباؤنا أبواب قبورهم/ ورمتنا أمهاتنا للريح/ للريح الصفراء شقيقة الموتى". حتى إذا ما هبط إلى جنان النثر المصفّى احتفى به حُرّاسه وحُرّاثه من الثائرين على عمود الخليل الفراهيديّ، وقرأ إبداعه ثُلةٌ من الغاوين الهائمين في ضِياع الشعر يقطفون ثمار التمرّد من سِدرة الشعر، فلمّا استصحبه علي الشرقاوي شاعر البحرين الكبير، وتَلَى من صفحة وجهه العُمانيّ الهاديء وِرد الصمت، وطالع بنود "مانفيستو" ثورةَ التجديد التي رفع لواءها سماء عيسى منذ مطلع شبابه، ولم تنثنِ عزيمته تحت رهبة أسواط القصيدة القديمة فقال: "سماء عيسى.. عروة الشعراء الشباب في الساحة العُمانية وحامل لواء الشعر المُغاير والمُختلف في المفردة والجملة والرؤية إلى العالم وذات الإنسان، يرسم خارطته الشعرية محاولاً إضاءة الطريق لمن يأتي بعده، إنه حكيم القصيدة العُمانية بامتياز".
لقد انبعث سماء عيسى ذات عشيّة شعريّة في أرض يَبَاب من قصائد تقف على ساقين من عروض، وتسافر على أجنحة القوافي، يتردد صداها في السهول والوديان على وقع أناشيد الرعاة، والخطابات التي تتجمع مفرداتها من حطب اللغة، فرفض السير في ركابهم، وتمرّد فهشّم ما طالته عصاه، وكسر أصنام البلاغة القديمة، وصعد نخلة الشعر فاستنبت "شماريخها"، وهز "عراجينها" فاساقطت "رُطبُ الكلام"، وذاق حلاوتها جيلٌ جديدٌ كان يحبُو على حواف الأفلاج، ويصعدُ قمم الجبال باحثًا عن قبلة جديدة؛ فأخذ بأيديهم إلى النور، والتفوا حول نبوءته وتحلقوا في مجالسه؛ واستأنسوا برؤيته، وناصروه في بعثته التجديديّة؛ ولهذا يقول الشاعر زاهر الغافري "أعتبر سماء عيسى هو المحرك الأول، ليس في كتابة قصيدة فقط، وإنما ريادة التجربة الشعرية الحديثة في عُمان. وقد نشر في أواخر الستينيات في مجلة "الحكمة" اليمنية سنة 1968، قصائد ونصوصًا تنتمي إلى الشعرية الجديدة، وسرعان ما نشر في أوائل السبعينيات نصوصاً تنتمي إلى ما صار يعرف بقصيدة النثر. إذن المسألة ليست مسألة قصيدة نثر، وإنما الوعي الجمالي الحديث برمته، معبراً عنه في ممارسة شعرية جديدة، من معالمها قصيدة النثر".
مكتبة سماء عيسى الإبداعية
وعلى الرغم من رزنامة الأعمال الإبداعية التي قدَّمها سماء عيسى، وتُعدّ وفق تقدير كبار النقاد علامات فارقة في مسيرة الإبداع العربيّ والعُمانيّ وتنوّعت ما بين 24 مجموعة شعرية، وأربع مجاميع قصصية ومسرحية تدخل تحت مشروع سرديّ كبير مازال يعمل على إنهائه؛ فضلا عن كتبه في التاريخ والنقد السينمائيّ؛ إلا أنّه يتوارى في الظل ويزوي تحت أردية الحياء، ولايفرض اسمه على قوائم الترشيح للجوائز الإقليمية والدوليّة باستثناء قيام (جمعية الكتاب والأدباء العُمانية) و(معرض مسقط الدولي للكتاب) في دورته السادسة والعشرين، باختياره ليكون (الشخصية الثقافية للمعرض عام 2021)، وذلك تقديرا لمسيرته الأدبية وإسهاماته الثقافية، ونشاطه الإبداعي المتواصل والذي أثرى من خلاله المكتبتين العربية والعمانية بأعمال شعرية نذكر منها: (للنساء اللواتي انتظن طويلا، مجلة الثقافة الجديدة اليمنية، 1974)، و(ماء لجسد الخرافة، 1985) و(نذير بفجيعة ما، 1987)، و(مناحة على أرواح عابدات، 1990)، و(منفى سلالات الليل، 1999)، و(درب التبانة، 2001)، و(غيوم، آفاق للنشر والتوزيع، 2006)، و(لقد نظرتك هالة من نور، دار الفرقد للطباعة والنشر، 2006/ 2014)، و(أبواب أغلقتها الريح، دار الفرقد للطباعة والنشر، 2008)، و(الجلاد، دار الفرقد للطباعة والنشر، 2010)، و(دم العاشق، دار الفرقد للطباعة والنشر، 2011)، و(أغنية حب إلى ليلى فخرو، مؤسسة الإنتشار العربي، 2012)، (الجبل البعيد، مؤسسة الإنتشار العربي، 2013)، و(شرفة على أرواح أمهاتنا، دار مسعى للنشر والتوزيع، 2014)، و(صوت سمع في الرامة، بيت الغشام، 2015)، و(الأشجار لا تفارق مواطنها الأولى، دار مسعى للنشر والتوزيع، 2016)، و(اقتراب من النبع؛ شهادات ومقالات في الأدب والثقافة والتاريخ، دار سؤال، 2017)، و(استيقظي أيتها الحديقة، دار مسعى للنشر والتوزيع، 2018)، و"الحنين إلى طوبى.. كتابات في تجارب الإبداع الروحي"، عن مكتبة الندوة العامة2021)، وعن دار "نثر" للنشر ديوان شعر جديد بعنوان "برق أزرق في سماء بعيدة 2022"، وله مجموعة مسرحية واحدة بعنوان “زيارة ماما لوسي” صدرت عن (دار الفراشة الكويتية).
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً: