النص المسرحي العماني قضايا وأفكار «2-2»
تاريخ النشر: 28th, November 2023 GMT
ناقشتُ في القسم الأول من قضايا وأفكار النص المسرحي في عمان قضيتين: القضية الأولى «سَطْوَة التُراثِ المَحَلِّيِّ بِنَوْعَيْهِ المادِّيِّ وَغَيْرِ المادِّيِّ، وَالتُراثِ الإِنْسانِيِّ» والقضية الثانِية «هيمنت قَضايا المُجْتَمَع العُمانِيّ التي تبلورت فِي تَجَلِّيات اتجاه (المَسْرَح الاِجْتِماعِيّ)»، وسأناقش هنا القضية الثالثة، وسأحصرها في لجوء الكتّاب المسرحيين إلى فعل مُراوَغَة السُلْطَة بِجَمِيع أَشْكالِها المُعْلَنِة وَغَيْرِ المُعْلَنِة؛ خشية الرقابة.
يَصْدرُ فِعْلُ المُراوَغَةِ مِنْ الفِعْلِ «راغ» وَعَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ ما يَفْعَلُهُ الثَعْلَبُ مِنْ مُراوَغَةٍ. يَقُولُ المُعْجَمُ: «راغَ الثَعْلَب: ذَهَب يَمْنَةً وَيَسْرَةً فِي سُرْعَةٍ وَخَدِيعَةٍ، و«رَاغ روغان الثَعْلَبِ؛ أَيْ لَجَأَ إِلَى المَكْرِ وَالخَدِيعَةِ، اسْتَعْملَ طُرُقا مُلْتَوِيَةً».
السُلْطَة كَما يَقول عَنْها ميشيل فوكو مُنْتَشِرَة فِي كُلِّ مَكان. يَحْرِص مُؤَلِّفُو النَصِّ المَسْرَحِي العُمانِي عَلَى تَوْظِيفِ مَعارِفِهِم الثَقافِيَّةِ وَالمَعْرِفِيَّةِ لِيُؤَسِّسوا نَصًّا مَسْرَحِيًّا مُغايِرًا فِي إِشْكالِيَّتِه، فِينُوس بَيْنَ إِضاءات وَمَرْجِعِيّات متباينة؛ دِينِيَّة وَأُسْطُورِيَّة وَتُراثِيَّة أَوْ مَواقِفَ أيديولوجِيَّة، فَيَتَبَنَّى المؤلف أَحَد طَرِيقَيْن: إِمّا تَثْوِير الفِكْرَة، أَوْ القَضِيَّةَ الَّتِي سَيَتَناوَلُها، أَوْ الجنوح إلى التَجْرِيب في أُسْلُوب العَرْضِ المسرحي. (وَهذا يَرْتَكزُ عَلَى عَمَلِ المُخْرِجِ)؛ وكَأَمْثِلَةٍ سَرِيعَةٍ مَثَلا: المُؤَلِّف وَالمُخْرِج المَسْرَحِي مُحَمَّد خَلْفان فِي مَسْرَحِيَّة (قَرْنِ الجارِيَةِ) عَمَدَ إِلَى اخْتِيارِ أُسْطُورَة عُمانِيَّةٍ تَقْلِيدِيَّة غائِرَة فِي الأَعْماقِ، أَسَّسَ مِنْها مَوْقِفًا فِكْرِيًّا، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى التَجْرِيبِ فِي التُراث الأُسْطُورِيّ المَحَلِّيّ. أَسْقطَ عَلَى النَصِّ بَعْضَ الإِسْقاطات السِياسِيَّة وَالاِجْتِماعِيَّة، وَاسْتَطاعَ بِذلِكَ أَنْ يَتَشابَكَ وَيُراوِغَ فِي النَصِّ السُلُطات بِجَمِيعِ أَصْواتِها وكذلك فعل المؤلف بدر الحمداني في مسرحية (الجحدول.)
إِنَّ مُناقَشَة النَصّ المَسْرَحِيّ العُمانِي لِقَضايا المُجْتَمَع يَطْرَحُهُ فِي مُواجَهَة مَعَ مَفْهُوم الاِلْتِزام، وَأَنَّ الكاتِب اِبْن بِيئَتِه، يَتَأَثَّرُ بِها وَيَسْعَى إِلَى أَنْ يُغَيِّرَها. ضِمْن هذا الطَرْح سَيَكُون لِمُصْطَلَح الاِلْتِزام حُضُور وَاشْتِغال. وحَوْلَ الاِلْتِزام بِوَجْه عامّ، يَكْتُبُ الدكتور مرشد عزيز راقي، (الالْتِزامُ فِي المَسْرَحِ العُمانِيِّ- بحث منشور في مَجَلَّة نَزْوَى، 2016م) التالي:
الالتِزامُ فِي الفَنِّ المَسْرَحِيِّ هُوَ «أَنْ يَتَناوَلَ الكاتِبُ القَضايا الجَوْهَرِيَّةَ الَّتِي تَخُصُّ مُجْتَمَعَهُ، وَيُعالِجُ مَشكِلَاته ساعِيا لِاِقْتِراحِ أَنْسَبِ الحُلُولِ لِهذِهِ المشكِلِات حَسَبَ تَصَوُّرِهِ بِاتِّجاهِ العَمَلِ عَلَى نَهْضَةِ المُجْتَمَعِ، مِن خِلالِ لُغَةٍ بَسِيطَةٍ تَصِلُ لِلمُتَفَرِّجِينَ بِوُضُوحٍ».
ويرى في موضع آخر: أَنَّ الالْتِزامَ «يَتَعَلَّقُ بِالقَضايا المُهِمَّةِ وَالجَوْهَرِيَّةِ سَواء أَكانَت اجْتِماعِيَّةً أَوْ سِياسِيَّةً، وَهُوَ يُجَسِّدُ واجِبا ثابِتا يَنْبَغِي عَلَى المُلْتَزِمِ القِيامُ بِهِ وَالمُداوَمَةُ عَلَيْهِ لِصالِحِ تَطَوُّرِ المُجْتَمَعِ». ثم يَخلص إلى الْتِزامِ النَصِّ المَسْرَحِيِّ العُمانِيِّ بِمَفْهُومِ الالْتِزامِ فيَكْتُبُ التالي:
«وَقَدْ اهْتَمَّ المَسْرَحِيُّونَ فِي عُمانَ بِالالْتِزامِ بِالقَضايا الاِجْتِماعِيَّةِ وَالسِياسِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ شَدِيدَةِ الارْتِباطِ بِالواقِعِ العُمانِيِّ. وَعَلَى سَبِيلِ المِثالِ فَهُناكَ مُشْكِلاتٌ اجْتِماعِيَّةٌ عَدِيدَةٌ تَعَرَّضَ لَها المَسْرَحَ العُمانِيَّ، وَبِخاصَّةٍ فِي مَرْحَلَةِ البِدايَة...»
وَفِي هذا السِياقِ، يرى الدُكْتورُ سَعِيد بِن مُحَمَّد السَيّابِي في بحثه المعنون: (نصوص المهرجانات المسرحية في سلطنة عمان بين سياق الكلمة ودلالة اختيار الفعل الجزء الأول، موقع جريدة الوطن) أَنَّ المَسْرَحَ العُمانِيَّ قَدْ تَطَرَّقَ فِي مَسِيرَتِهِ إِلَى العَدِيدِ مِنْ قَضايا المُجْتَمَعِ المُلِحَّةِ وَالمُتَكَرِّرَةِ، وَعَبرَتْ نُصُوصَهُ وَعُرُوضَهُ عَنْ طُمُوحاتِ وَتَطَلُّعاتِ الشَعْبِ العُمانِيِّ، وَحَمَلَ فِي جَوْهَرِهِ هُمُومَ الإِنْسانِ العُمانِيِّ، فَحَمَلَ خُصُوصِيَّةً عُمانِيَّةً ذاتَ آفاقٍ حَضارِيَّةٍ وَفِكْرِيَّةٍ وَفَنِّيَّةٍ وَتُراثِيَّةٍ مُمَيَّزَةٍ...».
إن تحديد معنى الالتزام كما أشار إليه الباحثون السابقون، يدفعنا إلى مناقشة العديد من المُسلّمات التقليدية الجاهزة، وعليه أطرح هذه الأسئلة:
- هَلْ الالْتِزامُ قَضِيَّةٌ فِكْرِيَّةٌ مَحْضَةٌ؟
- وَهَلْ يَنْبَغِي عَلَى الكاتِبِ الالْتِزامُ؟
- مَتَى يَكُونُ قَضِيَّةً؟ وَكَيْفَ يَصِيرُ فِكْرا؟
- هَلْ يُناقِشُ الكاتِبُ المَسْرَحِيَّ العُمانِيَّ نَفْسَهُ أَثْناءَ الكِتابَةِ مَسْأَلَةَ الالْتِزامِ؟
- هل هناك أدب ملتزم وآخر غير ملتزم، لنفترض وجود الالتزام من الكاتب؟
- هل ينبغي على النص المسرحي عرض المشكلة الاجتماعية وتقديم حلول لها؟
- ألا يتداخل معنى الالتزام مع الإذعان للتوجه الأيديولوجي الرسمي؟
يناقش بونوا دوني في كتابه (الأدب والالتزام من باسكال إلى سارتر، ترجمة محمد برادة، ط1، الصادرة طبعته الأولى عن المشروع القومي للترجمة، 2005م) مفهوم الأدب الملتزم الذي ظهر في نهاية الحرب العالمية الثانية، بوصفه «مموضعا تاريخيا» وذلك ضمن ثلاثة عوامل هي: (استقلالية الحقل الأدبي، وابتداع المثقف، وثورة أكتوبر 1917م).
ويُعيدنا مفهوم الأدب الملتزم إلى ظهور معنيين له ظهرا على أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، المعنى الأول هو «أدب شغوف بالقضايا السياسية والاجتماعية وراغب في المساهمة في تشييد عالم جديد أعلنت عنه الثورة الروسية منذ عام 1917م.»، والمعنى الثاني يفيد بوجود فئة من الأدباء يخاطرون بحياتهم في الدفاع عن القيم الكونية مثل العدالة، فيلجأون إلى معارضة السلطة القائمة عن طريق الكتابة». والمعنى المحدد أن الالتزام الأدبي هو ظاهرة خاصة بالقرن العشرين». لا شك، أن مفهوم الالتزام الذي أشار إليه مؤلف الكتاب، وعارضه رولان بارت فيما بعد، يدفعنا إلى التفكير في التوجهات السياسية والتشكلات الحزبية التي ينتسب إليها المؤلفون بوجه عام، ليس في عُمان التي تخلو من هذا الارتباط، ولكن في الوطن العربي. لقد أثرت الأيديولوجية الفكرية والحزبية المتشددة على اتجاهات كثير من الكتّاب المسرحيين، لدرجة ظهرت اتهامات صريحة مباشرة، وأخرى مضمرة حول أن الكاتب الفلاني صنعه الحزب الفلاني! لكن ما يُهمنا في هذا العجالة، النظر من زاوية التأثير الذي أحدثته الأيديولوجية على العرض المسرحي وجمالياته، وربما أعود إلى هذه القضية في مقال منفصل.
انتقل إِلَى الاشْتِغالِ الثانِي الَّذِي سَأَحْصرُهُ فِي تَقْلِيدِ الجَمالِيّاتِ الفَنِّيَّةِ المُتَعَدِّدَةِ، كَجَمالِيّاتِ الكِتابَةِ الكْلاسِيكِيَّةِ، والرومانسية وَالتَعْبِيرِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّةِ، وَما بَعْدَ اللامَعْقُولِ.
ثَمَّةَ مَلْمَحٌ غَيْرُ جَدَلِيٍّ وَواضِحٍ لَدَى كُتّابِ المَسْرَحِ العُمانِيِّينَ يَتَمَظْهَرُ فِي خَلْطِ التَيّاراتِ المَسْرَحِيَّةِ وَاتِّجاهاتِها الفِكْرِيَّةِ بَعْضُها بِبَعْضٍ. (وَحَتَّى لا يَنْسَحِبَ كَلامِي عَلَى الكُتّابِ المُتَحَقِّقِينَ الَّذِين أَسْتَثْنِيهِمْ مِنْ هذا المَلْمَحِ)، فَقَدْ تَسَنَّى لِي المُشارَكَةُ فِي العَدِيدِ مِنْ لِجانِ تَقْوِيمِ المَسْرَحِيّاتِ، وَقَدْ لاحَظْتُ وُجُودَ هذِهِ الآفَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي تَنُمُّ عَلَى قِلَّةِ القِراءَةِ، وَقِلَّةِ اكتراث المؤلف/ المؤلفة بتَطْوِيرِ الثَقافَةِ المَسْرَحِيَّةِ.
وَأَكْثَرُ ما يَتَجَلَّى هذا الاشْتِغالُ فِي إِخْراجِ العُرُوضِ المَسْرَحِيَّةِ، الَّتِي تُعانِي تارة من سُلْطَة المُؤَلِّفِ المُخْرِجِ، أَوْ من سُلْطَةَ المُمَثِّلِ المُخْرِجِ. وَيُضافُ إِلَى هذِهِ القَضِيَّةِ عَدَمُ وُجُودِ الدراماتورج؛ فَالاسْتِعْمالُ التِقْنِيُّ الحَدِيثُ لِلدراماتورج يَسْتَفِيدُ مِن المَعْنَى الأَلْمانِيِّ لِلَفْظِ وكما يكتب الدكتور سعيد الناجي، في ورقته البحثية (المقاربة الدراماتورجية وتحليل السرد المسرحي، مجلة دراسات وأبحاث في المسرح وفنون العرض، ملف العدد (قراءة المسرح: مقاربات منهجية وديالكتيكية، يصدرها مختبر المسرح والمدينة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل، القنيطرة، العدد الأول، ديسمبر 2009م) التالي: «لَقَدْ أَصْبَحَ الدراماتورج مُسْتَشارا أَدَبِيّا وَمَسْرَحِيّا فِي الفِرَقِ المَسْرَحِيَّةِ، مُكَلَّفا بِالتَنْقِيبِ عَن الوَثائِقِ كُلِّها الَّتِي تُساعِدُ عَلَى فَهْمٍ أَكْبَرَ لِلنَصِّ المَسْرَحِيِّ المُرادِ إِخْراجَهُ. وَبِمَعْنى آخَرَ، أَصْبَحَت الدراماتورجيا مَهارَةً تَقَعُ بَيْنَ عَمَلِ الكاتِبِ المَسْرَحِيِّ، وَبَيْنَ عَمَلِ المُخْرِجِ، وَبَيْنَ عَمَلِ المُمَثِّلِينَ وَباقِي المِهَنِ المَسْرَحِيَّةِ».
خِتاما، إِنَّ المَسْرَحَ هُوَ الفَنُّ الأَشَدُّ اِنْعِكاسا لِحَياةِ الناسِ فِي المُجْتَمَعِ، فَهُوَ إِذا تَشابَكَت رُؤَى مُؤَلِّفِيهِ عن طريق الجَدَلِ لَاسْتَطاعَ مُؤَلِّفُوهُ تَوْظِيفَ التَجْرِيبِ لِفَتْحِ خِياراتٍ جَمالِيَّةٍ مُمْكِنَةٍ أَوْ مُحْتَمَلَةٍ. لَقَدْ اسْتَفادَ المَسْرَحِيُّونَ العُمانِيُّونَ كِتابا وَمُخْرِجِينَ وَمُمَثِّلِينَ مِن مُشارَكاتِهِم الجادَّةِ فِي العَدِيدِ مِنْ المِهْرَجاناتِ المَحَلِّيَّةِ وَالخَلِيجِيَّةِ وَالعَرَبِيَّةِ، مَعَ ضَرُورَةِ الوَعْيِ أَنَّ فَنَّ المَسْرَحِ فِي خُصُوصِيَّتِهِ كَما يَكْتُبُ الدكتورُ عَبْدالواحد بن ياسِر فِي كِتابِهِ (عِشْقَ المَسْرَح: دراسات نقدية، الهيئة العربية للمسرح، 2013م): هُوَ الفَنُّ الأَكْثَرُ قُدْرَةً عَلَى مُمارَسَةِ القَطِيعَةِ، فَقَدْ ارْتَبَطَت نَماذِجُهُ العَظِيمَةُ بِتَجارِبَ اجْتِماعِيَّةٍ وَتارِيخِيَّةٍ اتَّسَمَت بِالغَلَيانِ الجَمْعِيِّ وَبِاضْطِرابِ المَعايِيرِ وَالقَواعِدِ الاجْتِماعِيَّةِ وَالتَمَثُّلاتِ الجَمْعِيَّةِ، وَبِوَصْفِهِ كَذلِكَ -فَنَّ القَطِيعَةِ- فَقَدْ ارْتَبَطَ دائِما بِالقَطائِعِ التارِيخِيَّةِ الكُبْرَى وَبِالتَحَوُّلاتِ العَمِيقَةِ، فِكْرِيّا وَقِيَمِيّا وَوِجْدانِيّا..إِلَخْ».
ستظل القضايا السابقة، والاشتغالات الفنية والجماليةِ مثار جدل واسع، الأمر الذي يُمكن له أن يفتح شهية النقاش، ويوسع من دائرة البحث، أو سيظل واقفًا في مكانه. إن التعويل على الباحثين المنتسبين إلى المسرح، عليهم أن يقولوا كلمتهم طال الزمن أو قصر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الم س ر ح ی الم ج ت م ع الم خ ر ج ع مان ی إلى ال
إقرأ أيضاً:
مبدآن جديدان للمحكمة الدستورية العليا بشأن مسكن الحضانة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أرست المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشار بولس فهمي إسكندر- رئيس المحكمة، مبدأين جديدين في شأن القواعد القانونية الحاكمة لمسكن الحضانة، وإعمال الأثر الرجعي لأحكامها في المواد الجنائية، أولهما إذ قضت في الحكم الأول بأن حق الحاضنة في الاحتفاظ بمسكن الحضانة ينتهي ببلوغ الصغار سن الحضانة الإلزامي.
حيثيات المحكمة الدستوريةوقالت المحكمة في الحيثيات إن حكميها الصادرين في الدعويين الدستوريتين رقمي 7 لسنة 8 قضائية و119 لسنة 21 قضائية، قد حددا، بطرق الدلالة المختلفة، معنى معينًا لمضمون نص المادة (18 مكررًا ثالثًا) من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929، المضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985، مؤداه: أن التزام المطلق بتهيئة مسكن الحضانة ينقضي ببلوغ الصغير أو الصغيرة سن الحضانة الإلزامي، وما يترتب على ذلك من حق الزوج المطلق في استرداد مسكن الحضانة والانتفاع به، إذا كان له الحق ابتداءً في الاحتفاظ به قانـــونًا.
ولا ينال مما تقدم أن للقاضي أن يأذن للحاضنة، بعد انتهاء المدة الإلزامية للحضانة، بإبقاء الصغير أو الصغيرة فــــي رعايتها إذا تبين أن مصلحتهما تقتضي ذلك، إذ إن ما يأذن به القاضي على هذا النحو لا يعتبر امتدادًا لمدة الحضانة الإلزامية، بل منصرفًا إلى مدة استبقاء، تُقدم الحاضنة خدماتها متبرعة بها.
وليس للحاضنة بالتالي أن تستقل بمسكن الزوجية خلال المدة التي شملها هذا الإذن، ليغدو هذا المعنى هو الدعامة الأساسية التي انبنى عليها هذان الحكمان، ولازمًا للنتيجة التي انتهيا إليها، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بمنطوقهما ويكملهما، ليكون معهما وحدة لا تقبل التجزئة، لتمتد إليه مع المنطوق الحجية المطلقة التي أسبغتها المادة (195) من الدستور والمادة (49) من قانون هذه المحكمة، على أحكامها، وذلك في مواجهة الكافة وبالنسبة إلى الدولة بسلطاتها المختلفة، بحيث تلتزم هذه السلطات – بما فيها الجهات القضائية على اختلافها– باحترام قضائها وتنفيذ مقتضاه على الوجه الصحيح، ولما كان الحكم الاستئنافي قد تنكب هذا التأويل وقضى على خلافه، فإنه يعد عقبة في تنفيذ حكمي المحكمة الدستورية العليا المنازع فيهما، مما يتعين معه عدم الاعتداد به، والاستمرار في تنفيذ حكمي المحكمة الدستورية العليا المذكورين.
الحكم الثانيكما قضت في الحكم الثاني بأن إعمال الأثر الرجعي للقضاء بعدم دستورية نص جنائي، مشروط بتطبيقه في حكم الإدانة البات. وقالت المحكمة في أسباب حكمها إن مناط إعمال حكم الفقرة الأخيرة من المادة (49) من قانون هذه المحكمة المشار إليه، أن يكون النص الجنائي المقضي بعدم دستوريته قد ترتب عليه إدانة المحكوم عليه، أو أفضى إلى إدانته بأية صورة كانت، على أنه في الأحوال التي يكون فيها النص الجنائي المقضي بعدم دستوريته من بين مواد الاتهــــام، التي لم يطبقها حكم الإدانة، أو إذا كون الفعل الواحد جرائم متعددة، ولم تكن عقوبة النص المقضي بعدم دستوريته هى الأشد، أو التي يخارج فيها النص – كلية – أركان التجريم أو العقوبات بأنواعها، المقررة للجريمة التي تساند إليها حكم الإدانة، أو تنبت الرابطة – مطلقًا – بين ذلك النص وأدلة الإثبات التي يعول عليها حكم الإدانة، ففي أي من هذه الأحوال، فإن الصلة بين حكم الإدانة البات، والنص المقضي بعدم دستوريته تغدو منتفية.