لجريدة عمان:
2025-03-18@11:48:50 GMT

فكر.. الحق في أن تكون مهاجرا غير مثالي!

تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT

فكر.. الحق في أن تكون مهاجرا غير مثالي!

عند الخروج لشوارع هنوفر هذه الأيام، تلمح شخصا واحدا على الأقل يرتدي الكوفية، أو أحد التنويعات عليها (يُحتفظ بنمط التطريز، لكن تُغير الألوان)، لا أدري إن كانت هذه وسيلة تحايل، أو أنها اكتفاء بأفضل المتوفر. في المُظاهرات أتتبع ما يلفه الناس حول أعناقهم، أو يضعوه فوق رؤوسهم، فألمح الكوفية البيضاء، الشماغ الأحمر، الشال اليمني، وحتى ما يبدو أنه مصرّ ظفاري.

لعل الموضوع -بعد كل شيء- ليس موضوع وفرة ولا تحايل، بل على الأغلب مرتبط بتفتح الأعين والحساسية الخاصة لجميع أشكال انعدام المساواة التي تمنحها لنا غزة ضمن ما تمنحه من عواطف تهزنا، وتعيد تشكيلنا.

طُلب مني كتابة هذا المقال استنادا على مقال كتبته بداية الحرب، حمل عنوان «هل انتهى زمن التعايش؟»، لكن آرائي مثلها مثل كل شيء في هذه الحرب: سريع التغير، متهور، ويُصيب بالقنوط. والبذرة التي ظننتُ أنني أبدأ منها صارت تنتمي لتاريخ آخر.

ذكرت في ذلك المقال أنه حتى وقت قريب، كان يُنظر إلى أوروبا باعتبارها الملجأ الأخير للهاربين من الحروب أو من التضييقات السياسية والاقتصادية وتلك المتعلقة بالحريات الشخصية بالنسبة لشباب الشرق الأوسط (أو غيرها من بلدان العالم). أما اليوم فيبدو أن المهاجرين يفتقدون الشعور بالأمان، بل يشعروا أن وظائفهم، وسكنهم، ووجودهم بأسره مُهدد، وبالإمكان خسارتها بكل سهولة، أو تغيير حياتهم كما يعرفونها بمجرد الإدلاء برأيهم حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو إظهار أي رمز من رموز التعاطف مع الفلسطينيين. وتطرقتُ إلى الإرهاب الفكري الشرس، للحد الذي تساوت فيه معاداة السامية، ومعاداة إسرائيل. بل إن «السياقية» أصبحت هي الأخرى مرفوضة، أعني أن تقول إن ما فعلته حماس يأتي كرد فعل على سنوات من الإرهاب والظلم والحصار المفروض على غزة. لا يُشدد أمنيا على المظاهرات وحسب، بل تتم حاليا إعادة النظر في سياسات الهجرة، والتهديد بالترحيل، أو عدم منح الجنسية متى ما ثبت أن الفرد معادٍ لإسرائيل. الأمر الذي يجعل صِراع الغرب والشرق حاضرا بقوة، ويُهدد فرصة وجودة التعايش في المجتمعات الأوروبية.

استحضر المجازر التي ربينا ونحن نسمع عنها، أحاول تخيل ما سنقوله عن مجازر غزة بعد عشر سنوات، ربع قرن، لكني أفشل. كيف لي أن أفعل وأنا أشعر أن ليس ثمة غد فما بالك بسنة قادمة، أو عشر، أو ربع قرن. ثمة شرخ في نسيج الحياة يفصل بين ما كناه وما نحن عليه الآن.

ذبول. بلادة. عِناد. مقارعة للسلطة. هذه هي مفردات قاموسنا الجديد. ثمة بلادة يُحفزها العجز وقلة الحيلة، لكننا أيضا على شفى البكاء والهياج في الوقت نفسه.

العالم يستعيد ذاكرته. يُبعث من جديد أرشيف المعاناة والمقاومة. الزيتونات التي تُحرق في فيلم «خمس كاميرات محطمة»، «الزيتون شو ذنبها، الشجرة بتسبح لربها، شو ذنبها يولعوها». لا نُريد أن ننسى هذه المشاهد. النسيان ذنب هو الآخر.

خطابات الشهيد باسل الأعرج، ومنولوجاته التي يُصر فيها على تحطيم أصنام السلطة، وإصراره أنها (أي السلطة) في عقولنا وحسب، أننا من نمنحها القوة بالتصديق بها. فلا ننسى هذا أيضا.

«أنا متفاجأة من الدوغمائية الألمانية!» تقول صديقتي وهي فتاة تنحدر من باڤاريا، ليس لأهلها أي انشغالات ثقافية أو حقوقية بل إنها وكثيرا ما وصفتهم بالعنصريين. أُشدد على هذا الأمر، للتأكيد على أن بإمكان المرء أن ينجو، وأن يُعيد توجيه بوصلته الأخلاقية أيا كان موقعه. ينشغل اليسار الألماني بالحديث عن مُعاداة السامية عوضا عن انشغاله بكيف تُجابه الإبادة الحاصلة لسكان غزة. في المقابل، لا نتعب نحن أنفسنا بالعثور على عذر أو تبرير بعد. صار التسامح رديف الضعف والتنازل.

لا عجب في أن الكثيرين في ألمانيا لا يعرفون الكثير عن تاريخ القضية الفلسطينية، أو بالأحرى لا يعرفون سوى الرواية المضادة، خصوصا الأجيال الأسبق التي لا تتحدث سوى الألمانية، والتي لا سبيل لها لذلك وسط السردية التي يدفع بها التعليم والإعلام الألماني. لا أقول هذا للمطالبة بتفهم موقف بعض الألمان من القضية، ولكنه يأتي كانتقاد لسياسات التعليم والإعلام المنحازة.

كيف نفكر ونشعر حول مُداهمات الشرطة الألمانية للمتهمين بتأجيج خِطاب الكراهية على الإنترنت؟ الفكرة الأولى: غالبا ما تُبرر المضايقات والاعتقالات بأن أصحابها يستخدمون رموزا معادية لليهود بشكل صريح (مثل الصليب المعقوف)، لكننا نعلم أن المضايقات تحدث لأسباب أقل، كالمطالبة بفلسطين حرة النهر إلى البحر، أو وصف ما يحدث في غزة بالإبادة العرقية. مع هذا دعونا نتشجع ونُفكر في شاب يُنادي بإبادة اليهود فعلا. لا يسعنا إلا أن نضع هذه الصورة إزاء صورة من يصرخون «الموت للعرب»، وأتساءل عن الغرض من التشديد على نقد جانب دون الآخر، لماذا لا يستخدم الإعلام الألماني التبريرات ذاتها، أي القول إن ثمة حرب على الأرض، ذهب ضحيتها الآلاف حتى الآن، من الطبيعي أن تخون المرء لغته، أن ينفعل دون أن يهتم بالصوابية، بل إن تغيير الوضع يستلزم غضبًا لا يعرف الحذر. فالفكرة الأولى إذا هي إن كانت الدولة حساسة للغة المستخدمة، فلتُعامل جميع أنواع العِداء على قدم المساواة. الخطوة الأولى إذا هي في عدم التمييز بين جميع أنواع خطابات الكراهية. متى ما تحقق هذا، يُمكننا أن نتحدث عن سقف حرية التعبير، وما يستلزم التدخل، وما لا يستلزمه. والحديث عن عدم التمييز بين أنواع خطابات الكراهية ليس محصورا على القوانين، بل أيضا على المساحة التي يشغلها التعاطي مع المسألة من الفضاء الإعلامي.

الفكرة الثانية: المطالبة بمهاجرين مثاليين. عداء السامية، مثله مثل أي شكل من أشكال الانحياز والعنصرية ظاهرة تشترك فيها المجتمعات بنسب تزيد أو تنقص حسب احتكاك المجتمعات المختلفة ببعضها. ما تُطالب به ألمانيا من المجتمعات المهاجرة هو أن تكون خالية من أي جانب سلبي (بداية بتبني الأفكار، وانتهاء بالأفعال الإجرامية)، فيما تشفع لمواطنيها الذين لا يأتون من خلفيات مهاجرة، تشفع لهم بسهولة، وتعد أي فعل مضاد للمجتمع -متى ما قدم منهم- جزء طبيعي للسلوك الإنساني. فلماذا يُجبر المهاجرون على الامتثال لقاعدة «غلطة الشاطر بألف»؟ فيما يتم التسامح مع آخرين. الأفراد حين يحملون أفكارا عنصرية، أو يقومون بأفعال تحفزها تلك الأفكار العنصرية - فهم يصبحون مدعاة للنقد والعقاب وهذا شيء يُمكن قبوله. أما أن تُشرعن العنصرية عبر استغلال القضية للتقليل من المهاجرين، وتمرير سياسات منحازة ضد القادمين من خلفيات غير أوروبية فهذا ما لا يُمكن القبول به.

من الطبيعي أن تؤجج مشاعر الغضب حين لا يجد المرء أن الحكومة التي يعيش في ظلها (والتي انتخبها في كثير من الحالات) تُمثله. وما تفعل ألمانيا اليوم من الاصطفاف غير المشروط مع إسرائيل يُغضب الشارع. الشعور أن ثمة رواية يتم الدفاع عنها بكل شراسة، إرهاب فكري لا يعرف الرحمة ضد كل من ينتقد الاحتلال الإسرائيلي، يُذكي هذا شعورا بأن ثمة «مؤامرة» يقف فيها المستعمر القديم في صف المستعمر الجديد جنبا إلى جنب، لانتزاع ما ليس لهم أي حق فيه.

الشعور بتآمر العالم عليك محبطٌ بشكل خاص لأنه يقتل كل أمل في أن تسير الأمور للأفضل. فنحن إن نجونا اليوم، لا نملك أي أرضية مشتركة للحوار، لا يبدو أن بالإمكان الاتفاق على الحقائق. فالجانب الفلسطيني يقول أن عدد الشهداء هو س، يرد الجانب الإسرائيلي أنه لا يُمكن الثقة بمصدر هذه المعلومة لأنها قادمة ممكن يعدوهم أعداءً، والاستناد إلى بيانات ومعلومات المؤسسات الحقوقية والدولية المحايدة (بقدر ما يُمكن أن يكون الحياد) لا يُفلح في حل خلاف الموثوقية؛ لأن بالإمكان دائما الطعن في حياديتها (أي المؤسسات)، ومسائلة تأثرها بالجهات التي تمولها، أو اللوبيات التي تضغط عليها، وإلى ما لا نهاية من وسائل التوجيه المباشرة وغير المباشرة التي تجعل الوثوق بمصدر ما مهزوز.

الفكرة الثالثة (وكنتُ قد تحدثتُ عنها في مقالي المُشار إليه سلفا): إن ما لا يبدو الغرب قادرا على فهمه في مسألة عداء السامية، أن لغة الاعتراض العربية لا تتطابق بأي شكل مع تلك الغربية لأن سياقها مختلف تماما. فعندما يقول العربي (أو الشرقي ما دمنا نتحدث عن محور الشرق والغرب) «اليهود» فهو يقصد من استوطن أرضه، لا يخطر بباله عداء اليهود كما تعرفه أوروبا لأنه لم يكن يوما جزءا منه، ولأن عداءه مع اليهودي لا علاقة له بهويته كيهودي بل بكونه مستوطنا للأرض. وهكذا فما يقوله رجل ألماني يُمكن أن يُعد عداءً للسامية، فيما لا يُعد القول نفسه كذلك عندما يخرج عن فلسطيني يعيش في ألمانيا.

يبدو أن الألماني المعاصر ليس مشغولا بالذنب بالشكل الذي يتوقعه، إن ما يهزه في هذه الحرب هو الهوية الألمانية التي ينطوي عليها تلقائيا الدعم غير المشروط لإسرائيل. والتفريق بين الشعورين مهم لأن الهوية يُمكن أن يولد معها الشخص، أعني أنها قد تكون مكتسبة وسالبة، في حين شعور الذنب ملازم ونشط. يرى الألماني نفسه كمواطن مَثل، ولو أنه يُمكن المجادلة أنه تفكير رغبوي أكثر منه واقعي، أي ما يتمنى أن يكونه، عوض ما هو كائن. أقول إن المواطن الألماني المثالي يُريد أن يُصدق أن كل مواطن لا يعبأ من أي خلفية يأتي شقيقه المواطن، ما لونه، عرقه، توجهه الجنسي، كل ما يُهم هو السواسية المكتسبة من كون الجميع يحملون الجواز الألماني. ماذا يعني أن تكون ألمانيا؟ يعني أن تكون وريثا لتبعات الحرب العالمية الأخلاقية والسياسية، ودعم إسرائيل جزء من ذلك، جزء من منطق الدولة (Staatsräson). وهذا المفهوم لا يعني تماما «المصلحة العليا»، ولو أنه يحتمل هذا المعنى أيضا، إنما يعني المبدئ الذي يُعد المعيار الأعلى لكل أفعال الدولة، حتى لو عنى ذلك القبول بالخروق الأخلاقية والقانونية (أي ما تفعله إسرائيل ببساطة). وتقديم هذا المصطلح يُقربنا قليلا من فهم الموقف الألماني. يشعر الألماني إذا أن هويته مُخترقة حين ينشط المعادون للسامية، لأن العداء يأتي مع انتباه لعرقك، ولقوميتك، وعرق الآخر وقوميته، وهذا ما يجرح الألماني، وهو ما يُكافح ضد تصديقه، وبكونه واقع الحال.

يشعر المسلم والعربي بعدم الأمان، أو على الأقل عدم الراحة. يشعر الألماني أيضا بهذا لأن الحكومة تقف دون شرط خلف إسرائيل، بينما يُشكك المواطن العادي بمدى أخلاقية وحكمة هذا الموقف. ليس صعبا على ألمان الجيل الجديد الوصول إلى مصادر أخرى للمعلومة، هذا يعني أن ما يشكل رأيهم ليس الصحافة والإعلام الألماني وحده، ورغم أن البعض يملك قناعة بأن الدولة لا تتعامل مع الموقف بشكل ملائم، إلا أن الجميع لديه نوع من التخوف حول الإدلاء بآرائهم الفعلية، يصل حد هذا التخوف من دوائر الزملاء الضيقة، والأصدقاء، والعائلة. يُمكننا الحديث مطولًا ورده بشكل سطحي إلى الخوف المورث من أيام نشاط الشتازي. ولكن أظن أن ثمة شيء آخر، الخوف من أن تُجانب الصواب، من أن يخونك التعبير، من أن تخرج عن الصورة المثالية التي تُريدها لنفسك.

مع اقترابنا من اليوم الـ50 على الحرب (حتى وقت كتابة هذا المقال)، والمرور بحالات الـ: الصدمة، إعادة التفكير بالهوية، والآن وقد حل أسبوع جديد، ها هو الإعلام الألماني ينشغل بالدين العام واضعا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الرف. لكن من يُتابع عن كثب يُدرك أن القضية ستبقى حية، فهذه ليست حربا على غزة، إنها ثورة ضد كل أشكال عدم المساواة في العالم.

نوف السعيدي كاتبة وباحثة عُمانية في مجال فلسفة العلوم

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن تکون یبدو أن ما لا ی التی ت التی ی

إقرأ أيضاً:

ما بين الشرع ومحمد مرسي.. حتى لا تكون فتنة!

ليست السلطة في مصر فقط التي خسرت، بالوضع الجديد في سوريا، فقد خسرنا نحن أيضا!

لم تعد سوريا تمثل للسلطة نموذجا لضرب الأمثال، وهي تعد نعمتها على الشعب المصري؛ فقد حمت البلاد من أن تكون مثل هذا البلد أو ذاك، وتتغير الأسماء في كل حول، لكن الثابت من هذه الدول مضرب الأمثال هي سوريا!

وقد عم الخراب في بلاد الشام، ودمرت سوريا تماما، وفشلت ثورتها في تحقيق أهدافها، وكنا نرد على ذلك بأن خصوم هذا النظام لم يقصروا في مهمة تحويلنا إلى سوريا وفي تقليد بشار الأسد، باستخدام القوة في مواجهة شعبه، وإن كان من فضل في عدم تحويل مصر إلى سوريا، فهو يرجع لسلمية الثورة، التي تعرضت للبطش، والقتل، دون أن تنحرف إلى العنف!

وفي جانب الآخر، فإن تجربة بشار الأسد مثلت إلهاما للسلطة المصرية من زاوية مختلفة، إنه النظام الذي استخدم القوة المفرطة، على مرأى ومشهد من العالم كله، وإزاء البراميل المتفجرة التي ألقيت على الناس لم يهتز الضمير العالمي، إلا من باب إبراء الذمة ببيانات لا تسمن ولا تغني من جوع، كل هذا لأن إسرائيل لم تر بديلا أفضل لسوريا بالنسبة لمصالحها من بشار، إذن فالحل هو التقرب من الكيان بالنوافل، وهو الباب المؤدي للبيت الأبيض، ومن ينال رضاه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها!

تعد سوريا تمثل للسلطة نموذجا لضرب الأمثال، وهي تعد نعمتها على الشعب المصري؛ فقد حمت البلاد من أن تكون مثل هذا البلد أو ذاك، وتتغير الأسماء في كل حول، لكن الثابت من هذه الدول مضرب الأمثال هي سوريا
الفزاعة منذ عهد مبارك:

ثم إن اللعب دائما على شماعة أن الإسلاميين هم البديل له، وإذا سقط فسوف يعود الإخوان للحكم، ولهذا وكلما اعتقدنا أن مصر طوت صفحة الإخوان، أعادت السلطة التذكير بأنهم لا يزالون يمثلون خطرا، وأنهم "يلبدون في الذرة" في انتظار الفرصة لاقتناصها، وهي ذاتها الفزاعة التي استخدمها نظام مبارك، إلى حد تعامله مع الإخوان على أنهم جماعة وظيفية. وقد ذكر وزير الإعلام الأسبق محمد فايق في مذكراته، أنه التقى بمدير المخابرات العامة اللواء عمر سليمان والذي نقل إليه سعادة مبارك بشكل شخصي، عندما تسببت نتيجة انتخابات 2005 في قلق إسرائيل، والتي نقلت هذا القلق للبيت الأبيض، الذي نقله بدوره للرئاسة المصرية، وذلك منذ الجولة الأولى. وقد فاز للإخوان فيها 88 نائبا.

بيد أن هذه الفزاعة لم تمكن مبارك من الاستمرار في الحكم، عندما قرر الشعب عزله، وكان البديل له هم الإخوان، الذين لعبوا على الأغلبية في انتخابات البرلمان بغرفتيه، وفازوا برئاسة الجمهورية، فهذه الفزاعة لم تحل دون انتهاء صلاحية حكم مبارك، ومع ذلك ف!

فالبديل لبشار الأسد هو رئيس إسلامي، ومن فصيل أكثر راديكالية من الإخوان، وكانت له صولات وجولات في ساحات القوة خارج سوريا وداخلها، وإذا سلمنا بما يراد لنا أن نسلم به، وهو أن هناك تفاهمات حدثت معالسلطة الحالية تستخدم الفزاعة ذاتها، ليأتي المشهد السوري فيقلب هذه التصورات رأسا على عقب الأمريكان مقابل الحكم، دفعت للتجاوز عن أفكاره وسوابقه، فإن الإخوان لم يقفلوا باب الحوار مع الغرب في أي مرحلة من تاريخهم، وليس بينهم وبين الأمريكيين ثأر مثلا كالذي بين الشرع والقوم، وقد كان في العراق يواجه الغزو الأمريكي، بينما كان إخوان العراق جزءا من القوى السياسية التي تفاهمت مع الغازي، انتقاما من مرحلة صدام حسين، وقد نالوا جزاء سنمار كما هي العادة!

المهم هو القبول برئيس ذي خلفية إسلامية، مهما كان حجم التنازلات، ولا أظنها بالشكل الذي يروج له خصوم التجربة، فلعلها تفاهمات في حدود فكرة دينية هي بطبيعتها لا تحلم بعودة الخلافة، وليست مشغولة بتصدير الثورة، ولا تمثل خطرا على محيطها، ما لم تدفع لهذا دفعا!

وهو تحول ينبغي أن يمد السلطة المصرية بجرعات إضافية من القلق، فليس فقط أنها خسرت النموذج على إنجازاتها، فسوريا لم تعد مضرب الأمثال، لكن بجانب هذا فقد انتهت صلاحية الفزاعة من البديل!

تحول ينبغي أن يمد السلطة المصرية بجرعات إضافية من القلق، فليس فقط أنها خسرت النموذج على إنجازاتها، فسوريا لم تعد مضرب الأمثال، لكن بجانب هذا فقد انتهت صلاحية الفزاعة من البديل
التنازل عن التلقائية:

وإذا كانت هذه قسمة السلطة في مصر من تطور المشهد في بلاد الشام، فإن قسمتنا أنه فرض علينا التنازل عن التلقائية عند الحديث عن نجاحات الشرع أو قدراته، فلم أكد أعلق على تمكنه من ردع التمرد في الساحل، وإفشال محاولة الانقلاب عليه، حتى استدعى كثيرون الحالة المصرية للمقارنة، وما جنته عليهم السلمية من فشل للتجربة، منذ قيام الثورة في يناير إلى الانقلاب عليها، وهي مقارنة لصالح فكرة المواجهة المسلحة، وكيف أن سلمية الرئيس محمد مرسي دفعت للتطاول عليه تمهيدا لإسقاطه، فلم يواجه التمرد كما واجهه الشرع، وعندما عُزل كانت السلمية سببا في المذابح التي ارتكبت بحق المتظاهرين السلميين!

يعزز من الفكرة التي يروج لها هؤلاء الغاضبون، فشل تجارب الإخوان السياسية وعلى كافة المستويات، ففشلت تجاربهم في مصر، واليمن، وتونس، وفشلت تجربة حكمهم بالرضا الملكي في المغرب، وفشلت تجاربهم في مهادنة الغزاة في العراق وأفغانستان؛ بينما عاد للحكم في الإمارة الإسلامية من قاوموا الغزو، فقد أجبروا الغزاة على التفاوض معهم بينما أيديهم في مائدة التفاوض هي العليا، ويردون الآن على ترامب تحديا بتحد، يطالب بالسلاح الأمريكي الذي تركته القوات، فيقولون له تعالى خذه إن كنت تستطيع.. إنه غنيمة حرب!

ولو كنت إخوانيا، ونظرت إلى فشل التجارب في كل هذه العواصم وفي فترة متقاربة، لأفزعتني هذه النهايات الأليمة. والإخوان هم الجماعة الأم في المجال، الأمر الذي دفع الجماعة الإسلامية للركون إليها بعد الربيع بدون الدخول معها في مناقشة، لأن الأخت الكبرى تمتلك خبرة سياسية يفتقدونها!

ثم تصرف وجهك تلقاء اليمن فيدهشك هذا العجز المطاع، وكانت أمامهم فرصة لم يحسنوا استثمارها، وقد تصدع المحور الإيراني في المنطقة، فسقط الأسد، وتعرض حزب الله لضربات واغتيالات لقادته أفقدته توازنه، وأصبح الحوثيون هدفا أمريكيا، وكان على جماعة الإصلاح أن تستغل الفرصة وتستحوذ على السلطة، فلم تتحرك، وها هي الضربات الأمريكية على الحوثيين عنيفة منذ يومين، فلا حس ولا خبر لجماعة الإصلاح الإخوانية، كأنهم ينتظرون قرارا من الكونجرس بتمكينهم من السلطة، وهم في حالة مدهشة من فقدان الإرادة!

وهذا الشعور بالفشل يستغله الشباب الغاضب في الانتصار لأفكار أخرى، وباعتبار أن السلمية ليست هي الحل، وهذا قصور في التصور وغبش في الرؤية!

فلم تكن السلمية شعارا رفعه المرشد العام للإخوان من منصة رابعة العدوية: "سلميتنا أقوى من الرصاص"، فهو شعار الثورة المصرية من أول يوم عندما كانت تجمعا لكل الأفكار، وليست إخوانية أو إسلامية فقط!

كانت الشرطة تطلق علينا القنابل المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي، فنهتف: سلمية، فلم تكن في يد أحدنا عصا أو حجر، وانتهى اليوم بنفاذ الذخيرة وهروب الشرطة ودخولنا ميدان التحرير، وبالسلمية أسقطنا مبارك، بينما الثورة السورية لم تنجز ذلك، لأسباب مرتبطة بخصوصيتها، وأجبرها إجرام النظام على حمل السلاح. وكان المشهد محبطا على مدى كل هذه السنوات، وأزعم أن فصائل كثيرة استسلمت للهزيمة، لكن الأمر توقف على شخصية متفردة، لم تخر عزيمتها، وهي شخصية ليست متوفرة دائما، فهي من الندرة بحيث أنها أفراد عابرة في سياق التاريخ!

أنظر للمشهد المصري وعلى مدد الشوف، من مثل الشرع؟.. سيكون الرد: الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل. فهل الشيخ حازم أبو إسماعيل مع استخدام القوة، وحمل السلاح؟! إنه في دعوته للمواجهة كان مع السلمية، سواء ما نقل عنه بعدم ترك ميدان التحرير، أو المظاهرات التي دعا إليها، أو حتى بدعوته الخاطئة بحصار وزارة الدفاع!

خصوصية الحالة المصرية:

لنأتي لخصوصية التجربتين؛ السورية والمصرية، فالسوريون كانوا يواجهون جيشا قبليا في الأساس، والجيش المصري ليس كذلك، والثورة السورية شهدت انشقاقا في صفوف الجيش، وهو الذي دشن لفكرة حمل السلاح. ولم يشهد الجيش المصري انشقاقا مع يناير، وعندما جاء نفر من العسكريين ينحازون للثورة لم يكونوا على قاعدة الانشقاق، ومع ذلك فإن الثوار أنفسهم وجدوا حساسية -هي في موضعها- من أن يفقد الجيش تماسكه، وأن يتمرد من ينتمون إليه على قواعد الانضباط، لأن هذا ليس في مصلحة الوطن، ولو من منطلق ثوري!

ومن انحاز للثورة من الضباط لم يكونوا من دعاة عسكرة الثورة، ففي إحدى تجلياتها جاءت قوة عسكرية لميدان التحرير، وألقت القبض على من تواجد منهم وقدمتهم للمحاكمة العسكرية، فلم يقاوموا ولم يدعوا للمقاومة، وهذه خصوصية الحالة المصرية!

كما أن استخدام العنف ليس اختراعا جديدا لم تعرفه مصر، فقد عرفت مصر التنظيمات المسلحة الإسلامية واليسارية (التنظيم الناصري المسلح)، وانتهت جميعها للفشل، لخصوصية الشعب المصري، وكان يكفي استخدام التفجيرات في بعض الأماكن للدعاية ضد الجماعات الدينية، وبعض هذه التفجيرات نسبت إليها، لتفقد الحاضنة الشعبية، ويتمكن النظام من افتراسها، فتجبر على المراجعات بعد أكثر من ربع قرن من السجون والمعتقلات.

إن الحالة السورية تحفظ ولا يقاس عليها، للاختلاف بينها وبين الحالة المصرية
ولن يتحمل المصريون الفوضى ليوم واحد، ولهذا عندما شاهدنا ما عرف بالاحتجاجات الفئوية اليومية بعد تنحي مبارك، قلنا إنها مؤامرة على الثورة، لدفع الناس للعداء لها!

أنت لم تُهزم بمذبحة رابعة، وإلا قل لي: هل أقام قيس سعيد مذبحة سيدي بوسعيد مثلا في تونس؟ لماذا هُزم القوم هناك؟!

الهزيمة كانت في ساحة السياسة، وعندما واجه الشرع تمرد الساحل، كان بمقتضى شرعيته كرئيس للبلاد، وقدم الجناة للمحاكمة، وسترد: وأين القضاة الذين كانوا سينفذون القانون على المتمردين في مصر؟ وهنا نأتي لنقطة تمايز أخرى بين الحالتين.

هل كان الرئيس محمد مرسي لديه رغبة حقيقية في إنزال العقاب القانوني على من تمردوا عليه ووصل الحال إلى محاولة اقتحام القصر الرئاسي ببلدوزر دفع به أحمق أغرته سماحة الحكم بهذه الفعلة الشنعاء؟ وهل كان منطقيا أن يترك لحال سبيله؟!

ستقول إن مؤسسات الدولة لم تكن مع الرئيس، ومع تحفظنا لهذا العذر وهو أقبح من ذنب، فخصوصية الثورة المصرية دفعت للإبقاء على دولة مبارك، والثورة السورية هي في حل من مؤسسات الأسد، فقد أسقطته وأسقطت مؤسساته.

وكانت أمامنا تجربة ثورة يوليو 1952، التي شقت طريقها دون هدم المؤسسات القائمة من العهد البائد، فقد هدمت المؤسسات السياسية وتركت ما دون ذلك، ومع ذلك نجحت في مواجهة تحدياتها!

إن الحالة السورية تحفظ ولا يقاس عليها، للاختلاف بينها وبين الحالة المصرية، ومكلف الأيام ضد طباعها، متطلب في الماء جذوة نار!

مقالات مشابهة

  • المرأة .. توازن مثالي بين الصيام والأعمال المنزلية
  • كيف تكون السماء في ليلة القدر؟ وما هي علاماتها؟
  • السلطات التونسية تنتشل 18 جثة وتنقذ 612 مهاجرا غير نظامي
  • عندما تكون الامة  قرار
  • ما بين الشرع ومحمد مرسي.. حتى لا تكون فتنة!
  • أن تكون قتيلا في العراق
  • إفطارهم في الجنة محمد مبروك.. صوت الحق الذى لم يسكت
  • نائب: الحق في الملكية الخاصة واحد من حقوق الإنسان الأساسية
  • نشأت الديهي مصر ليست طرفًا في أي حرب.. وترحيب بتصريحات ترامب الأخيرة
  • نصائح لا بد منها للحصول على نوم مثالي خلال الليل.. تعرف عليها