شيخوخة المخطوطات ومصحات المهارة والصبر
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
لَمْ أجدْ ما يغطِّي معرفتي بعالَم المخطوطات التاريخيَّة إلَّا الانخراط في الإصغاء إلى خبيرتَيْنِ عراقيتَيْنِ تناوبتَا تسليط الضوء على التحدِّيات الَّتي تواجه المخطوطات وكيفيَّة إطالة عمرها الافتراضي العامِّ من خلال عمليَّة صيانة تتطلب المزيد من المهارة المستندة إلى خبرة تتأتَّى من التعلُّم التطبيقي.
لقَدْ توافرت فرصة لي في هذا الشَّأن بحُكم عملي مستشارًا إعلاميًّا لمنظَّمة حمورابي لحقوق الإنسان، وقَدْ أدهشتني قدرة الصبر على عمليَّة صيانة من هذا النَّوع، إذ يتطلب الأمْرُ وضع خريطة للمخطوطة تتضمَّن اسمها واسم مؤلِّفها إن كان شخصًا واحدًا، أو عدَّة مؤلِّفين، وسنَة كتابتها، أو أيَّة بيانات معرفيَّة أخرى تتعلق بالدلالة، ثمَّ البدء بما يُعرف بالحفظ الوقائي لها مع إعادة تخزينها بطريقة تراكميَّة وليس بالرصف العمودي.
الحفظ الوقائي للمخطوطة يتطلب تنظيفها بفُرَش رقيقة جدًّا لِتلافي خدش مضمونها، وتوخِّي الحذر خلال تصفُّحها.. علمًا أنَّ هناك مخطوطات مكتوبة على جلود، أو قماش أو ورق بصناعة يدويَّة، ومع قِدَم المخطوطة تزداد صعوبة صيانتها فهي تحتاج إلى درجة عالية من المواظبة على عمل دقيق يُحسن إلى عمرها تمامًا، كما يتمُّ الإحسان في رعاية المُسنِّين معتلِّي الصحَّة خشية زيادة عطبهم الجسدي والنَّفْسي وهو احتمال وارد أكثر الأحيان.
يقوم الحفظ الوقائي للمخطوطة على فكرة ترقيع الأجزاء المتاكلة مِنْها باستخدام نَوْع من الورق اختصَّ اليابانيون بصناعته ويملكون أسرار صناعته دُونَ العديد من الدوَل الأخرى، رغم أنَّ الإيطاليِّين هُمُ الأكثر اختصاصًا بهذه الصيانة ودار المخطوطات العراقيَّة استعانت ببعض خبرائهم لتدريب كوادرها.
على أيَّة حال اطَّلعتُ على مخطوطات عمرها مئات السنوات مِثلما اطَّلعتُ على الشروط الَّتي تتعلق بدرجات الحرارة المناسبة لحفظ المخطوطة حيث ينبغي أن تتراوح درجة الحرارة بَيْنَ 18 إلى 20 درجة ونسبة رطوبة بَيْنَ (55) و(60) كمعدَّل عامٍّ، وبخلاف ذلك تكُونُ المخطوطة عرضة للهلاك بتفتُّت نسيجها وتكسُّره، وفي كُلِّ ذلك هالني مقدار الصبر المطلوب لاستنساخ مخطوطة من (400) إلى (500) صفحة مع الحفاظ على نسق معيَّن من الخطِّ الواضح المزيَّن بحركات الإعراب والفواصل بَيْنَ جُمل النَّص. ولك أن تقيسَ مقَدْار الجهد إذا كانت هناك مخطوطات بأكثر من ألف صفحة وبعدَّة أجزاء، كيف لا يُصاب بالجزع مَنْ يواظب على كتابتها بتأنٍّ ومهارة وإجراء تصحيحات للنَّص مع احتمال الوقوع بالخطأ.
الحال، منذ أوَّل خطوة اعتمدها الإنسان لِتدوينِ أفكاره واستنتاجاته المعرفيَّة تظلُّ المخطوطات رصيد الأُمم الثقافي ونافذتها على التاريخ قَبل بدء عصر الطباعة.
من المحاضرات الَّتي أصغيتُ لها أنَّ التشويهَ والإساءات المتعمَّدة المتمثِّلة بالإنكار والتضحيل والتسفيه، أو التبشير بالمضامين الصحيحة رافقت المخطوطات في كُلِّ عصورها المتعاقبة، وتبقى إنجازات المُحقِّقين للمخطوطات هي الفيصل في رعاية مضامينها وتبنِّي أهدافها، وإذا كان يحسب للشاعر أبو الطيِّب المتنبِّي براعة حفظ أيِّ نصٍّ يقع بِيَدِه من خلال (استنساخه) في ذهنه، تظلُّ براعة النسَّاخ والورَّاقين مصدر الحفاظ على الموجودات التدوينيَّة من الضياع.
لقَدْ لاحقَت أبو حيان التوحيدي وصمة حرقه لخلاصة من أفكاره مقابل ذلك فإنَّ صيانة المخطوطات واحدة من أرقى مُهمَّات حماية الموجودات التاريخيَّة. بتوضيح تحليلي، عالَم المخطوطات عالَم مُدهش حقًّا، وتظلُّ المسؤوليَّة في صيانتها واحدةً من أرقى الحمايات للتاريخ، خصوصًا إذا ارتفع منسوب الاهتمام بها من خلال دراسات علميَّة وتمويل ثقافة بها لدى الرَّأي العامِّ عمومًا. إنَّ مشروعات وطنيَّة رائدة لصيانة المخطوطات تظلُّ واجبًا وطنيًّا يمنع الوقوع بالانقِطاعات الزمنيَّة أخطر ضياعات الهُوِيَّات.
عادل سعد
كاتب عراقي
abuthara@yahoo.com
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
مشاعر مختلطة
ذهبت إلى كلية الآداب، وتسلمت شهادة الدكتوراه، مع ملف أوراقي الخاصة بمرحلة الدراسات العليا معلنة إسدال الستار على مرحلة مهمة من مراحل حياتي، لقد انتهى مشواري التعليمي بنيل أعلى شهادة، اختلطت داخلي مشاعر الفخر والفرح والحزن أيضًا، فخورة بما حققته، سعيدة بحصاد ثمار سنوات الجهد والتعب، حزينة لأن ماماتي لم تشهد معي تلك اللحظة بالرغم من أنها الأحق بهذه الفرحة.
احتضنت الشهادة وتوقفت في ساحة الكلية، أنظر إليها، وأسأل نفسي هل هذه نهاية علاقتي بكليتي الحبيبة؟ مرت سنوات العمر أمام عيني، تذكرت خطواتي الأولى، وأنا مجرد فتاة صغيرة تحمل بطاقة الترشيح المرسلة من مكتب التنسيق، وتحاول إتمام الإجراءات في شئون الطلبة، وتسأل عن جداول المحاضرات، وتتعرف على الحياة الجامعية رويدًا رويدًا، ثم الانضمام إلى اتحاد الطلاب، ورئاسة اللجنة الثقافية لعامين متتاليين، والتخرج، والانغماس في الحياة العملية لسنوات طويلة قبل أن ينتابني الحنين للدراسة مرة أخرى، واتخاذ قرار استكمال الدراسات العليا بتشجيع من أسرتي والمقربين مني.
سنوات مضت في تعلم قواعد البحث العلمي، وتطبيقها، تخللها الكثير من المشاعر: أمل ويأس، ترقب وإحباط، نجاح وفشل، حتى جاء الحصاد الأول بحصولي على درجة الماجستير وسط فرحة الأسرة والأصدقاء والزملاء وأساتذتي أيضًا، وبقرار جريء قررت الاستمرار في مشواري العلمي دون توقف، وشاء القدر أن ترحل أمي أثناء مشوار الدكتوراه، فزهدت الدنيا، وكاد الحزن أن يمنعني من المضي قدمًا في طريقي بالرغم من تشجيع المحيطين بي، لكنى فجأة تذكرت دعم ماماتي لمشواري ورغبتها في حصولي على اللقب، واستجمعت قواي، وقررت أن أحقق الحلم بهدف إهدائها علم ينتفع به صدقة جارية على روحها الغالية.
مضت سنوات أخرى وأنا أجاهد في سبيل الوصول للهدف، وأتخطى بذكراها كل المعوقات والصعوبات، حتى استطعت إعداد الرسالة واجتياز المناقشة ونيل درجة دكتوراه الفلسفة في الآداب، تخصص اتصال وإعلام.
ها أنا ذا يا ماما قد أصبحت دكتورة رسميًا، وصارت رسائلي العلمية متداولة بين الباحثين، علم ينتفع به، وصدقة جارية تثقل ميزان حسناتك بإذن الله يا حبيبتي.