لجريدة عمان:
2025-03-15@21:27:34 GMT

شبيب الأمين يهزأ بالأبد

تاريخ النشر: 28th, November 2023 GMT

شبيب الأمين يهزأ بالأبد

بعد ثلاثين عاما (إلا سنة واحدة) يقرر الشاعر اللبناني شبيب الأمين إصدار مجموعته الشعرية الثانية. عمر طويل نسبيا ما بين الكتاب الأول «أعتقد أنني سكران» (دار الجديد 1994)، والثاني «رجل للبيع يهزأ بالأبد ــ يليه ــ مصرع لقمان» (رياض الريس للكتب والنشر 2023). قد لا يشكل هذا العمر انقطاعا عن التجربة، مثلما يتبادر للوهلة الأولى، فمنذ بداياته وشبيب الأمين مقلّ في النشر، إذ يرغب في أن تكون نصوصه مسبوكة إلى حدّ الإتقان، لغاية أنه أحيانا، يلغي الكثير مما كتبه، متبعا بذلك قول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، الذي يشكل واحدا من «معلميه» الفكريين: «الشعر هو ما تمحوه لا ما تكتبه».

هذا «المحو»، عنده، وصل أيضا إلى حدّ الامحاء. بهذا المعنى، كانت تجربة شبيب في «جدل بيزنطي»، الحانة التي أسسها في بيروت، مع بدايات الألفية الثانية، والتي كانت تستقبل على مدى سنين، أمسيات شعرية أسبوعية، في ليل عاصمة لم تتوقف على البحث عن معنى وجودها، وعن معنى الثقافة التي تقدمها. امحاء، لأن الأمين لم يرغب أبدا في إدارتها، تاركا شأن ذلك، إلى أصدقاء له، شعراء، للإشراف على جدولة برامجها، ودعوة من يريدون، لدرجة أنه كان يأتي إلى حانته، أحيانا، وكأنه سائح يكتشف المكان للمرة الأولى؛ أو ربما دفعته الصدفة للدخول لمشاهدة ما يجري.

الشعر في ذلك كله، عند الشاعر، كان طريقة حياة (ولا يزال)، لا مجرد كتابة نص فقط. إنه «عيش في الشعر»، فيما لو استعدنا جملة الشاعر الفرنسي أوجين غيوفيك. هذا العيش، الذي جعله يبتعد في السنوات الماضية، عن بيروت، ليقيم في قريته الجنوبية، بعيدا عن الضجيج، وإن كان منزله هناك لم يتوقف عن استقبال الشعراء والفنانين التشكيليين ومن له علاقة بالثقافة، وكأن النقاش، انتقل من «جدل بيزنطي» إلى تلك القرية السابحة في خضرة الطبيعة.

منذ نصوصه الأولى، بدا شعر شبيب الأمين وكأنه نقد حقيقي للشعر السائد، المكتوب في تلك الفترة في غير عاصمة وحاضرة عربية. أحب أن أتخيل أن الشاعر كان تائها في ضواحي الحياة، لكنه عرف كيف يجعل حياته تتجاوز الكلمات، في رحلة تحمل عزلته وحبه لهذا الصمت الإنساني. هل لذلك أراد أن يجعل من كلماته، المجمعة بمهارة، والتي لا تشبه كلمات أحد في تجربة حداثة الشعر اللبناني، أن تكون صورة عن رجل يصرخ بصمت، أو بالأحرى عن رجل يهزأ بكلّ المسلمات التي توارثناها؟ الحدّ الفاصل بين صراخ شبيب واستهزائه، في شعره، يبدو حدّا واهيا، إذ يمتزج الأمران في لعبة كتابية، تعرف كيف تؤسس لمشروعها الخاص. الصراخ هنا، لا يجعله يشفق على الألم ولا لأن يغنيه، بل يطرده من داخله، نحونا، وعلينا أن ننجح في تلقفه، وإلا ضاع كل شيء علينا.

يعبر شبيب الأمين الكتابة واقفا، وكأنه يوزع بطاقات شعرية محملة باللعنة. ربما لأن الشعر داء يُكتشف باكرا. هذا الداء الشعري يجعله يرحل إلى كل الشواطئ، بعيدا عن أي غنائية متواطئة. الكتابة أشبه بشخص يلعب لعبة الحجلة بشكل مأساوي في دوائر الجحيم. هي أيضا، بمثابة أغاني الناجين من حروب طويلة عرفناها وعشناها على مرّ تاريخ لبنان الحديث. هل يمكن إذَا أن نقول إنه شعر يرغب بدوره في «قتال» ما؟ ربما. فالصرخات الواضحة، أو لنقل بدقة، صرخات الوضوح هذه تأتي بصوت قوي، تخرج من قبضة الصرخات المغلقة والكف المفتوحة تجاه الناجين ــ وربما تجاه الذين رحلوا وغادروا، لا لتشييد نُصب ذاكرة لهم، بل لمحاولة إعادتهم إلى ذاك المكان الذي كانوا يجتمعون فيه، خلف طاولة شبيب في قريته، إنه «نضال» مستمر، على الأقل نضال شعري لأن تكتب حياة أخرى، لأن ألم نسج الكلمات، حين تلتهم الحياة نفسها كل شيء وتجعله يدور في تيهه، لا يبقى لنا، أمام هذه المعاناة، سوى أن نلجأ إلى الكتابة وكأنها «عار» يخنقنا.

ينحت البعض جملًا رائعة لوضعها بالقرب من المدفأة في أمسيات الروح الشتوية. تحتفظ كلماتهم بالوضعية التي كانت عليها، قبل رحيلهم واختفائهم. لم تعد تتحرك، صارت ثابتة. وهي بذلك لا تظهر إلا صورة من صورهم الشخصية ومن سيرتهم. كأنها في نهاية الأمر، لا تتوقف عن التنهد لتحاول أن تبتسم لنا. كلمات شبيب في مجموعته هذه، لا تزال تتحرك، لا تتوقف عن التساؤل عن المكان التي سوف تذهب إليه. ربما هي تكتب بعضها البعض في الصباح الباكر لتمتزج بالندى، أو في عشية القرى حين تحل سَكينة الروح على الأرض. لذا لا يختفي الشاعر في أبدية الشعر، بل يواجه العالم، يلتصق به، ويرغب في أن يجعله أكثر أخوية وعدالة.

أن نعود ونقرأ قصائد شبيب الأمين، بعد كلّ هذه السنين، معناه أن نقرر الانطلاق في رحلة إلى جُزر من الكلمات تواجه الرياح، إنها سفر بين عاطفة عميقة وشهوانية ملموسة. فالشاعر حاضر في كل حالاته المزاجية. كتابته فعل احتضان. يجعل صوره تنبت برغبة وارفة. إذ يترك الشاعر كلماته تطير مثل بالونات زرقاء نحو سماء زرقاء. يتابعها قليلا بنظره، وينتظر ريحا مواتية تعيدها إلى قارئها. تحت أمطار أيام غزيرة، وفوق يدين تجيدان عجن أرض الكلام، يقول الشاعر جملته تلو الأخرى، بلطف، بعناد رجل من الجنوب يقلب الكلمات، يقلب الأرض، لا لتزهر من جديد، بل لتشهد على رفاتنا جميعنا. أمام ذلك تأتي الكلمات وكأنها محمولة، متناثرة، مجزأة، منجرفة ... تماما مثل أحلام تظنها عديمة الفائدة، مثل إلحاح لتحقيقها. لا شفقة على الإطلاق. فقط تحاول أن تتذكر القليل ممّا حدث.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

نجوم النعائم

لطالما كان للنجوم حضور قوي في الثقافة العربية، ولا تزال الكثير منها تحمل أسماء عربية حتى اليوم، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في سورة الأنعام: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، وارتبط العرب بالنجوم بشكل وثيق، فأطلقوا عليها أسماء ووصفوها بدقة، ولم يقتصر تأثيرها على علم الفلك وحسب، بل امتد أيضًا إلى الشعر والأدب، حيث تغنّى بها الشعراء وحيكت حولها الأساطير، مستخدمينها لرسم صور خيالية تربط بين النجوم وتوضح مواقعها في السماء ضمن حكايات وقصص مشوقة.

واليوم أيضا لن نتحدث عن نجم مفرد، بل سنتحدث عن مجموعة من النجوم وقد أطلق عليها العرب اسم نجوم النعائم، وقسموها إلى النعائم الشمالية وهي أربعة نجوم تشكل جزءًا من «إبريق الشاي» الشهير في كوكبة القوس، والنعائم الجنوبية وهي أربعة نجوم في الكوكبة نفسها، وفقًا للمعاجم اللغوية ف«النَّعائِم» هو جمع لكلمة «نَعامة»، ويشير إلى مجموعة من النجوم التي تشكل منزلة من منازل القمر، تُصور على هيئة النعامة، وقد كانت النعامة أحد الحيوانات التي تعيش في الصحراء العربية، وقد وصفها الشعراء في معلقاتهم وقصائدهم، فلا غرابة حين يقومون بتسمية النجوم المتناثرة في السماء بقطعان النعام.

وفقًا للتقويم الفلكي العربي، تُعتبر «النعايم»، المنزلة الرابعة من منازل فصل الشتاء، وتبدأ في 15 يناير وتستمر لمدة 13 يومًا خلال هذه الفترة، يكون الطقس شديد البرودة، خاصة في الليل والصباح الباكر، وقد اعتمد العرب القدماء على منازل القمر والنجوم، بما في ذلك «النعائم» لتحديد مواعيد الزراعة والأنشطة الفلاحية، خلال هذه الفترة، وكان المزارعون يجهزون أراضيهم للزراعة، حيث تُزرع خلالها الكثير من المحاصيل، كما استخدم المغاربة «المنازل» لتحديد مواعيد الزراعة، وحصاد المحاصيل، وغرس الأشجار، وجني الغلات، بالإضافة إلى تحديد مواسم الصيد البري وقنص الطيور.

ولأن «النعائم»، تشير إلى مجموعة من النجوم وليس نجمًا واحدًا، فإن خصائصها الفلكية التي أثبتتها الدراسات الحديثة تشير إلى أنها تختلف من نجم لآخر من حيث القطر ودرجة الحرارة، والبعد عن الأرض، ولكن تتراوح أحجام النجوم بين حوالي 5% من حجم الشمس إلى حوالي عشرة أضعاف قطر الشمس، أما درجات الحرارة السطحية للنجوم، فتتراوح بين 3,500 درجة كلفن للنجوم الحمراء الصغيرة إلى 30,000 درجة كلفن أو أكثر للنجوم الزرقاء الكبيرة.

وإذا أتينا إلى الشعر العربي وورود هذه النجوم فيه فنجدها في كل العصور الأدبية في الشعر العربي، كما نجد لها شواهد في المنظومات والقصائد العمانية، فنجد مثلا الشاعر العماني سليمان النبهاني يصف قوم ويمدحهم بأنهم وصلوا في العلو والرفعة مكانة لم تصل لها نجوم النعائم فقال:

همُ القوم سادوا كلَّ حيٍ وشيَّدوا مراتبَ لم تبلغ مداها النَّعائمُ

ليوثٌ صناديد غُيوث هواطل جبال منيفات بحار خضارمُ

كما أن البحار العماني أحمد بن ماجد ذكرها في منظوماته الفلكية فقال:

والقَلبُ والشولَةُ والنَعَائِم

وَبَعدَهَا البَلدَةُ تَطلُع دائِم

ثُمَّ السعُودُ الأَربَعَة والفَرغُ

يا طال ما فُصِّل عليها الشُّرعُ

حتى أننا نجد أبو طالب بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر النعائم في مقطوعة شعرية وهو يصف أن بني هاشم بلغوا في المجد مكان نجوم النعائم، وذلك بفضل محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول:

لَقَدْ حَلَّ مَجْدُ بَني هاشمٍ

مَكانَ النَّعائِمِ وَالنَّثْرَةْ

وَخَيْرُ بَنِي هاشمٍ أَحْمَدٌ

رَسولُ الْإِلَهِ عَلَى فَتْرَةْ

ونجد الشاعر الجاهلي عامر بن الظرب العدواني يذكر النعائم في إحدى قصائده ويقرنها مع نجم النسر فيقول:

سَمَوْا فِي الْمَعالِي رُتْبَةً فَوْقَ رُتْبَةٍ

أَحَلَّتْهُمُ حَيْثُ النَّعائِمُ والنَّسرُ

أَضاءَتْ لَهُمْ أَحْسابُهُمْ فَتَضاءَلَتْ

لِنُورِهِمُ الشمْسُ الْمُنِيرَةُ وَالْبَدْرُ

في حين نجد أن الشاعر الأموي أبو طالب المأموني يذكر نجوم النعائم مقرونة بنجم السهى فيقول:

سيخلف جفني مخلفات الغمائم

على ما مضى من عمري المتقادم

بأرض رواق العز فيها مطنب

على هاشم فوق السهى والنعائم

ونرى الشاعر العباسي أبو العلاء المعري في لزومياته يذكر هذه النجوم في معرض مدح أحدهم ويذكر الصوم أيضا فيقول:

وَرِثتَ هُدى التَذكارِ مِن قَبلَ جُرهُمٍ

أَوانَ تَرَقَّت في السماءِ النَعائِمُ

وَما زِلتَ لِلدَينِ القَديمِ دِعامَةً

إِذا قَلِقَت مِن حامِليهِ الدَعائِمُ

وَلَو كُنتَ لي ما أُرهِفَت لَكَ مُديَةٌ

وَلا رامَ إِفطاراً بِأَكلِكَ صائِمُ

وإذا أتينا إلى الشاعر العباسي الشريف المرتضى نجده يشبه النوق وهي تمشي في الليل مثل نجوم النعائم التي تنتثر في السماء فيقول:

ركبوا قلائصَ كالنّعائمِ خرّقَتْ

عنها الظّلامَ بوَخْدِها تَخرِيقا

يَقطَعن أجوازَ الفَلا كمعابِلٍ

يمرُقن عن جَفْنِ القِسيِّ مُروقا

مقالات مشابهة

  • نجوم النعائم
  • لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي
  • الأمين العام لمجلس التعاون يرحب بإتمام المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا
  • كفاية تخويف.. خالد الجندي يكشف حقائق إيمانية غائبة عن سكرات الموت
  • علاج جديد واعد لمشكلة الصلع
  • أمير طعيمة: أضع ضوابط خاصة لاختيار الأعمال التي أشارك فيها .. فيديو
  • يسرا تنعى الأميرة نورة بنت بندر آل سعود بهذه الكلمات
  • دعاء اليوم الثالث عشر من رمضان .. ردد هذه الكلمات بقلب خاشع
  • على قائمة اليونسكو.. «فن التغرودة» شعر مرتَجل على ظهور الإبل
  • قصائد تتجلى بالروحانية في «بيت الشعر»