الترجمة عن الفرنسية : حافظ إدوخراز -

يقتصر تدريس مادة الفلسفة في فرنسا على المدارس الثانوية، وتُدرّس هذه المادة في المدارس الثانوية العامة والتقنية فقط، وليس في المدارس الثانوية المهنية. يمكننا أن نعدّ غياب تدريس هذه المادة في هذه المدارس بمثابة عنفٍ مؤسّسيٍّ موجّهٍ ضد الطبقات الشعبية (الممثَّلة بشكل زائد في هذه المدارس حيث ينحدر الجزء الأكبر من تلاميذها من هذه الطبقة الاجتماعية).

وهذا على الرغم من كون الفلسفة هي التخصص الذي لا غنى عنه من أجل بناء تفكير مستقل ونقدي ومركّب، تستحيل ممارسة المواطَنة المستنيرة من دونه. يختبر الأطفال الصغار الفلسفة في وقت مبكّر جدًا من حياتهم من خلال «الدهشة أمام العالم». وبالنسبة إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو، فإن ما يميز البشر عن الحيوانات الأخرى هو تحديدا هذه القدرة على الاندهاش (العمر الذي نسأل فيه عن «لماذا؟» و»كيف؟»). لا يوجد عمرٌ مثالي من أجل طرح الأسئلة الفلسفية والانطلاق قُدما في هذا المسار الفكري الوجودي الذي يمنح معنى للعالم. وكما أشار الفيلسوف الفرنسي مونتين (Montaigne) (1533-1592) في كتابه «المقالات»: «إننا نخطئ خطأ جسيمًا حينما نعرض الفلسفة كشيء بعيدٍ عن متناول الأطفال، وذو وجه متجهّم وعابس يثير الفزع. فمن الذي ألبسها هذا القناع الشاحب القبيح؟ ما من شيء أكثر بهجة وحيويّة ومرحا، وأكاد أقول أكثر مدعاةً للعب من الفلسفة». (1)

بعد مرور خمس مائة عام على هذه الدعوة إلى «اللعب»، تتطوّر ممارسة الفلسفة مع الأطفال -في المدرسة وفي المدينة- لتتّخذ أشكالا مختلفة في جميع أنحاء العالم. وبخلخلتها للتمثّلات التقليدية لتدريس مادة الفلسفة، تستجيب هذه الممارسات لرهانات متعددة لكنها متكاملة:

- الرهان الأول ذو طبيعة أخلاقية ويتعلق بالاعتراف: هذه الممارسات هي بمثابة اعتراف بالتلميذ (حتى لو كان صغير السن أو كان يعيش في ظروف صعبة أو كان من ذوي الإعاقات) كذاتٍ تستحق الإنصات والحديث والتفكير؛

- الرهان الثاني ذو طبيعة سياسية ويتعلق بالتّمكين: تشكّل هذه الممارسات التي تستند إلى مبادئ النقاش الديمقراطي والذكاء الجمعي، أيضا فرصة من أجل التمرّن على التداول والإنصات إلى وجهات النظر المختلفة والتفكير النقدي والمركّب.

الفلسفة والديمقراطية

تاريخيا، بدأت التجارب الأولى لممارسة الفلسفة مع الأطفال في سبعينيات القرن الماضي في جامعة مونتكلير (Montclair) بالولايات المتحدة، مع أعمال الفيلسوفين ماثيو ليبمان (Matthew Lipman) (1923-2010) وآن مارغريت شارب (Ann Margaret Sharp) (1942-2010). وكان كلاهما من تلاميذ الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (John Dewey) (1859-1952)، أحد مؤسسي الفلسفة البراغماتية، وهي فلسفة تسعى أن تكون تحرّرية، تنطلق من الواقع والتجربة وتستند إلى نموذج البحث الاستقصائي والمشكلة والمنهج العلمي. غير أن ثمة بُعدًا سياسيًا أيضًا في القضية، فقد رفض جون ديوي الرؤية التقنية للديمقراطية باعتبارها الآلية الرسمية الوحيدة. يرى ديوي على خلاف ذلك أن الديمقراطية هي أسلوب حياة، أي مجموعة ديناميكية من القدرات والعادات على مستوى السلوك والحديث والتداول مع الآخرين. نميل كثيرا إلى حصر الحياة الديمقراطية في إجراء لا يحدث إلا كل خمس سنوات -عملية التصويت- عوضًا عن تسليط الضوء على ما يجب العمل عليه كل يوم على مستوى تفاعلاتنا الاجتماعية اليومية. ومن هنا جاءت فكرة ليبمان وشارب بإنشاء «مجتمعات البحث الفلسفي» في الفصول الدراسية التي تضم أطفالًا صغارًا في السن، والتي تختبر مفهومهم للديمقراطية من خلال ترجمته إلى أفعال على أرض الواقع.

ورشات للتفكير

إن كل ما يكون موضوعا للعب وللممارسة في ورشات الفلسفة، وما يُخاض فيها من تجارب يسهم في تطوير عاداتٍ لدى الأطفال تتموقع في صميم متطلّبات سير الديمقراطية وأدائها. يجلس الأطفال خلال هذه الورشات معا مشكّلين دائرة -حيث تتقابل الوجوه مع بعضها البعض- ويقومون بصياغة الأسئلة وممارسة التفكير ومناقشة الأفكار المختلفة التي يتم التعبير عنها. وانطلاقا من سؤال ما (مثلا «ما هو القانون العادل؟»، أو «هل يمكن أن نكون أشرارا وسعداء؟»)، يُدعى الأطفال إلى صياغة الفرضيات واستنتاج الافتراضات الضمنية وعواقبها، ويُطلب منهم تبرير آرائهم، وتقييم صحة الاقتراحات المختلفة من الناحيتين العقلانية والأخلاقية بشكل جماعي. ويطوّر الأطفال في هذه الورشات، بصبر وأناة -بفضل الدعم الصارم من طرف معلّميهم- تفكيرا يكون نقديا وحذِرا وإبداعيا.

تعدّ الوسائط الثقافية ضرورات لا يمكن الاستغناء عنها في هذه الورشات، فالسرديات (مثل أدب اليافعين والأساطير والسينما) تسمح لنا باتّخاذ مسافة عاطفية من أجل التفكير بشكل واضح وجليّ. وكما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricoeur)، فإن الخيال هو «مختبر» هائل حيث يمكن تجربة جميع أبعاد الحالة الإنسانية. تُعيننا هذه التجارب التي نخوضها في «مختبر الخيال الكبير هذا (2)» - أن نصبح غير مرئيين من خلال لبس الخاتم السحري لجيجس (Gygès) بصحبة أفلاطون، أو الوقوع في الحب بصحبة سيرانو، أو مواجهة معضلة بصحبة شخصية نيو في فيلم ماتريكس –على إضفاء الوضوح على علاقتنا بالعالم: ما نعنيه بـ«الفضيلة» أو «الحب» أو «الحقيقة». وبالتالي، فإن هذه اللحظات الفلسفية هي أيضا فرصة لتجربة الوظيفة الأساسية للفن والخيال، لا بغرض التسلية والترفيه عن أنفسنا ونسيان الواقع، وإنما على العكس من ذلك من أجل تحريض أنفسنا على التفكير ولفهم هذا الواقع على نحوٍ أفضل (3).

إذا كان أحد التحديات الذي تواجهه التربية الديمقراطية هو محاربة مزالق الدوغمائية والنزعة النسبية، فينبغي على التعليم إذن تمكين مواطني ومواطنات المستقبل من تحصين أنفسهم من خلال التزوّد بدفاعات فكرية تجنّبهم الوقوع فريسة هذين «المرضين الشيخوخيّين اللذين تعاني منهما حداثتنا المتأخرة» على حدّ تعبير الفيلسوف ميشيل فابر (Michel Fabre) (4). تظل الدوغمائية (سواء كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية) متصلّبة ومنغلقة على نفسها تدور حول إجابات قاطعة وغير قابلة للنقد؛ وعلى العكس من ذلك، تمنع النزعة النسبية نفسها من تقديم أية معايير موثوقة. وحدها المقاربة الهرمينوطيقية للعالم، والتي تقوم على التفسير الدقيق والصارم للظواهر، بإمكانها أن تلقي ما يكفي من الضوء على تعقيد الواقع والوجود وتُتيح نظرة ثاقبة بهذا الخصوص. يشبه العالم نصًّا يجب تأويله، ومثل أي تأويل أدبي، تبقى القراءات التي يمكن أن نقوم بها للنص متعددة، غير أنها تستند جميعها إلى بيانات وقائعية وثابتة.

عدم اليقين.. أمر صحّي

من خلال المشاركة المنتظمة في ورشات الفلسفة، يدرك الأطفال تدريجيًا أنه لا ينبغي لنا أن نخشى من عدم المعرفة، ويفهمون أن انعدام اليقين هو أمر ضروري وصحّي وطبيعي. وتُتيح ورشات الفلسفة -التي يشارك فيها الطفل بشكل منتظم- إمكانية تطوير موقف تأويلي بشأن المسائل الإنسانية الأساسية.

يرى الفيلسوف الألماني هارتموت روزا (Hartmut Rosa) - راعي كرسي اليونسكو: «ممارسة الفلسفة مع الأطفال» (5) - أن عصرنا يتميز قبل كل شيء بالضغط المستمر الذي تمارسه الوتيرة الجامحة للحياة على الأفراد، سواء كانوا بالغين أم أطفالا، حيث يواجهون العالم من دون أن يتمكّنوا من إمساكه وتملّكه. هذا الشعور بالحاجة إلى الإسراع باستمرار («أسرع!» هي العبارة التي يسمعها الأطفال كل يوم أكثر من أي عبارة أخرى..)، والشعور بالإرهاق الدائم، إضافة إلى استبطان قيم المنافسة والأداء والفردانية، كل هذا يؤدي في النهاية إلى القلق، والشعور الغامر بالذنب، والإحساس بفقدان المعنى أو حتى بالعجز عن السيطرة على الواقع وعلى حياة الواحد منّا (6).

تمنح ورشات الفلسفة للأطفال واحات للتفكير وفرصة لإبطاء السرعة من أجل أن يأخذوا الوقت الكافي للدخول في حوار مع أنفسهم ومع الآخرين ومع الأعمال الفكرية ومع العالم. تعدّ هذه الورشات إحدى الروافع التي يمكنها الإسهام في عملية التحرّر والاعتراف. وبالتالي فإن الرهان هنا لا يقتصر على الجانبين الديداكتيكي والبيداغوجي فحسب (دمقرطة الولوج إلى مادة مدرسية هي الفلسفة)، بل ثمة بُعد سياسي لهذه الورشات بالمعنى الأكثر نُبلا لكلمة «السياسة».

هوامش:

(1) : Michel de Montaigne, « De l›institution des enfants », Essais, Volume I, chapitre 26, 1580.

(2) : Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, 1990, réédition, Editions du Seuil, collection «Points», 2015.

(3) : Edwige Chirouter, Ateliers de philosophie à partir d›albums et autres fictions, Hachette, 2022.

(4) : Michel Fabre, Éduquer pour un monde problématique. La carte et la boussole, Presses Universitaires de France, 2011.

(5) : https://chaireunescophiloenfants.univ-nantes.fr

(6) : Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, Editions La Découverte, 2020.

إدفيج شيروتي أستاذة باحثة في فلسفة التربية بجامعة نونت (فرنسا)، وحاملة كرسي اليونسكو: «ممارسة الفلسفة مع الأطفال: أساس تربوي من أجل الحوار بين الثقافات والتحول الاجتماعي»

عن مجلة علوم إنسانية، عدد 362

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال من أجل فی هذه

إقرأ أيضاً:

من تجريدِ الفلسفةِ إلى المجرَّدِ النَّحوي: كتابةٌ تُوجِّهُ ذاكرةَ الصِّبا الباكرِ صوبَ الملموس

محمَّد خلف

تعرِفُ الفلسفةُ، رغم تأفُّفِها الظَّاهريِّ، كيف تُروِّجُ لمفاهيمِها المُغرِقَةِ في التَّجريد؛ ولكن حينما تعُمُّ وَفَرَتُها وتُصابُ أسواقُ تداوُلِها بالتُّخمةِ المعرفيَّة، تنتصِبُ الحاجَةُ إلى التَّجريدِ بالمعنى النًّحوي، حيثُ تتعرَّى الكَلِمُ من أيِّ تزيُّدٍ حرفي؛ وعندها، تشتدُّ الحاجةُ أيضاً إلى شاعرٍ يفتحُ مساراً مفارِقاً للمألوف، لِيضعَنا وجهاً لوجهٍ أمام الأشياءِ الملموسةِ ذاتِها، فيما يفتحُ لنا كُوَّةً جديدةً نُطِلُّ منها على عالمٍ مغاير؛ وهو تحديداً ما فعله الشَّاعرُ المُرهَفُ سيدأحمد علي بلال، الَّذي نقلنا بحِرفةٍ حاذِقةٍ من الطَّبقةِ العاملة إلى كَلَّةِ العمَّال؛ ومن المدينةِ الواسعةِ الأرجاء إلى الحيِّ السَّكنيِّ المحدود؛ ومن دفءِ الغرفةِ المنزليَّةِ إلى رطوبةِ العنبر؛ ومن وسائل الاتِّصالاتِ العامَّة إلى صندوقِها البريديِّ المرقَّم؛ وذلك في كتابٍ سيتمُّ تدشينُه اليومَ (السَّبت 29 يونيو 2024) في لندن تحت عنوان: "ص ب: ٣٠ - عنابر ديم التِّيجاني".
منذ البدء، أطلق الشَّاعرُ العنانَ لذاكرتِه الغضَّة، ولم يتدخَّل بغِلظةٍ لتوجيهِها وفقَ تحيُّزِه المعرفي، وإنًّما وجَّهَها، مثل كاميراتِ التَّلفزةِ، بمهارةٍ نحو العنابرِ والأسِرَّة؛ خزاناتِ الملابسِ وحقائبِ السَّفر؛ السَّاحاتِ والملاعب؛ الكنتينَ والطَّاحونة؛ دارِ الرِّعايةِ ومركزِ الشُّرطة. لكنَّه، مع ذلك، يُنبِّهُنا بلُطفٍ شديد إلى الدَّورِ التَّثقيفيِّ لدورِ السِّينما، والدَّورِ التَّربويِّ للحانة، حيثُ تقومُ الأمُّ صاحبةُ "الإنداية" بدفعِ رسومِ الدِّراسةِ لابنتها التَّي "تتلقَّى دروسَها باللُّغةِ الإنكليزيَّةِ، كما تُجيدُ الأمهريَّةَ والتِّغرنجا والعربيَّة". ولا يُشيرُ الشَّاعرُ إلى الكفاحِ السِّياسيِّ للعُمَّالِ إلَّا لِماماً، حفاظاً على مصداقيَّة حداثةِ سِنِّه أثناء إقامته في عنبر الكلَّة السَّابعة بديمِ التِّيجاني في مدينة بورتسودان، حيثُ يقول: "لا أستطيعُ تقديمَ صورةٍ عن وجودِ نضالاتٍ عُمَّاليَّة [..] لكنِّي أتذكَّرُ أنَّه أثناء تنفيذ أحد الإضرابات، [..] حاول بعضُ العمَّالِ التَّسلُّلَ من عنابرِ الجانبِ الغربيِّ للذَّهاب إلى العملِ خروجاً على قرارِ الإضراب، بينما كان مؤيِّدو الإضرابِ ينتشرونَ لِيمنعوا كلَّ مَن يُحاوِلُ كسرَ الإضراب، صائحينَ به (إشكع ... إشكع)".
إلَّا أنَّ الشَّاعرَ يُحدِّثُنا بإسهابٍ وتعاطفٍ لا يعرِفُ الموارَبة عنِ الحياةِ اليوميَّة للعتَّالة والخفراءِ والعربجيَّة، وكيف يتقاسمون شظفَ العيشِ وكسرةَ الخبزِ والقرقوش بينهم، فقد "كانوا فقراءَ [..] إذ نادراً ما كان يملكُ أحدُهم جهاز راديو أو درَّاجة أو ساعةَ يد"؛ وفي نفسِ الوقت، يُوفِّرُ وصفُه التَّفصيليُّ للباحثينَ في مجالِ الاقتصاد والعلوم الاجتماعيَّة عينةً صغيرة قابلةً للدِّراسة وأرضاً بِكراً لِتَكوُّنِ طبقةٍ مهمَّة من طبقاتِ المجتمعِ السُّوداني، كما يوفِّر للمهتمِّين بالشَّأنِ الثَّقافيِّ وجهاً آخرَ منسيَّاً من وجوهِ الحداثة، وهو تعدِّيها على أنماطِ العيشِ التَّقليديَّة واستغلالُها لحاجاتِ المُعوِزين، الَّذين لا يملكون أرضاً لفلاحتها أو نشاطاً تجاريَّاً يتعيَّشون به أو سهلاً خصباً لتربيةِ قطيعٍ من الأبقارِ أو الأغنام. وفي مقابلِ فقدهم لتلك الأنماط، تُوفِّرُ لهم الشُّروطُ الجديدة عملاً بأجرٍ محدود، شريطةَ الخضوع لقوانين الخدمةِ وتراتبيَّة الهياكل وتنظيمِ الوقت؛ فأفرادُ الكَلَّة (أي فرقة العمل) التَّابعين لهيئة السِّكك الحديديَّة الَّذين يتعيَّن عليهم نقل البضائع من وإلى رصيف الميناء والمخازن وعرباتِ قطاراتِ النَّقل، مطلوبٌ منهم لإنجازِ هذا العملِ اليوميِّ الشَّاقِّ أن يستيقظوا مبكِّراً منذ الخامسة والنِّصف صباحاً، وأن يعملوا لمدَّةِ ثماني ساعاتٍ بنظامٍ قائمٍ على ورديَّتَيْن، تعمل الثَّانيةُ منها إلى العاشرة مساء.
ليس هذا فحسب، وإنَّما تخضعُ إقامتُهم في عنابر ديم التِّيجاني إلى نُظُمٍ صارمة، بدءاً من الاستيقاظِ فجراً إلى وقتِ إطفاء الأنوار مبكِّراً في تمام السَّاعة التَّاسعة مساءً. كما تجري كلَّ يومٍ، ما عدا يوم الجمعة، عمليَّة مرور، يتأكَّد فيها الملاحظُ ومساعدوه من نظافةِ العنابر والمساحاتِ التي تفصل بينها؛ فهي، وعددُها ستةَ عشرَ عنبراً، كانت موزَّعة على أربعة صفوف، ومساحتها 320 متراً (8 أمتار في 40 متراً)؛ وقبل تحويلها إلى مخازنَ الواحدَ تلوَ الآخر، كان كلُّ عنبرٍ منها مأوًى لكلَّتَيْن، تُقسَّمُ كلُّ كَلَّةٍ إلى فريقين (أ) و(ب)، ويتراوح عددُ كلِّ فريق بين (15) إلى (18)، لكلِّ فردٍ منهم رقمٌ يُعرَفُ به وخِتمٌ يحملُ اسمه، لاستلامِ المرتَّبِ الشَّهري، وهو توقيعٌ معترفٌ به في التَّعاملاتِ الماليَّة. لكنَّ العاملَ في الكلَّةِ لم يكُن يملُكُ سوى عنقريبَ وحقيبةٍ حديديَّة لحفظ الملابس وأخرى من الصَّفيحِ لحفظ السُّكَّر والبلح والبسكويت. ويتقاسمُ أفرادُ العنبر الواحد جميعَ المرافقِ العامَّة وهي الحمَّامُ والمطبخ والمَزيَرة، والمراحيضُ خارج العنبر. كما يقوم النَّبطشي -وهو عاملٌ تمَّ تفريغُه- بإعدادِ الطَّعام، فيبدأ مع آذانِ الفجر بإعدادِ الإفطار لورديَّة الصَّباح الَّتي تبدأ عملَها في الخامسة والنِّصف صباحاً، كما يقوم بإعدادِ كفتيرةِ الشَّاي الَّتي يستقبِلُها الأفرادُ المتبقُّون في العنبر بأكوابِهمِ الخاصَّة.
ويخضع توزيع العنابر والبيوت إلى وضعيَّةِ العامل داخل الهرم الإداري؛ فأفرادُ الكلَّاتِ يسكنون في العنابر، وعلى جانبٍ منها تقع بيوتُ قدامى العمَّالِ ومساعديهم، ثم بيوت شيوخ الأقسام ومساعدي الملاحظ؛ وأخيراً بيت الملاحظ نفسه. وعلى يمينه، يوجد كنتين التَّعاون؛ وبالقرب منه المرفق الصِّحِّي؛ كما يوجد أيضاً مبنى المكتب الرَّئيسي لديم التَّيجاني المسؤول عن حفظ سجلَّاتِ العمَّال، وإصدار تصريحات السَّفر بالسِّكك الحديديَّة؛ كما هو المكتبُ الذي تُعقَدُ خارجه كلَّ مساءٍ جلسةُ التَّعليمات، الَّتي يعرِفُ من خلالها أفرادُ الكلَّةِ توزيعَ مواقعِ العمل في اليوم التَّالي، إضافةً إلى النَّظرِ في الشَّكاوى والتَّظلُّماتِ المختلفة وفضِّ النِّزاعاتِ إن وُجِدت، وفرضِ العقوباتِ إنِ اقتضتِ الحاجة؛ كما يوجد بالمكتب صندوق البريد رقم (30)، الَّذي يكتسِبُ أهمِّيَّةً قصوى في هذا الكتاب، لأنَّه هو الصِّلةُ الوحيدة الَّتي تربط أفراد الكلَّاتِ بأُسَرِهم، والَّتي يبرِزُ من خلالها دورُ الكاتب بوصفِه محرِّراً رئيسيَّاً للرَّسائل لسنواتٍ وحافظاً أميناً لأسرارِها إلى الأبد، فقد كان يكتبُ "ما قد يتجاوز الخمسين خطاباً في الشَّهرِ لعمَّالِ العنابر" لمدَّة تسعِ سنوات (1957-1965)؛ وكان غرضُها الأساسيُّ هو "إبلاغُ المرسَل إليه بتفاصيل توزيع المبلغ المالي المُرسَل [..] وإبلاغ السَّلام إلى أفرادِ الأسرة". ويُمكِنُ الجزمُ بأنَّ تلك الرَّسائل بالرَّغم من أنَّها رسائلُ عاديَّة، إلَّا أنَّها هي الَّتي هيأتِ الكاتبَ للتَّعوُّدِ على حرفةِ الكتابة، مثلما أنَّ الزَّراعة هي الَّتي مهَّدت له الطَّريقَ لتجويدِ التَّرجمة، تماماً كما فتحتِ الكتبُ في حقيبةِ شقيقِه الرَّاحلِ إبراهيمَ له البابَ لِيَطرِقَ بابَ الشِّعرِ ويسلُكَ درُوبَه منذ وقتٍ مبكِّر.
وبالتَّرافقِ مع صبرِ الكاتبِ لسنواتٍ على كتابةِ الرَّسائل وتدرُّجه في المراحلِ التَّعليميَّة، كانت مدينة بورتسودان تنمو أيضاً وتزدهر؛ وقد أتاح لنا الكاتبُ فرصةَ مشاهدتِها وهي تحتلُّ بصبرٍ ومثابرة مكانَ ميناءِ سواكن القديم. ومثلما أدرك عمُّه عثمان بلال مبكِّراً بأنَّ النَّهرَ والخلاء لَيْسَا مِلكاً لأحد، أدركتِ السُّلطاتُ الاستعماريَّة باكراً أنَّ البحرَ ليس مِلكاً لأحدٍ، فقرَّرت وضعَ يدِها عليه بإنشاء ميناء بورتسودان؛ فتحوَّلَ الجُهينيَّة بتأميمِ المياهِ من موَّرِّدين للبضائعِ عبر البحرِ بالطُّرُقِ التَّقليديَّة إلى مهرِّبينَ يتفادون إيجارَ المرافئ ودفعَ رسومِ الجمارك إلى سلطاتِ الميناء. كما جلب المستعمِرُ خبراءَ يمنيِّين من ميناء عدن الَّتي أُنشئت قبل بورتسودان، فانتشرت بقدومِهِمِ المطاعمُ والمقاهي في سوق أبي حشيشَ وسلبونا؛ وأصبحت هناك دارٌ للرِّياضة، ودارَانِ للسِّينما هما سينما الشَّعب وسينما الخواجة؛ وانبثق دكَّان التَّززي حسن علي أبو سِنَّة منتدًى اجتماعيَّاً لأبناء قرية حزيمة (وهذا جانبٌ مهمٌّ في السَّردِ لن نتمكَّن من تغطيته في يومِ التَّدشينِ هذا). لكنَّنا نقولُ، في ختامِ هذا العرضِ الاحتفائي، إنَّه إذا قام المستعمِرُ بالاستيلاء على البحرِ بدافعٍ من مقتضياتِ الحداثة، فإنَّ حُكامَ المدينةِ الَّذين دفعهمُ اليومَ مِسيارُ الحربِ إليها لا يكتفون بوضعِ يدِهم على إيراداتِ الميناء، وإنَّما يُصادِرونَ حقَّ ساكنيها الأصليِّين في التَّعبيرِ عن إرثهمِ الثَّقافي، فها هو مديرُ التِّلفزيون يتعرَّضُ بعنجهيَّةٍ لمذيعةٍ ترتدي زيَّها المحلِّي بزعمٍ لا أساسَ له بشأنِ وجودِ زيٍّ قوميٍّ ينبغي على الجميعِ ارتداؤه في بلدٍ أروعَ ما فيه تعدُّدُه الثَّقافي. وأروعُ ما في كتاب "ص. ب -عنابر ديم التِّيجاني" أنَّ الكاتبَ قد ثنى إحدى قدمَيْهِ، بوعدٍ قطعَه على نفسِه، لِيسكُبَ لنا مداداً من تجربتِه الثَّرة في العنابرِ والطُّرقِ الرَّطبة الَّتي تقودُ في نهايةِ المطافِ إلى يمٍّ متلاطمِ الأمواج.

khalaph@hotmail.com

algassas@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • من تجريدِ الفلسفةِ إلى المجرَّدِ النَّحوي: كتابةٌ تُوجِّهُ ذاكرةَ الصِّبا الباكرِ صوبَ الملموس
  • حول الأوضاع في السودان ونقد موقف حكومة الأمر الواقع
  • الطفولة والأمومة تطلق دليل الإجراءات القياسية التشغيلية الموحدة لمكافحة عمل الأطفال
  • مختبر افتراضي في تعليم الرياضيات
  • صراع الأفكار
  • البرلمان العربي للطفل رافد رئيسي في تأهيل قيادات الطفولة العربية
  • جوليان أسانج.. ثمن الحرية
  • الخشت: الفيلسوف الفقيه الذي يجمع بين الفكر الإسلامي والغربي
  • دراسة تكشف تأثير تلوث الهواء في الطفولة على صحة الرئة في البلوغ
  • الأنبا باخوم يلتقي أسر كنيسة العذراء بشبرا