لماذا لا نتذكر أيام الطفولة المبكرة؟
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
لا يستطيع أحد منا تقريبا تذكر ذكريات الطفولة المبكرة جدا، وهي ظاهرة تُعرف باسم فقدان الذاكرة عند الأطفال.
فلماذا نميل إلى نسيان هذه الذكريات المبكرة جدا؟. من المحتمل أن يكون ذلك لأن أدمغتنا في هذا العمر لا تعمل بعد بطريقة تجمع المعلومات في الأنماط العصبية المعقدة التي نعرفها باسم الذكريات.
ويتذكر الأطفال الصغار الحقائق في تلك اللحظة، مثل هوية والديهم، أو أنه يجب على الشخص أن يقول "من فضلك"، وهذا ما يسمى "الذاكرة الدلالية".
ومع ذلك، يفتقر الأطفال حتى عمر 2 و4 سنوات إلى "الذاكرة العرضية"، المتعلقة بتفاصيل حدث معين. ويتم تخزين مثل هذه الذكريات في عدة أجزاء من سطح الدماغ، أو "القشرة".
على سبيل المثال، تتم معالجة ذاكرة الصوت في القشرة السمعية على جانبي الدماغ، بينما تتم إدارة الذاكرة البصرية عن طريق القشرة البصرية في الخلف. وهناك منطقة في الدماغ تسمى الحصين تربط جميع الأجزاء معا.
وقد يفشل الأطفال في تسجيل حلقات معينة حتى الفئة العمرية من 2 إلى 4 سنوات، لأن ذلك هو الوقت الذي يبدأ فيه الحُصين في ربط أجزاء من المعلومات معا، كما قالت نورا نيوكومب، أستاذة علم النفس بجامعة Temple في فيلادلفيا.
وقالت نيوكومب إنه بالنسبة للأطفال الأصغر من هذه الفئة العمرية، قد تكون الذاكرة العرضية معقدة بلا داع في الوقت الذي يتعلم فيه الطفل التعرف على العالم.
وأضافت: "أعتقد أن الهدف الأساسي في العامين الأولين هو اكتساب المعرفة الدلالية، ومن وجهة النظر هذه، قد تكون الذاكرة العرضية في الواقع مصدر إلهاء".
إقرأ المزيد دراسة: 40% من منتجات أغذية الأطفال تحتوي على مبيدات حشرية سامةومع ذلك، تشير نظرية أخرى إلى أننا نقوم بالفعل بتخزين هذه الذكريات المبكرة عندما كنا أطفالا، ولكننا نواجه صعوبة في تذكرها عندما نصبح بالغين.
على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت عام 2023، ونُشرت في مجلة Science Advances، أن ذكريات الطفولة "المنسية" يمكن استعادتها في الفئران البالغة عن طريق تحفيز المسارات العصبية ذات الصلة بذكريات معينة باستخدام الضوء.
وشرع معدو الدراسة أولا في استكشاف العوامل التنموية التي يمكن أن تؤثر على فقدان الذاكرة لدى الصغار.
ووجدوا أن الفئران التي لديها خصائص اضطراب طيف التوحد المرتبط بحالة النمو العصبي (ASD) كانت قادرة على تذكر ذكريات حياتها الأولى.
وهناك أسباب عديدة للتوحد، ولكن تم ربطه سابقا بفرط نشاط الجهاز المناعي للأم أثناء الحمل. لذلك، من أجل إنتاج فئران مصابة باضطراب طيف التوحد، قام الباحثون بتحفيز الجهاز المناعي لدى إناث الفئران أثناء الحمل.
وساعد هذا التنشيط المناعي في منع فقدان الذكريات المبكرة لدى النسل من خلال التأثير على حجم ومرونة خلايا الذاكرة المتخصصة في أدمغتها. وعندما تم تحفيز هذه الخلايا بصريا في الفئران البالغة غير المصابة بالتوحد، أصبح من الممكن استعادة الذكريات المنسية.
وتشير هذه النتائج الجديدة إلى أن تنشيط المناعة أثناء الحمل يؤدي إلى حالة دماغية متغيرة، تغير مفاتيح النسيان الفطرية لدينا.
وقال توماس رايان، المعد المشارك في الدراسة، والأستاذ المشارك في الكيمياء الحيوية في كلية ترينيتي في دبلن، إيرلندا، في بيان له، إنه على الرغم من أن البحث قد تم إجراؤه على الفئران ولم تتم دراسته بعد على البشر، إلا أنه "يحمل آثارا مهمة لتعزيز فهمنا للذاكرة والنسيان عبر نمو الطفل، فضلا عن المرونة الإدراكية الشاملة في سياق مرض التوحد".
المصدر: لايف ساينس
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: البحوث الطبية بحوث
إقرأ أيضاً:
مفتاح الذاكرة الجمعية للمصريين| شعراء السيرة الهلالية.. سفراء التراث الشعبي في مصر والوطن العربي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لا يمكن الحديث عن الفن الشعبي المصري دون الإشارة إلى واحدة من أعظم الملاحم التى شكلت جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي المصري والعربي: السيرة الهلالية.
هذه الملحمة الشعبية التي تجسد قيم الشجاعة، والوفاء، والتضحية، اقترن اسمها ارتباطًا وثيقًا بالشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى، فقد كان له الفضل الكبير فى حفظ وتوثيق هذه السيرة التى كانت مهددة بالزوال، بفضل إسهاماته الاستثنائية التى ساعدت فى إحيائها وجعلها جزءًا حيًا من التراث الشعبى فى مصر والعالم العربى.
وُلد عبد الرحمن الأبنودى فى قرية أبنود التابعة لمحافظة قنا فى صعيد مصر عام ١٩٣٨، وهى بيئة غنية بالتقاليد الشعبية والحكايات التى كانت تنبض بالحياة فى مجالس الرواة.
كانت تلك البيئة، بلا شك، أحد العوامل الرئيسية التى شكلت وعيه الأدبى والشعرى، حيث نشأ على سماع القصص والحكايات التى كانت تُسرد حول النار فى ليالى الشتاء الطويلة، ولعبت دورًا حاسمًا فى تشكيل أولى ملامح تجربته الشعرية التى سيتفرد بها لاحقًا.
كان للأبنودي ارتباط خاص مع السيرة الهلالية، فقد كرس سنوات طويلة من حياته لجمع شتات هذه السيرة، التى كانت تُعد من أمهات القصص الشعبية التي رافقت الأجيال عبر الزمن.
بحسه الفطري واهتمامه البالغ، أدرك الأبنودى أن هذا الإرث الثقافى كان مهددًا بالضياع نتيجة التغيرات الاجتماعية والتطورات السريعة التى شهدها المجتمع المصرى والعربى فى القرن العشرين، ولذلك، بدأ رحلته فى جمع السيرة الهلالية منذ خمسينيات القرن الماضى، حينما بدأ يتنقل بين القرى والمدن المصرية، ويتنقل بين مجالس الرواة الشعبيين فى الصعيد.
كان يحرص على تسجيل كل شيء بحذر، بحيث يضمن أن السيرة الهلالية ستظل كما هى، صادقة وأصيلة، بعيدة عن التشويه الذى قد يتسبب فيه مرور الزمن أو التغيرات الثقافية والاجتماعية، وكان يُسجل هذه الروايات بكل شفافية، بما يعكس صدق الروح الشعبية، ويجعل القارئ والمستمع يعيش الأحداث ويشعر بها كأنها جزء من حياته اليومية.
عمل الأبنودي لم يكن مجرد عملية توثيق فحسب، بل كان بحثًا مستمرًا فى الهوية الشعبية المصرية، ودور هذه السيرة فى تشكيل الفكر الشعبى، كما أدرك الأبنودى أن الحفاظ على السيرة الهلالية ليس فقط مسؤولية ثقافية، بل هو واجب يحتم عليه توثيق هذه القصص المليئة بالحكمة والشجاعة والتضحيات.
أصدر العديد من أجزاء السيرة الهلالية فى كتب مطبوعة، وكان من أبرز أعماله سلسلة من خمسة أجزاء بعنوان «السيرة الهلالية»، التى تضمن تفاصيل دقيقة عن شخصيات السيرة، وتكشف النقاب عن الأحداث المحورية التى مرت بها تلك القبيلة الأسطورية.
لم يتوقف الأبنودى عند حدود الكتابة فقط، بل عمل على نشر السيرة الهلالية عبر وسائل الإعلام المختلفة مثل الإذاعة والتلفزيون، حيث كان يقدم مختارات من السيرة مع شرح لأهميتها الثقافية، وهو ما ساعد فى جعل هذا التراث حاضرًا فى أذهان الأجيال الجديدة.
من خلال هذه الجهود المتواصلة، نجح الأبنودى فى أن يعيد تقديم السيرة الهلالية للأجيال الجديدة بأسلوب شيق وسهل، ما جعلها تصبح جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية للمجتمع المصرى، بل وتُعد اليوم مرجعًا حيويًا لطلاب الأدب الشعبى، والباحثين الأكاديميين، والمجتمعات المهتمة بالحفاظ على التراث الثقافى فى العالم العربى.
وفى ظل هذا الإنجاز، لم يكن عبد الرحمن الأبنودى فقط شاعرًا، بل كان حاميًا لهذا التراث الثقافى العظيم، الذى لا يزال يُحتفظ به كجزء أصيل من الذاكرة الشعبية.
جابر أبو حسين.. ورحلة عبر الزمن
فى أعماق الثقافة الشعبية المصرية، يبرز اسم جابر أبو حسين «١٩١٣ - ١٩٩٢» كأحد أعلام شعر السيرة الهلالية، الشاعر الذى ارتبط اسمه بأكبر ملاحم الشعب المصرى وأغناها، فقد تمكن بحرفيته الفائقة وأسلوبه البسيط أن يقدم لنا حكايات الفروسية والشجاعة بأسلوب شاعرى.
وُلد جابر أبو حسين فى إحدى قرى محافظة سوهاج، فى بيئة كانت تعرف جيدًا قوة الشعر الشعبى وأثره فى نفوس الناس، وقد نشأ فى محيط عامر بالحكايات والأساطير التى كانت تتناقلها الأجيال، وكان له من موهبة الشعر ما جعل كل من استمع إلى قصائده يشعر بأنه فى رحلة عبر الزمن، يعيشه ويشعر به.
ارتبط جابر أبو حسين ارتباطًا وثيقًا بالسيرة الهلالية، تلك الملحمة الشعبية التى حاكت حياة قبيلة بنى هلال وأبطالها، كان جابر يسرد لنا الملاحم البطولية فى السيرة بأسلوبه المميز، الذى كان يمزج بين الحكمة الشعبية والمواقف البطولية، حيث كان ينقل الأبطال فى مواقفهم بصورة تجعل المستمع يشعر وكأنهم موجودون أمامه فى اللحظة ذاتها.
أسلوب جابر أبو حسين كان يتسم بالسهولة والجزالة فى التعبير، لكنه كان فى الوقت نفسه يحمل عمقًا فى معانيه، فكان يتقن استخدام الصور الشعرية والمفردات القريبة من واقع الناس، وكان له قدرة فائقة على أن يجعل من القصص الشعبية التى يرويها مادة غنية للتأمل والفهم العميق لمبادئ الشجاعة والوفاء، وقدرة الإنسان على المقاومة فى وجه الظلم.
لكن ما يميز جابر أبو حسين عن غيره من شعراء السيرة الهلالية هو أنه لم يقتصر على عرض الشخصيات البطولية فحسب، بل كانت قصائده تشمل تفاصيل حياتهم، وتسلط الضوء على مشاعرهم الإنسانية، ما جعلها أكثر قربًا لقلوب الناس، فبجانب الشجاعة والكرامة، كان يتحدث عن الحب الذى يعيش بين الأبطال وعائلاتهم، وعن معاناتهم اليومية، كان ينقل لنا الحياة كما هى بكل تفاصيلها.
إذا كان لشاعر السيرة الهلالية تأثير على الشعر الشعبى، فإن جابر أبو حسين كان أحد أبرز من أسهموا فى تكريس هذا التأثير، لقد قدم قصائد كانت تروى أروع القصص وأكثرها إنسانية، وظلت كلماتها تشهد على عظمة أبطال السيرة الهلالية، ولا زال صوته يُسمع فى قلوب عشاق الشعر الشعبى إلى اليوم.
تعاون أبو حسين، مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودى فى تسجيل وتوثيق السيرة الهلالية، حيث جمع الأبنودى السيرة من أفواه الرواة، وكان جابر أبو حسين من أبرزهم.
هذا التعاون أثمر عن تسجيلات إذاعية وتلفزيونية ساهمت فى توثيق السيرة ونشرها للأجيال القادمة. قدم نصف ساعة يوميًا من السيرة الهلالية فى إذاعة «برنامج الشعب» المصرية، ما ساهم فى نشر هذا التراث على نطاق واسع.
يظل جابر أبو حسين أحد الشهود الذين أسهموا فى تكوين الهوية الثقافية للشعب المصرى، كما ساهم بشكل أساسى فى الحفاظ على السيرة الهلالية ونقلها للأجيال الجديدة، ما ساعد فى إبقاء هذا التراث حيًا فى الذاكرة الثقافية المصرية والعربية، وتُعد تسجيلاته- حتى الآن- مصدرًا مهمًا للباحثين والمهتمين بالتراث الشعبى.
سيد الضوى.. الراوى الأمين
فى عالم الشعر الشعبى المصرى، يبرز اسم سيد الضوى «١٩٣٣- ٢٠١٦» كأحد رموزه، والذى ارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بملاحم «السيرة الهلالية»، فهو الشاعر الذى حمل على كاهله تاريخًا طويلًا من الأساطير والقصص الشعبية، ورسم ملامح التراث الشعبى المصرى بأسلوبه الفريد الذى يمتزج فيه الشعر بالإنسانية العميقة.
ولد سيد الضوى فى مدينة قوص بمحافظة قنا، فى بيئة شديدة الصلة بالطبيعة الشعبية، حيث كانت الحياة اليومية تزدحم بالقصص والأساطير التى تسردها الأجيال، تفاعله مع هذه البيئة جعل منه شاهدًا على تحولاتها المختلفة، فأصبح لسان حالها وراويًا لأحداثها من خلال شعره.
يعتبر سيد الضوى من أبرز الشعراء الذين شاركوا فى رواية ملاحم السيرة الهلالية، سواء من خلال كتابتها أو أدائها فى المجالس الشعبية، فحكايات الفروسية والشجاعة والكرامة التى تضمنتها السيرة الهلالية قد وجد فيها الضوى ساحة خصبة للتعبير عن نفسه وعن عالمه.
كان الضوى يحاكى الشخصيات الأسطورية فى السيرة الهلالية بأسلوب يعكس إلمامه العميق بتقاليد وأعراف قبيلة بنى هلال، واستخدم الضوى لغة شعرية تميزت بالبلاغة، وساهمت فى منح السيرة الهلالية طابعًا خاصًا لم ينله غيره من الشعراء.
يمتاز أسلوب سيد الضوى بالبساطة والوضوح، لكنه لا يخلو من عمق الدلالة وقوة التأثير، فى قصائده، يحرص على جعل المستمع يعيش اللحظة التى يرويها، ويشعر بها كأنه جزء منها، تبرز فى شعره التفاصيل اليومية التى تُحيى فى القلوب معنى الكرامة، والشجاعة، والوفاء.
كما كان يستعين بالأمثال الشعبية والحكم التى تميزت بها البيئة التى نشأ فيها، ما جعل شعره أقرب إلى القلوب وأكثر تأثيرًا، كان الضوى يتقن استخدام «الزجل» و«الموشحات» وهى من الأشكال الشعرية التى تتطلب براعة خاصة فى التنقل بين الأوزان والألحان.
سيد الضوى كان فى قلب كل ملاحم السيرة الهلالية هو الراوى الأمين، الذى لا ينسى ذكر ما جرى لأبطال تلك السيرة سواء كانت مواقفهم مليئة بالمجد أو الخيانة.
لكنه كان، فى النهاية، يقدم صورة إنسانية حية تنبض بالمشاعر العميقة تجاه كل من عاش تلك الحقبات، كانت قصائده تذكر الناس دائمًا بقيم التضامن الاجتماعى والعائلى، وبقدرة الإنسان على تغيير واقعه إذا تمسك بقيمه العليا.
رغم مرور الزمن، لا يزال إرث سيد الضوى حيًا فى ذاكرة المصريين، فعندما نسمع أبياتًا من السيرة الهلالية، فإننا نتذكر الضوى وأسلوبه الفريد فى رواية الحكايات، استمر تأثيره على الأجيال اللاحقة، حيث يعد مصدر إلهام للشعراء الشعبيين اليوم، وقد فتح الطريق أمامهم لإعادة اكتشاف هذا التراث الغنى.
وعلى الرغم من أن العديد من الشعراء قد جاءوا بعده، إلا أن لا أحد منهم استطاع أن يكون فى قلب السيرة الهلالية كما كان سيد الضوى، الذى أسس لأسلوب خاص فى الرواية والتأثير عبر الشعر الشعبى.
على جرمون: حارس التراث الشعبى وأيقونة الإبداع
يتربع على جرمون على رأس قائمة شعراء السيرة الهلالية الذين مزجوا بحرفية بين الأداء الشعري والغنائي ليعيد إحياء شخصيات وقصص أبطالها بشكل إبداعي ومبهر.
وُلد على جرمون فى إحدى قرى صعيد مصر التى تُعد مهدًا للثقافة الشعبية والتراث الفنى.
نشأ فى بيئة تمتزج فيها الحكمة الشعبية مع الفنون الأدائية، حيث استمع منذ صغره إلى رواة السيرة الهلالية وهم يسردون قصص بنى هلال وأبطالهم مثل أبو زيد الهلالى ودياب بن غانم، تأثر جرمون بشدة بهذا التراث وبدأ فى حفظ السيرة الهلالية عن ظهر قلب ليُصبح فيما بعد أحد أبرز حاملى رايتها.
تميز جرمون بذاكرة استثنائية مكنته من حفظ مئات الآلاف من الأبيات الشعرية التى تشكل السيرة الهلالية. لم يكن حفظ السيرة مجرد تكرار للنصوص، بل كان جرمون يُضفى عليها لمساته الإبداعية من خلال التلاعب بالإيقاع والصوت، مما جعل أداءه تجربة سمعية وبصرية متفردة تُبهر كل من يستمع إليها.
كان جرمون يُرافق أداءه بالسلم الموسيقى الخاص بالربابة، وهى الآلة التى ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالسيرة الهلالية.. وكان صوته الجهورى ونبراته الدافئة يتناغمان مع أنغام الربابة فى انسجام يخلق أجواءً درامية تجعل الجمهور يعيش الأحداث وكأنها تحدث أمام أعينهم، وكأنه يستحضر أبطال بنى هلال ليحكوا قصصهم بأنفسهم.
حرص على تسجيل السيرة الهلالية فى شرائط الكاست، وتُعد هذه التسجيلات اليوم أرشيفًا ثمينًا يُمكّن الباحثين والجماهير من التعرف على تفاصيل السيرة الهلالية وأسلوبه المميز فى الأداء، حيث ركزت تسجيلاته على قصص محورية مثل مغامرات أبو زيد الهلالى وقصة زبيدة وياسين وصراع القبائل، وهى قصص تعكس قيم البطولة والشجاعة.
ساهم جرمون فى نقل السيرة الهلالية من إطارها المحلى إلى فضاء أوسع، وكان يؤمن بأن السيرة الهلالية ليست مجرد قصص تُحكى، بل سجل شعبى يحمل فى طياته قيم النبل والتضحية، وكان دائم الحرص على أن تصل هذه الرسائل إلى الجمهور بأسلوب يحترم التراث ويُلهب المشاعر.
واجه على جرمون تحديات كبيرة فى رحلته، أبرزها ضعف التقدير المؤسسى للفنون الشعبية وصعوبة توثيق التراث الشفهى فى ظل غياب الموارد التقنية والمالية اللازمة.
ورغم هذه العقبات، ظل ثابتًا فى رسالته وأصر على مواصلة مسيرته فى إحياء السيرة الهلالية، مؤمنًا بأن ما يقدمه ليس مجرد فن بل رسالة ثقافية وإنسانية.
تُعتبر تسجيلات جرمون اليوم مرجعًا لا غنى عنه للمهتمين بالتراث الشعبى، ويبقى على جرمون واحدًا من أعظم شعراء السيرة الهلالية الذين استطاعوا حمل هذا التراث العريق بكل أمانة وشغف.
يُعد إرثه جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المصرية، ويُذكر دائمًا بأنه الراوى الذى لم يترك كلمة من كلمات السيرة الهلالية إلا وأضاءها بصوته وأدائه الفريد.
كان على جرمون أكثر من مجرد شاعر، كان رابطًا حيًا بين الماضى والحاضر، وسيظل اسمه محفورًا فى ذاكرة الفنون الشعبية كرمز للإبداع والوفاء للتراث، وشاهدًا حيًا على جماليات الحكاية الشعبية وعظمتها.
أصوات الهلالية: رواد الحفاظ على الذاكرة المصرية والعربية
بالإضافة لجابر أبو حسين وسيد الضوى وعلى جرمون، هناك العديد من الشعراء البارزين الذين أثروا السيرة الهلالية بأسلوبهم المميز، مثل «عز الدين نصر الدين» الذى يُعد من أبرز شعراء السيرة الهلالية فى صعيد مصر، حيث انطلق من محافظة سوهاج ليحفر اسمه فى تاريخ الشعر الشعبي.
وكان لعز الدين نصر الدين قدرة فائقة على نقل معانى السيرة بطريقة مبدعة، ما جعله يحظى بشعبية كبيرة بين جمهور الصعيد، إضافة إلى امتلاكه موهبة سردية تجعل من قصائده أشبه بالحكايات المثيرة التى تجذب انتباه المستمعين.
وقد تميز شعره بالصدق العاطفى وقوة التوصيل، مما جعل شعره راسخًا فى ذاكرة جمهور السيرة الهلالية.
ومن محافظة سوهاج أيضًا، برز اسم عبد الباسط أبو نوح كأحد أبرز شعراء السيرة الهلالية، حيث اشتهر بأسلوبه السهل الممتنع الذى كان يربط بين التراث الشعبى والعناصر الحديثة التى جعلت السيرة أكثر قربًا إلى جمهور اليوم.
تأثر أبو نوح بجماليات الشعر الشعبى المأخوذ من واقع الحياة اليومية فى الصعيد، مما جعله يسهم بشكل كبير فى تطوير السيرة الهلالية بشكل يتماشى مع التحولات الثقافية فى المجتمع المصرى.
ومن محافظة قنا، يأتى شوقى القناوى كأحد أبرز الشعراء الذين حملوا على عاتقهم نقل السيرة الهلالية، وتميز القناوى بإجادة نقل الأحداث البطولية فى السيرة بأسلوب شعرى رائع، حيث كانت قصائده تمزج بين الحماسة والتشويق. كان له دور بارز فى أداء السيرة فى المهرجانات والاحتفالات الشعبية، ما جعله يحظى بمكانة مميزة فى المشهد الثقافى لشعراء السيرة الهلالية.
كما يعد النادى عثمان، الذى ينحدر من محافظة قنا، من أحد الأسماء اللامعة أيضًا فى عالم السيرة الهلالية، والتى تميزت قصائده بالقدرة على سرد الأحداث بتفاصيل دقيقة وأسلوب شيق، الأمر الذى جعلها محط اهتمام وإعجاب كبيرين بين مستمعيه.
وبفضل مهارته فى إلقاء الشعر وقدرته على تجسيد الشخصيات الكبرى فى السيرة الهلالية، أصبح عثمان من الرواة الذين ساهموا فى إحياء السيرة الهلالية وحمايتها من الانقراض.
من محافظة قنا أيضًا، يأتى محمد اليمنى الذى أضاف بعدًا جديدًا للسيرة الهلالية بفضل أسلوبه الفريد فى إلقاء الشعر.
كان اليمنى معروفًا بإجادته للربط بين عناصر السيرة وحياة الناس اليومية فى صعيد مصر، وهو ما جعل أشعاره تتسم بالحيوية والواقعية.
تميز بالقدرة على نقل حكايات البطولة والشجاعة بأسلوب جذاب، مما جعله واحدًا من أبرز شعراء السيرة الهلالية فى جيله. كما يعتبر محمد عزت، فى محافظة سوهاج، من الأسماء المهمة فى نقل السيرة الهلالية بأسلوبه السلس والمقنع، حيث اتسمت أشعاره بالبلاغة والقدرة على التأثير فى الجمهور. كان يروى الأحداث بأسلوب يتناغم مع قيم البطولة والشجاعة، وهو ما جعله يحظى باحترام كبير بين شعراء السيرة.
السيرة الهلالية، التى نشأت فى صعيد مصر وامتدت عبر الأجيال، تُعد أحد الكنوز الثقافية فى العالم العربى.. وبفضل شعراء السيرة؛ استمرت الهلالية حية فى الذاكرة الثقافية المصرية، محققة تفاعلًا مستمرًا بين الماضى والحاضر، ولا تزال تمثل جزءًا لا يُستهان به من التراث الشعبى الذى يربط الأجيال ببعضها البعض.