لجريدة عمان:
2025-02-03@23:58:18 GMT

صراحة الحديث بين بايدن وشي

تاريخ النشر: 28th, November 2023 GMT

في عام 1979، حينما أصبح دينج شياوبنج أول زعيم لجمهورية الصين الشعبية يزور الولايات المتحدة، كانت الزيارة محاطة بأجواء التودد. ففي مسابقة لرعاة البقر في تكساس، ارتدى الثوري السابق، الذي لم تكن قامته تتجاوز خمسة أقدام، قبعة زنتها خمسة جالونات، أثارت إعجاب الجمهور وأعطت الأميركيين الانطباع بأن دينج، على حد تعبير كاتب سيرته الذاتية عزرا فوجل، كان «أقل شبها بأولئك الشيوعيين وأكثر شبها بنا».

ونشأ نمط: في العقود التي تلت ذلك، غالبا ما كان الجانبان يدفنان الخلافات -على الأيديولوجية، والملكية الفكرية، وحقوق الإنسان- تحت لفتات المودة، من أجل الفوائد طويلة المدى.

ولكن الأسبوع الماضي لم يشهد مسابقات لرعاة البقر أو ارتداء لقبعات، عندما التقى الزعيم الصيني الحالي شي جين بينج بالرئيس جو بايدن، بعد عام مرهق من الانتقادات المتبادلة وانعدام الثقة منذ آخر لقاء بينهما. خلال تلك الفترة، اتهم شي الولايات المتحدة بالسعي إلى «احتواء وتطويق وقمع» بلده، ووصف بايدن شي بـ«الديكتاتور». وبرغم تشابك الاقتصادين الأضخم في العالم تشابكا عميقا، تزايدت الخلافات بين الحكومتين بشأن مطالبات الصين بتايوان وجهود أمريكا لتقييد القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا الحساسة، وتعارض المواقف بشأن الحروب في أوروبا والشرق الأوسط. وغرقت العلاقات في صمت بارد بعد أن طار بالون مراقبة صيني إلى الأراضي الأمريكية في الشتاء الماضي وأسقطته القوات الجوية.

وفي ظل هذه المخاطر العالية، وجَّه بايدن الدعوة لشي إلى قمة مختصرة في الخامس عشر من نوفمبر، بالتزامن مع اجتماع الدول المطلة على المحيط الهادئ في سان فرانسيسكو، لتكون هذه أول زيارة يقوم بها شي إلى الولايات المتحدة منذ أكثر من ست سنوات. وبرغم منعة شي السياسية على المستوى الداخلي -وقد تخلص من قيد فترات الولاية ومن أي منافسين سياسيين ظاهرين- فقد كانت لديه الأسباب لإبداء المرونة. فبعد عقود من النمو المرتفع، أصبح الاقتصاد الصيني في حالة ركود، إذ قامت الشركات الأجنبية، الفزعة من جراء العداء لإصلاحات السوق واعتقال رجال الأعمال الصينيين البارزين، بخفض الاستثمار المباشر إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، فضلا عن نزوح رجال الأعمال الصينيين ونخبة الخريجين الشباب. ومن أجل القمة، لجأ الزعيمان والوفدان المرافق لهما إلى جنوب المدينة، حيث عقار فيلولي، وهو قصر على طراز عصر النهضة الجورجي كان بمثابة خلفية لمسلسل «الأسرة الحاكمة» الرأسمالي الذي أذيع في الثمانينيات. (ومن المفيد أن مسلسل «الأسرة الحاكمة» حقق نجاحا كبيرا في الصين).

بدأ بايدن وشي، وقد جلسا قبالة أحدهما الآخر، بتعليقات مهذبة، وإن تكن كاشفة. فقال بايدن إنه «من المهم للغاية أن يفهم أحدنا الآخر بوضوح، من زعيم إلى زعيم، دون أي مفاهيم خاطئة أو سوء فهم». ويعكس الحديث عن «المفاهيم الخاطئة» قلق واشنطن من إحاطة شي نفسه بالعديد من الموالين لدرجة أنه «لا يمكن أن يتأكد أحد من كيفية تصفية المعلومات الواردة من العالم الخارجي قبل أن يراها» حسبما قال فيكتور شيه، خبير الاقتصاد السياسي في جامعة هارفارد بسان دييجو. ومن الأمثلة البارزة على ذلك أن بايدن أراد دحض الشكوك الصينية بأن الأمريكيين يشجعون تايوان على إعلان الاستقلال، ولكنه أراد أيضا توضيح تصميمه على الدفاع عنها ضد أي هجوم. وعندما قال: إن الزعماء يجب أن يضمنوا عدم «انحراف المنافسة إلى صراع»، اعترف شي بأن من شأن الصراع أن تكون له «عواقب لا تحتمل»، لكنه أضاف قوله: «إنني لم أزل أعتقد أن المنافسة بين الدول الكبرى ليست بالاتجاه السائد في الوقت الراهن». ولجأ إلى ديناميكية مختلفة فقال: «إن كوكب الأرض كبير بما يسمح بنجاح البلدين».

وبرغم رقة الصورة، فقد سلطت الضوء على رغبة شي في أن تتنحى الولايات المتحدة من الطريق، بتقليص دورها في الصراعات الدائرة حول تايوان، وأوكرانيا، وبحر الصين الجنوبي، والشرق الأوسط. وقال جود بلانشيت -متخصص في الشؤون الصينية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية-: إن الولايات المتحدة لا تعتزم ذلك، ومن ثم فقد كشفت التصريحات عن «الهوة بين الزعيمين». وأضاف بلانشيت قوله: «إن لقاءات قادة الولايات المتحدة الشخصية بشي سوف تقل أكثر فأكثر، وسيظل شي يشعر بالإحباط من الاتجاه الذي تمضي فيه السياسة الأمريكية».

بعد غداء عمل، والمشي سريعا أمام الكاميرات، غادر شي لحضور مأدبة في فندق حياة ريجنسي. واستقبله المتظاهرون هاتفين: «التبت حرة!»، ولكن القاعة في الداخل امتلأت بالرؤساء التنفيذيين والمستثمرين، الذين كانوا لا يزالون حريصين على تحقيق الربح في الصين، فدفعوا ما يصل إلى أربعين ألف دولار مقابل فرصة الجلوس إلى طاولته. كرر شي انزعاجه من المنافسة -«السؤال الأول بالنسبة لنا هو: هل نحن خصمان أم شريكان؟»- واقترح وصول مزيد من دببة الباندا الجديدة قريبا إلى حديقة حيوان سان دييجو. وقد صفق له الحاضرون وقوفا. وأعلن بايدن، الذي ظهر منفردا في مؤتمر صحفي نادر، عن اتفاقات لاستئناف الاتصالات العسكرية المنتظمة ومكافحة انتشار الفنتانيل fentanyl ، وتطوع بقوله إنه لم يتم التوصل إلى صفقات بشأن قضايا أخرى، بما في ذلك إطلاق سراح الأمريكيين المحتجزين في الصين. ولكن، جنبا إلى جنب مع اتفاق المناخ الذي تم التوصل إليه مسبقا لخفض انبعاثات الوقود الأحفوري من خلال مضاعفة استخدام الطاقة المتجددة إلى ثلاثة أمثاله، أثبتت النتائج أنه من الممكن إيجاد أرضية مشتركة. قال بايدن: «لقد اتفقنا أنا وهو على أن يتصل أي منا هاتفيا بالآخر مباشرة، فيجد على الفور أذنا مصغية». وأضاف أن هناك قيمة في «مجرد التحدث مجرد الصراحة مع أحدنا الآخر اجتنابا لسوء الفهم». (وبروح الصراحة، عندما سأل مراسلٌ بايدن عما إذا كان قد غير رأيه بشأن كون شي ديكتاتورا، أجاب بالنفي).

لا ينبغي أن يتوقع أحد أن تعود الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين إلى البهجة الظاهرة، والمضللة، التي سادت قبل جيل مضى. ففي بادرة على استمرار المشاكل في المستقبل، ذكرت وسائل إعلام رسمية صينية أن شي أبلغ بايدن بأنه سيتخذ «إجراءات ملموسة»، وليس مجرد كلام، لنزع فتيل المخاوف من أن أمريكا تدعم استقلال تايوان. وهدف بايدن، في الوقت الراهن، واقعي إلى حد ما: وهو تجنب الصمت الخطير الذي يسمح بنمو الشكوك والاستياء.

لم يبتهج الجميع بتحدث الرجلين مرة أخرى. فقبل اللقاء، أصدر الأعضاء الجمهوريون في «لجنة مجلس النواب المختارة لشؤون الحزب الشيوعي الصيني» رسالة شجبوا فيها اللقاء ووصفوه بـ«العلاقة غير المجدية الشبيهة بالزومبي» مع الصين. لكن بايدن دائما يفضل المحادثات، مهما كانت غير كاملة، في تقليد يرجع إلى الحرب الباردة. في عام 1950، صاغ ونستون تشرشل، بين فترات عمله كرئيس للوزراء، كلمة «القمة summit» لوصف أمله في عقد اجتماع رفيع المستوى مع السوفييت. ولم يحصل تشرشل قط على قمته -فلم تصبح القمم سمة متكررة للعلاقات بين السوفييت والغرب إلا في وقت لاحق- ولكن في خطاب ألقاه أمام البرلمان في عام 1953، طرح رؤيته للقاء، في مكان منعزل، «يسود فيه شعور عام بين المجتمعين بأنهم قد يفعلون شيئا أفضل من تمزيق الجنس البشري، وأنفسهم، إلى فتات».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟

نشر موقع " لو ديبلومات" الفرنسية تقريرا سلّط فيه الضوء على طبيعة القوة الحقيقية في الولايات المتحدة، حيث لا يستأثر الرئيس بصنع القرار بشكل مطلق بل تلعب المؤسسات الفيدرالية وخاصة البيروقراطية والإدارات الأمنية والعسكرية دورا أساسيا في توجيه الاستراتيجية الأمريكية.

وقال الموقع، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن السلطة الإمبريالية الأمريكية لا تكمن في البيت الأبيض - على عكس ما يُعتقد - حتى عندما يحظى بدعم أغلبية الكونغرس، بل الأجهزة الضخمة للإدارة الفيدرالية هي التي تحدد مسار الأمة مما يضمن الاستمرارية الاستراتيجية للهيمنة الأمريكية.

يُنظر إلى انتخاب الرئيس على أنه محطة مفصلية في المسار الإمبريالي، لكنه في الواقع لا يعدو كونه تغييرا في التمثيل والسرد السياسي أكثر من كونه تغييرا حقيقيًا في النهج، حسب التقرير.


وأشار الموقع إلى أن الانتخابات الأمريكية وتنصيب الرئيس الجديد دائمًا ما يثيران اهتمامًا كبيرًا لما يكتسيانه من أهمية في مسار القوة العظمى المهيمنة عالميًا. لكن في الواقع، يعد مدى تأثير الرئيس في الولايات المتحدة على السياسات العامة والمسار الاستراتيجي للبلاد مبالغًا فيه إلى حد كبير.

وقال الموقع إن أكبر جهة توظيف في العالم ليست إحدى الشركات متعددة الجنسيات الخاصة التي تعمل على نطاق عالمي مثل "وول مارت" أو "ماكدونالدز" أو "كوكاكولا"، وليست أيضًا جيش أحد البلدين الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، الهند والصين، بل هي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) التي تضم ما يقارب ثلاثة ملايين موظّف. وهذا الرقم لا يشمل الموظفين "السريّين" أو العاملين في الشركات الخاصة التي تعتمد عليها الوزارة، مثل المتعاقدين.

تعد أجهزة المخابرات الأمريكية بدورها كيانا واسعا ومعقدا للغاية، حيث تتألف من سبع عشرة وكالة استخباراتية أبرزها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) التي غالبًا ما تختلف في رؤاها وتكتيكاتها وتتنافس بشدة فيما بينها. ونظرًا للشبكة الواسعة من المنظمات ومراكز الأبحاث والشركات المرتبطة بها، يصعب تحديد العدد الدقيق لإجمالي العاملين في هذا القطاع.

قدّمت صحيفة "واشنطن بوست" في سنة 2010 تقديرًا تقريبيًا يفيد بأن أكثر من 800 ألف شخص لديهم حق الوصول إلى معلومات حساسة تتعلق بالأمن القومي. لكن هذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار العدد غير المحدد من العملاء المنتشرين في جميع أنحاء العالم الذين لا تظهر أسماؤهم في السجلات الرسمية بسبب عملهم كعملاء سريين أو متخفين.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار المنظومة الفيدرالية الأمريكية بكاملها، فإننا نتحدث عن أكثر من خمسة ملايين موظف مسجلين، من بينهم آلاف المسؤولين الحكوميين الذين يشغلون مناصب رفيعة يدعمهم عشرات الآلاف من الخبراء الفنيين الذين يمتلكون مهارات متخصصة ويتولّون إدارة وتحمل مسؤولية المناطق الجغرافية الموكلة إليهم حول العالم.

ووفقا للتقرير، فإنه بغض النظر عن هوية الشخص الذي يشغل البيت الأبيض أو الانتماء السياسي للأغلبية في الكونغرس، فإن الآلة الضخمة للإدارة الفيدرالية تضمن الاستمرارية الاستراتيجية للإمبراطورية غير الرسمية التي تقوم على ركيزتين أساسيتين: السيطرة على جميع بحار العالم والهيمنة على أوروبا. للحفاظ على هذه السيطرة وتعزيزها، من الضروري تمامًا منع ألمانيا من التقارب الجيوسياسي مع روسيا والصين وكذلك منع بكين من فرض سيطرتها على بحر الصين من خلال الاستيلاء على تايوان. على هذا النحو، لن يكون بإمكان أي رئيس للولايات المتحدة مهما كان توجّهه السياسي أو أي أغلبية في الكونغرس التخلي عن هذه المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد لأن الأجهزة الفيدرالية لن تسمح بذلك.

لكن التواجد في الخطوط الأمامية للحفاظ على الهيمنة العالمية وتعزيزها هو مهمة شاقة للغاية، وليس فقط بسبب حالة الحرب الدائمة التي تفرضها. فكما كان الحال مع الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البريطانية اللتين سبقتاها، لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية تجاهل عاملين أساسيين يحددان مكانتها كقوة مهيمنة: العجز التجاري الهائل والتدفق الهائل للمهاجرين. العجز التجاري هو أداة ضرورية لإبقاء الدول التابعة اقتصاديًا، حيث تصبح أميركا المستهلك الرئيسي لمنتجاتها مما يضمن استمرار تبعيتها. أما الهجرة الجماعية، فهي ضرورية للحفاظ على مجتمع ديناميكي وتنافسي للغاية، والأهم من ذلك، إبقاء السكان في حالة شبابية عدوانية وعنيفة.


لكن التضحيات الاقتصادية الناجمة عن إلغاء التصنيع والاستيعاب المتواصل للمهاجرين بأعداد متزايدة والاستنزاف الناتج عن الحروب المستمرة، كلها عوامل أدت إلى تنامي شعور بالضيق والسخط داخل بين صفوف العرق المهيمن، وهو شعور يميز جميع الإمبراطوريات الكبرى في مراحلها المتأخرة. في الولايات المتحدة، بدأت ملامح هذا الاستياء بالظهور خلال الولاية الثانية لإدارة جورج بوش الابن، ومنذ ذلك الحين استمرت في التصاعد بشكل ملحوظ.

أورد الموقع أن دونالد ترامب يُعد تجسيدًا بارزًا للعرق الجرماني المهيمن، وقد تمكن من التعبير عن استيائه بوضوح. ارتكزت حملته الانتخابية على شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" وهي تستند إلى ثلاثة أهداف رئيسية لمعالجة هذا الاستياء: إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة واستعادة الهيمنة الاقتصادية، تقليص تدفق الهجرة للحد من التأثيرات الثقافية والديموغرافية، وإنهاء الحروب الخارجية وإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن.

لكن هذه الرؤية غير واقعية إلى حد بعيد لأنها تعني انسحاب الولايات المتحدة من إمبراطوريتها غير الرسمية والتراجع إلى عزلة قومية قديمة الطراز. وهذا أمر لن يسمح به الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو ما أكده بوضوح خلال الولاية الأولى لترامب الذي اصطدم بصلابة "الدولة العميقة" التي حالت دون تنفيذ الكثير من سياساته.

لهذا تتمحور نوايا ترامب، رغم غموضها الكبير، حول تقليص نفوذ الإدارة الفيدرالية التي يصفها بـ "الدولة العميقة" - بمعنى سلبي - ورفع سلطة البيت الأبيض بدعم من الأغلبية في الكونغرس لإعادة تشكيل نهج أميركا الجيوسياسي نحو العزلة. لكن هذا الطموح يصطدم بعائق جوهري وهو استحالة تنفيذ نظام "التطهير الإداري" على عشرات الآلاف من البيروقراطيين المتخصصين، الذين يشكلون العمود الفقري للدولة. حتى لو نجح ترامب بمعجزة في هذا التحدي الضخم، فإن الهوية العميقة للأمة الأمريكية لن تتخلى أبدًا عن دورها كقوة عظمى مهيمنة عالميا.

وقال الموقع إن هنا تصطدم الدعاية الانتخابية بالواقع الجيوسياسي الصلب، حيث لا يمكن للرئيس بغض النظر عن سلطته ونفوذه أن يغيّر بسهولة الأسس الاستراتيجية التي تقوم عليها الهيمنة الأمريكية في العالم. لكن موظفي ما يُعرف بـ"الدولة العميقة" ينتمون في الغالب إلى التيار المهيمن، مما يجعلهم شديدي الحساسية والاستجابة لمشاعر هذا التيار وتوجهاته. وقد شكّل الهجوم على مبنى الكابيتول قبل أربع سنوات نقطة تحوّل كبيرة في المسار الإمبراطوري لواشنطن، حيث أن الأجهزة الحكومية لم تستهِن أبدًا بهذه الموجة الحادة من السخط التي اجتاحت العاصمة قادمة من عمق البلاد.

يوضح ذلك التغيير التاريخي في الموقف الذي بدأته الولايات المتحدة خلال إدارة باراك أوباما، والذي تسارع بشكل كبير في عهد جو بايدن، مباشرة بعد محاولة الانقلاب في 6 كانون الثاني/ يناير 2021. وقد قلّصت أمريكا إلى الحد الأدنى تدخلها بل وحتى وجودها في المناطق التي تعتبرها أقل استراتيجية، معتمدة على وكلائها المحليين لإدارة تلك الساحات بدلاً منها.

يعد الشرق الأوسط، حسب التقرير، مثالًا بارزًا حيث عملت الأجهزة الحكومية الأمريكية بشكل مكثف على تحقيق تقارب بين "إسرائيل" والدول العربية السُّنية بهدف احتواء إيران، مما أدى في النهاية إلى توقيع "اتفاقيات إبراهيم". وبنفس النهج، جاء الانسحاب من أفغانستان، لكن بطريقة "غير منظمة" – إن صح التعبير – حيث لم يكن هناك توافق بشأن الانسحاب وتسليم البلاد في الوقت نفسه إلى حركة طالبان، بل شهدت الساحة انقسامًا واضحًا بين الوكالات الفيدرالية الأمريكية المختلفة.

وفي منطقة الساحل الإفريقي، أدت إعادة تموضع واشنطن إلى فشل فرنسا في الحفاظ على جميع مواقعها، مما تسبب في خسارة بعض معاقلها التقليدية أمام نفوذ روسيا. وفي الوقت ذاته، كثفت الولايات المتحدة سيطرتها على المناطق التي تعتبرها استراتيجية، مثل ألمانيا وأوروبا الشرقية والشرق الأقصى.

وذكر الموقع أن فرض الرسوم الجمركية أو تبني سياسات تحفيزية للصناعة الأمريكية، التي بدأت في عهد "باراك أوباما"، واستمرت خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب وتسارعت تحت إدارة جو بايدن لم يكن يهدف إلى تحقيق هدف وهمي أو غير اجتماعي متمثل في إعادة التصنيع كجزء من مشروع إمبريالي، بل كان الهدف منه تحقيق هدف استراتيجي واضح يتمثل في تقليص الفوائض التجارية الضخمة لكل من الصين وألمانيا.


تعتمد هاتان الدولتان بشكل رئيسي على تلك الفوائض للحد من القوى الانفصالية الداخلية القوية، التي لولاها لتفككت وحدتهما الوطنية. في الوقت نفسه، تساعد هذه الفوائض في تعزيز طموحاتهما الجيو-اقتصادية، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. ومع ذلك، لا يمكن للتأثير الجانبي الناجم عن إعادة التصنيع الجزئي الناتج عن هذه التدابير إلا أن يخفف من حالة السخط الاقتصادي داخل الفئة السكانية المهيمنة في الولايات المتحدة.

أشار الموقع إلى أن بناء جدار حدودي مع المكسيك، الذي بدأ في عهد إدارة أوباما ولا يزال مستمرًا منذ أربع سنوات، لا يهدف إلى وقف تدفق المهاجرين من أمريكا اللاتينية بل يسعى لتحقيق هدف إمبريالي بحت يتمثل في تسهيل عملية استيعاب المهاجرين من خلال إنشاء حاجز مادي يقطع روابطهم الثقافية مع وطنهم الأم.

نتيجة انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر والخطاب الافتتاحي الأول لدونالد ترامب يؤكّدان توجهًا هيكليًا مستمرًا منذ ما يقارب عشرين عامًا داخل المجتمع الأمريكي: وهو الشعور بالسخط داخل العرق المهيمن. فالولايات المتحدة القارية، التي يغلب عليها الأصل الجرماني والتي تتحمل العبء الثقيل للإمبراطورية، تشعر بالإحباط والغضب. إنها تحمل ضغينة تجاه السواحل و"مقاطعات" أوروبا الغربية - أو ما يُعرف بـ"القارة العجوز" - حيث تُعتبر هذه المناطق طفيليات تعيش على حسابها وتُصنف على أنها المستفيد الأكبر من "السلام الأمريكي" دون تقديم أي تضحيات ضرورية لحمايته. وقد تمكن الرئيس الجديد من استيعاب هذا الشعور بالغضب والسخط والتعبير عنه بمهارة، مما مكنه من تحقيق انتصار في المواجهة الانتخابية.

بعيدًا عن كونه نقطة تحول أو حتى بداية لعصر جيوسياسي جديد، فإن تولي رجل الأعمال النيويوركي الرئاسة في البيت الأبيض سيعزز الموقف الأمريكي الجديد الذي يتبناه الجهاز الفيدرالي منذ أواخر سنة 2010، لا سيما على مستوى السرد السياسي. سترتفع الرسوم الجمركية، خاصة تلك المفروضة على المنتجات الألمانية والصينية.

وبحسب التقرير، فإنه من المؤكد أن "الشركاء" الأوروبيين سيتم دفعهم لتحمل مسؤوليات أكبر داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) للمساهمة في الدفاع عن "السلام الأمريكي" ضد خصومه. ومع أن نبرة الخطاب حول هذه القضايا تتغير، إذ أصبحت أقل ودية مقارنة بالحكومة السابقة، إلا أن الجوهر لا يزال كما هو.

مقالات مشابهة

  • الصين تتحدّى ترامب.. هل تنفجر مواجهة تجارية قريبة مع الولايات المتحدة؟
  • ما الذي تقترحه الصين على ترامب لتجنب حرب تجارية؟
  • الصين تسابق الولايات المتحدة بقوة في نماذج الذكاء الاصطناعي
  • أول خلاف مع إدارة ترامب.. كوريا الشمالية تتوعد الولايات المتحدة
  • مسؤولة أممية: الوضع في غزة بلغ أبعادا لم يشهد التاريخ الحديث مثيلا لها
  • مقررة أممية: الوضع في غزة بلغ أبعادا لم يشهد التاريخ الحديث مثيلا لها
  • عاجل:- الصين تعارض بشدة فرض الولايات المتحدة لرسوم جمركية إضافية وتخطط للرد
  • عاجل.. الصين تعتزم رفع دعوى قضائية على الولايات المتحدة أمام منظمة التجارة العالمية
  • هددوا الولايات المتحدة وحلفاءنا.. ترامب يعلن قتل إرهابيين في الصومال
  • إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟