جريدة الوطن:
2024-11-15@16:56:09 GMT

عن الخوجنة والتصهين

تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT

حين قَدِمتُ إلى بريطانيا قَبل نَحْوِ ثلاثة عقود، ومن بَيْنِ ما سمعتُ من نوادر تُعدُّ كوميديا سوداء تظلُّ عالقةً بذهني «نكتة البروفيسور الهندي وزميله الإنجليزي» لِمَا لها من دلالة تُذكِّرنا بها الأيَّام باستمرار. التحقَ بروفيسور من أصْل هندي بإحدى الجامعات المرموقة في إنجلترا، وكان له زميل إنجليزي ربَّما أقلُّ مِنْه كفاءة علميَّة، لكنَّه كان ينظر لزميله الهندي بتعالٍ شديد ولا يردُّ عَلَيْه التحيَّة حتَّى.

وظلَّ الهندي يحاول أن يكُونَ مِثل الإنجليزي؛ فاشترى سيارة مِثل سيارته، واشترى البيت المجاور لبيته في الحيِّ الرَّاقي بلندن وهكذا، إلَّا أنَّ الإنجليزي ظلَّ متعجرفًا متعاليًا. فطَرَق الهندي باب الإنجليزي يومًا وقال له: لماذا تتعالى عليَّ وأنا حتَّى أفضل مِنْك؟ فاندهش الإنجليزي وهزَّ رأسه متسائلًا، فقال له زميله: أنا أفضل مِنْك، فجاري إنجليزي وأنت جارك هندي. ويعرف كُلُّ مَنْ عاش في بريطانيا مدَّة مدى العنصريَّة المقيتة في تلك المزحة المُرَّة. إذ إنَّها بقَدر ما تعكس العنجهيَّة الفارخة وصلف الإنجليزي الأبيض، تعكس أيضًا عقدة الدونيَّة عِند الهندي الملوَّن.
لا يخلو العالَم من عُقد النَّقص والدونيَّة تلك، وفي بلادنا نصف مَنْ يرون في الغرب أنَّه الأفضل والأعلى قِيَمًا وسلوكًا ومبادئ بأن لدَيْهم «عقدة الخواجة». حتَّى مَنْ يباهون باستعمال كُلِّ ما هو «أجنبي» على مَنْ يستعملون الإنتاج المحلِّي. إلَّا أنَّ هناك مَنْ تكُونُ عقدة الخواجة عِندهم أبعد مدى، وتصل إلى حدِّ محاولتهم أن يكُونُوا في تعاملهم مع أقرانهم المحلِّيين وكأنَّهم «خواجات». ويصل الأمْرُ ببعض هؤلاء ممَّن لدَيْهم عُقد نقصٍ ودونيَّة، ربَّما لا يشعرون بها لكنَّها تنعكس في أفكارهم وسلوكهم المبالغ في الادِّعاء، إلى المزايدة على الخواجة في مواقفه حتَّى لو كانت عنصريَّة. إلَّا أنَّ الخواجة غالبًا ما يحتقر هؤلاء؛ لأنَّهم في النِّهاية «متخوجنين» ـ أي ليسوا خواجات أصليِّين ـ ولَنْ يقبلَ الخواجات بهم بَيْنَهم مهما بالغوا في الدونيَّة. قَدْ يرضي ذلك غرور بعض الخواجات، ويستخدمونه للدلالة على أنَّ قِيَمهم وعاداتهم ومواقفهم أعلى من غيرهم من سكَّان الكوكب. وقَدْ ينال المتخوجنين بعض مزايا مؤقتة من ممارساتهم ومزايداتهم. لكن في النِّهاية ينتهي بهم الأمْرُ في وضع لا يختلف عن وضع ميليشيَّات انطوان لحَد الَّذي ساعد الإسرائيليِّين في حربهم على بني وطنه لبنان. وحين انسحب الاحتلال، لَمْ يستطع هؤلاء البقاء في لبنان لأنَّهم كانوا سيعدمون بتهمة الخيانة العظمى فانتقلوا للعيش في إسرائيل لِيُعانوا المهانة والمذلَّة حتَّى أنَّهم حاولوا العودة إلى لبنان. وهكذا لفظَهم مَنْ خانوا أهلَهم لصالحه ولفظهم شَعبهم لخيانتهم.
قَدْ يجد بعض المتخوجنين المنتفعين من علاقاتهم بالخواجة، مِثل مَنْ يمنحهم اللجوء لِيعارضوا بلادهم من عِنده أو مَنْ يموِّلهم بغطاء الجماعات الحقوقيَّة وغيرها من سُبل «النشطاء» في بلادهم لخدمة الخواجة، مبررًا لسلوكهم ومواقفهم. لكن مَنْ يُزايد على الخواجة تطوُّعًا وبلا فوائد مباشرة يجنيها سوى أن يشعرَ زيفًا أنَّه مِثل الخواجة فهؤلاء يثيرون الشَّفقة والأسى متوازيًا مع الغضب والحزن عَلَيْهم. لا أدري إن كان كثيرون يلاحظون اختفاء كُلِّ منظَّمات المُجتمع المَدني المموَّلة من الغرب في منطقتنا، من جماعات حقوقيَّة وديموقراطيَّة وغيرها، منذ بدأت حرب الإبادة الصهيونيَّة على الفلسطينيِّين قَبل نَحْوِ شهرَيْنِ. ولا نسمع لَهُمْ صوتًا حتَّى يدينَ أو يستنكرَ، ولو بربع ما كانوا يفعلون تجاه حكوماتهم أو أيِّ تيار منتقِد للغرب من قَبل. ولَمْ نلحظ من هؤلاء «النشطاء» أيَّ موقف على قتل آلاف الأطفال والنِّساء في عمليَّة تطهير عِرقي غير مسبوقة، بَيْنَما كان هؤلاء ملء السمع والبصر للتصدِّي لانتقاد صحيفة فرنسيَّة أهانت المُسلِمين. وملأ هؤلاء مواقع التواصل بشعارات تضامن وتصنيف أنْفُسهم أنَّهم كُلَّهم فرنسيون. لا أحَد يطالبهم بأن يعلنوا أنَّهم كُلَّهم «فلسطينيون»، كَيْ لا يُتَّهموا بمعاداة السَّامية ويخسروا مصادر تمويلهم لكن على الأقلِّ يظهروا بعض الإنسانيَّة!
غير هؤلاء المنتفعين، والَّذين ربَّما يدركون ما يفعلون بانتهازيَّة ما، هناك مَنْ يُزايد على الصهاينة بأن يوحيَ بأنَّه صهيوني أكثر مِنْهم. وهؤلاء هُمُ الطَّامة الكبرى؛ لَمَا يظهرون من غباء أكثر من الانتهازيَّة والدونيَّة حقًّا. فإذا كان الخواجة ربَّما يرحِّب بالمتخوجنين، وإن لَمْ يحترمهم تمامًا، فإنَّ الصهاينة لا يقبلون بالمتصهينين. ذلك لأنَّ الصهيونيَّة، كما صنَّفتها الأُمم المُتَّحدة بالقرار 3379 لعام 1975 كحركة عنصريَّة، تَعدُّ نَفْسَها حركة مميَّزة و»مختارة» تتفوق على بقيَّة البَشَر. بالضبط كنظريَّة «تفوُّق الجنس الآري» في أوروبا القرن الماضي وجماعات النازيِّين الجُدد حاليًّا في أميركا الشماليَّة وأوروبا. فالتصهين، حتَّى لو كان تعبيرًا عن عُقَد نقصٍ ودونيَّة، ليس سبيلًا لِنَيْل أيِّ ميزة لا عِند الصهاينة ولا غيرهم. ومن الصعب تصوُّر أنَّ المتصهينين، من عرب وأجانب، يفعلون ذلك «عن قناعة» وبشكلٍ «مبدئي». فليس من الطبيعة البَشَريَّة السويَّة أن يكُونَ المرء عنصريًّا. صحيح أنَّ الضغط الأميركي والبريطاني على دوَل العالَم نجح في سَحبِ القرار الأُممي بعنصريَّة الصهيونيَّة عام 1991، لكن ذلك لا ينفي أبدًا طبيعتها الأصيلة. وإذا كان بعض المتخوجنين يستحقون الإشفاق عَلَيْهم إلى جانب الغضب مِنْهم، فإنَّ المتصهينين لا يستحقون هذه ولا تلك. فَهُم أقلُّ مرتبة من أصحاب عُقَد النقص والدونيَّة بمراحل.

د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

وزير الخارجية ونظيره الهندي يرأسان الاجتماع الثاني للجنة الشؤون السياسية

رأس صاحب السمو الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله، وزير الخارجية، ومعالي وزير خارجية جمهورية الهند الدكتور سوبراهمانيام جايشانكر، اليوم الأربعاء، في العاصمة الهندية نيودلهي، الاجتماع الثاني للجنة الوزارية المعنية بشؤون (السياسة والأمن والشؤون الثقافية والاجتماعية) المنبثقة عن مجلس الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.أهمية الشراكة بين المملكة والهندوألقى سمو وزير الخارجية كلمة خلال الاجتماع أكد فيها أن إنشاء مجلس الشراكة بين المملكة والهند، برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - حفظه الله -، ودولة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، قد مهد الطريق لعصر جديد من التعاون في مختلف المجالات، معربًا عن تطلعه إلى تعزيز قدرات المجلس وكفاءته لتحقيق الأهداف المشتركة.
وأشار سمو الوزير خلال الاجتماع إلى أهمية التنسيق والتعاون بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك، خاصة فيما يتعلق بالسلام الدولي والأمن والتنمية الاقتصادية، معبرًا عن ثقته بأن تعزيز التعاون سيسهم في تحقيق المصالح المتبادلة للبلدين الصديقين.تعزيز التعاون المشترككما ناقش الاجتماع المبادرات المتفق عليها في محضر الاجتماع والتي تضمنت الاتفاق على تعزيز التعاون في المجالات السياسية والقنصلية، والدفاعية والعسكرية، وكذلك العدلية والأمنية، والاجتماعية والثقافية.
أخبار متعلقة "التراث" تُعلن تسجيل 198 موقع أثري جديد في السجل الوطني للآثار بالمملكة"التعليم".. إسناد النقل والتغذية المدرسية لـ"جودة الخدمات"عقب ذلك وقع سمو وزير الخارجية ومعالي وزير خارجية الهند على محضر اللجنة الوزارية المعنية بشؤون (السياسة والأمن والشؤون الثقافية والاجتماعية) المنبثقة عن مجلس الشراكة الإستراتيجية بين البلدين. حضر الاجتماع مدير عام مكتب سمو الوزير عبدالرحمن الداود، والقائم بأعمال سفارة المملكة في جمهورية الهند جدي بن نايف الرقاص، ورئيس الجانب السعودي في اللجنة الفرعية للتعاون السياسي والقنصلي ناصر آل غنوم، وممثلي اللجان الفرعية المعنية بالتعاون العدلي والأمني، والثقافي والاجتماعي، والعسكري والدفاعي.

مقالات مشابهة

  • باستثناء هؤلاء.. الأهلى يسجل لاعبيه فى قائمة الإنتركونتننتال
  • اطلالات صحافيي ومحللي محور الممانعة الى تراجع
  • فاروق فلوكس يتحدث عن غيابه عن الفن في واحد من الناس.. الاثنين
  • الصمود نصر
  • شريف فتحي يناقش مع نظيره الهندي تنمية السياحة الاستشفائية والعلاجية والبواخر البحرية
  • كان على “القمة” أن تسرق انتصارات ” المقاومة”!
  • برئاسة ولي العهد.. إنشاء مجلس الشراكة السعودي الهندي
  • وزير الخارجية ونظيره الهندي يرأسان الاجتماع الثاني للجنة الشؤون السياسية
  • شبانة يعلق على تصريحات رئيس لجنة الحكام السابق ويؤكد: "ما يحدث استهانة بالرأي العام"
  • العنف لا يولد إلا العنف