جاء الحديث عن مصطلح «السَّمت العُماني» في خِطاب حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في دَوْر الانعقاد الأوَّل للدَّوْرة الثامنة لمجلس عُمان في الرابع عشر من نوفمبر من عام 2023 واحتفالات سلطنة عُمان بيوم الثامن عشر من نوفمبر وعيدها الوطني الثالث والخمسين المَجيد، حيث جاء في عاطر النطق السَّامي: «إنَّنا إذ نرصد التحدِّيات الَّتي يتعرض لها المُجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقيَّة والثقافية؛ لنؤكِّد على ضرورة التصدِّي لها، ودراستها ومتابعتها، لتعزيز قدرة المُجتمع على مواجهتها وترسيخ الهُوِيَّة الوطنيَّة، والقِيَم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأُسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتِّجاهات الفكريَّة السلبيَّة، الَّتي تخالف مبادئ دِيننا الحنيف وقِيَمنا الأصيلة، وتتعارض مع السَّمت العُماني الَّذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنيَّة».


يُمثِّل السَّمت العُماني جملة الأخلاقيَّات والآداب والثوابت والمبادئ والقناعات والعادات والتقاليد الأصيلة في فنِّ العلاقات والتعامل مع الآخرين، والَّتي حافظت على خصوصيَّة الإنسان العُماني ومسار التوازن في الشخصيَّة العُمانيَّة، وارتبطت بمنظورات عالَميَّة في فنِّ البروتوكول والإتيكيت، حيث شكَّل السَّمت الَّتي يتفرَّد بها المُجتمع العُماني في إطاره العامِّ في عاداته وتقاليده أو ممارساته لها في المواقف والمناسبات والأحداث لِتعطيَ في صورة نموذج لشخصيَّة الإنسان العُماني وتلتصق بصورة ذهنيَّة إيجابيَّة مشرِقة تعكس ما تحمله هذه الشخصيَّة من سِمات سهلة التمييز والإشارة إليها واكتشافها والتآلف معها، وهي في ظلِّ تنوُّع أدواتها وعُمق مغازيها تبرز حضورها في حركة الحياة العُمانيَّة ومنطوقها الاجتماعي وتفاعلها الأُسري، تلك الصورة النموذج الَّتي تجسِّد الخصائص والسِّمات والشمائل والخصائص والمواقف والقِيَم والمبادئ والأخلاقيَّات والأعراف الأصيلة وتُعبِّر عَنْها الشخصيَّة العُمانيَّة، فلقَدْ تجسَّد هذا السَّمت العُماني الأصيل في سلاطين عُمان العظام وهيبة إطلالاتهم الوطنيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة ورعايتهم وتشريفهم للأعياد الدينيَّة والأيَّام الوطنيَّة وما رسمَه البروتوكول السُّلطاني من محطَّات للتميُّز ومرتكزات للسُّمو في ظلِّ تنوُّع سِماته وخصائصه المتفرِّدة، أو كذلك في شخصيَّة علماء عُمان ومشائخها الأجلاء أهل الفِقه والعِلم والبيان بما يحملونه من قِيَم وأخلاق، ويظهرون به من سُموِّ خصال ورُقيِّ طباع وعظيم مقال، وما يحظون به من تقدير المُجتمع واحترامه، أو كذلك في المجالس العامَّة واللقاءات الاجتماعيَّة وغيرها مدرسة نموذجيَّة متفرِّدة لصناعة هذا السلوك، واستنطاق هذا السَّمت، وتعظيم حضور هذا البروتوكول الاجتماعي الراقي الَّذي برز في الشخصيَّة العُمانيَّة بما تحمله من وقار وهيبة واحترام، سواء في هيئتها الخارجيَّة ولبسها للدشداشة والمصر والخنجر وتسلُّحها بالعصا في المجالس العامَّة، أو في روح الألفة والتواضع وخصال الودِّ والتقدير والمصافحة والمناشدة وغيرها كثير، هذه السِّمات هي ما تُشكِّل البُعد السلوكي والفسيولوجي الَّذي عزَّز من مكانة الشخصيَّة العُمانيَّة بَيْنَ الجميع فأصبحت تحظى بمزيدٍ من التقدير والإجلال والاحترام.
على أنَّ إشارة جلالة السُّلطان المُعظَّم للسَّمت العُماني جاءت في معرض حديثه عن التحدِّيات الفكريَّة والثقافيَّة الَّتي يتعرض لها مُجتمع سلطنة عُمان وتداعياتها السلبيَّة وتأثيراتها غير المقبولة على المنظومة الأخلاقيَّة والقِيَميَّة والمُجتمعيَّة، الأمْرُ الَّذي يستدعي ضرورة اتِّخاذ الضوابط والإجراءات والآليَّات والوسائل المناسبة للتصدِّي لها ودراستها ومتابعتها والحيلولة دُونَ انتشارها أو اتِّساعها، الأمْرُ الَّذي يستدعي في الوقت نفسه تحصين النَّاشئة وتمكينها، وتعزيز القدرة الوطنيَّة المُجتمعيَّة على مواجهة هذه التحدِّيات والَّتيارات والأفكار الدخيلة بأسلوب علمي وأدوات مِنْهجيَّة، وبرامج عمل قادرة على ضمان تمكين النشء من المواجهة وتعريفه بما ينتج عن وجود هذه الممارسات من مخاطر على حياة الفرد والمُجتمع ومنظومات الدَّولة المختلفة؛ وعَلَيْه يصبح السَّمت العُماني الَّذي تحدَّث عَنْه جلالة السُّلطان معادلة القوَّة في بناء الشخصيَّة العُمانيَّة، ومساحة الأمان الَّتي يحتكم إليها الفرد ويستحضرها باعتبارها البوصلة الَّتي توجِّه مساره، والنهج الَّذي يحدِّد اختياره، والمساحة الَّتي ترقى بخياراته، في ظلِّ تكامل الأدوات وتوافقيَّتها والَّتي تنهل من مبادئ الدين الإسلامي الحنيف والقِيَم الأصيلة والثقافة الوطنيَّة الواعية والراقية والتأريخ العُماني المرصَّع بأبجديَّات القِيَم وحروفه الذهبيَّة ودُرَره النابضة بالحياة، لتتجسَّدَ في الشخصيَّة العُمانيَّة وخصوصيَّتها، بالشكل الَّذي يؤدِّي إلى إحياء هذه القِيَم ومراقبتها ورصدها وتنقيتها ومراقبة المتغيِّرات والتحدِّيات الَّتي باتَتْ تؤثِّر سلبًا عَلَيْها لِتكُونَ قِيَمًا حيَّة في نفوس أبناء عُمان وبناتها يفخرون ويتفاخرون بها وينضوون تحت لوائها، حينها لَمْ يفقد المواطن العُماني أصالته، وظلَّت الخصوصيَّة العُمانيَّة تلازمه في حضَره وسفَره وحلِّه وترحاله في عُمان وخارجها، وهو ما أكَّد على عُمق معنى الوطن والشخصيَّة الوطنيَّة والتراث الإنساني في شخصيَّة الإنسان العُماني.
من هنا فإنَّ مدلولات السَّمت العُماني في الخِطاب السَّامي لجلالة السُّلطان المُعظَّم تستدعي اليوم استحضاره وإبرازه في شخصيَّة الإنسان العُماني ومواقفه وتعاطيه مع الظروف والمتغيِّرات والتحدِّيات وامتلاكه الأدوات والوسائل الَّتي تجسِّد المُكوِّن القِيَمي العُماني بكُلِّ تفاصيله في بساطته وتكامل مفاهيمه ومفرداته، والروح الجماليَّة الَّتي تبرز الصورة الحضاريَّة للشخصيَّة العُمانيَّة في اعتدالها الفكري وتوازنها المعرفي، وقِيَم المحبَّة والسَّلام الَّتي تحملها، وروح البساطة الَّتي تجسِّدها، والحسِّ الإنساني الَّذي يبرز اندماجها وتفاعلها مع الآخر، لتتَّجهَ إجراءات العمل في إطار تحقيق رؤية عُمان 2040 وأولويَّتها «المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنيَّة» إلى جملة الموجِّهات الآتية:
? ترسيخ الهُوِيَّة الوطنيَّة والقِيَم والمبادئ الأصيلة في حياة المُجتمع، وتجديد أدواتها، ورفع سقف التعامل معها، وبثُّ الحياة فيها وإعادة إنتاجها بروح عصريَّة ووفق أدوات وبرامج تستفيد من الفرص المُتحقِّقة من التقنيَّة والعالَم الافتراضي، وهو ما يعني أنَّ ترسيخ الهُوِيَّة العُمانيَّة والقِيَم والمبادئ يُشكِّل اليوم مساحة أمان في علاج هذه التحدِّيات والوقوف عَلَيْها، وتبنِّي سياسات وطنيَّة تؤكِّد على الدَّوْر الرقابي والتقييمي للهُوِيَّة والأخلاق والمبادئ العُمانيَّة، وتعزيز حضورها النَّوعي، واستنطاق هذه القِيَم واستنهاضها في حياة الفرد والأُسرة والمُجتمع، أهمِّية العمل على المحافظة على الثوابت والقِيَم والمبادئ الَّتي تحمل سِمة الخصوصيَّة والسَّمت العُماني الأصيل الَّتي يفخر بها المُجتمع وما زالت تُميِّزه عن غيره من المُجتمعات أو أنَّ ممارسته لهذه الخصوصيَّة يأتي في إطار من الحكمة والتوازن والمصداقيَّة والثبات، وبالتَّالي تبنِّي السِّياسات والإجراءات والخطط والبرامج العمليَّة الَّتي تدعم وتُعزِّز وتؤصِّل وتحافظ على هذه المكتسبات الوطنيَّة، وتعظيم قدرها في فِقه الناشئة، وتعميق حضورها في مفاصل العمل الوطني والبناء الأُسري ونشر الوعي بَيْنَ أفراد المُجتمع بالتحلِّي بالفضائل الَّتي تحمل قِيَم وهُوِيَّة المُجتمع العُماني وعَبْرَ رصد وتشجيع أفضل الممارسات المُعبِّرة عَنْها، والإعلاء من شأن النماذج الإيجابيَّة وصناعة القدوات الوطنيَّة، وتنشيط ممارستها في التعليم والإعلام والأُسرة والمؤسَّسات والخِطاب الاجتماعي وغيره، وتبنِّي المناشط التنافسيَّة والبرامج وتوفير التشريعات والقوانين والإجراءات الَّتي تؤكِّد عَلَيْها، فإنَّ اندثار القِيَم والمبادئ الَّتي تُميِّز السَّمت العُماني سوف يكُونُ لها تداعياتها الخطيرة على المُجتمع وتوجُّهات الدَّولة في ترسيخ هذا السَّمت.
? إعادة الهيبة للأُسرة العُمانيَّة وتأكيد مِنْهج التوازن في هيكلة بنائها، والتجديد فيها بما يحفظ لها هُوِيَّتها العُمانيَّة وما تنعم به من روح التسامح والتناغم والمشتركات الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والسلوكيَّة وتقاسم المسؤوليَّات والَّتي هي انعكاس لقِيَم الإسلام العظيم الدَّاعية إلى الحُب والمودَّة والرحمة وبِرِّ الوالدين وزيارة الأرحام واحترام الجار، وتوقير الكبير والعناية بالأُسرة وضمان توفير كُلِّ مُقوِّمات الأمن والسَّعادة والطمأنينة لها، وتجنيبها كُلَّ المسالك المشينة أو السلوكيَّات المريبة الَّتي تتجانب وأخلاقيَّات الإنسان العُماني في وفائه لأُسرته وتقديره لها، شواهد إثبات ونماذج مضيئة وقدوات راقية سطَّرها الآباء والأجداد في حياتهم الأُسريَّة، وبالتَّالي إعادة تصحيح المفاهيم المغلوطة والمصطلحات السلبيَّة الَّتي يتداولها الشَّباب حَوْلَ المسؤوليَّة الزواجيَّة والارتباط الأُسري وعدم استساغة العيش في جلباب الوالديَّة، إذ يرون فيها تقييدًا لحريَّاتهم، ومنعًا لَهُمْ من فرص الاستمتاع بحقوقهم، وإعادة إنتاجها بطريقة أكثر توازنًا، بما يضع الجهات المعنيَّة بالأُسرة والمنظومات التشريعيَّة والقضائيَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة والتربويَّة والدينيَّة والإعلاميَّة أمام مراجعة واقعيَّة للملف الأُسري بكُلِّ تفاصيله، وتوظيف المفاهيم والمفردات المرتبطة بالإيجابيَّة والطموح والاحتياج والاستقلاليَّة والحُريَّة والصلاحيَّات والتَّمكين والثِّقة كمنطلقات لاستمراريَّة نجاح الأُسرة وقدرتها على التكيُّف مع الواقع المُتجدِّد، ومساهمتها في إنتاج ثقافة مُجتمعيَّة قادرة على الصمود في مواجهة المتغيِّرات المُقلقة، بما يؤكِّد في الوقت نَفْسِه على ضرورة إيجاد السِّياسات الضبطيَّة الأُسريَّة، وتعزيز دَوْر التشريعات والقوانين وفرض المعايير الَّتي تحفظ للأُسرة موقعها في المنظومة الاجتماعيَّة، ويوفِّر للبناء الأُسري مُقوِّمات النجاح، بشكلٍ تقترب فيه قواعد القانون الأُسري من الواقع ويمارس خلاله دَوْر الناصح الرشيد والموجِّه الحاذق والدَّاعم لتغيير السلوك، وخلق تناغم بَيْنَ ما تحمله هذه التشريعات من أحكام وقواعد وما تنشده من أمان واطمئنان واستقرار.
? أهمِّية رصد الظواهر والتحدِّيات السلبيَّة الفكريَّة والاجتماعيَّة والعادات الضارَّة الَّتي باتَتْ تنتشر في المُجتمع العُماني، سواء على مستوى الأفراد والولايات أو الظواهر المُجتمعيَّة الَّتي باتَتْ تمارس في المُجتمع أو الشَّباب دُونَ إدراك لمخاطرها أو أنَّها ممارسات مكتسبة جاءت نتاجًا لوجود الأيدي الوافدة أو تفاعل الثقافة العُمانيَّة مع غيرها من الثقافات أو التقنيَّة أو بعض الظروف الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الَّتي أدَّت إليها، ورصد بعض السلوكيَّات والعادات المكتسبة الَّتي دخلت إلى المُجتمع العُماني، وأهمِّية تتبُّع هذه الظواهر وتسجيلها وتبنِّي آليَّات محكمة للوقوف عَلَيْها ودراستها، وتداعياتها الأمنيَّة والاقتصاديّة والفكريَّة والشخصيَّة وتأثيراتها على الخصوصيَّة والسَّمت العُماني، هذا الأمْرُ يؤكِّد على أهمِّية تبنِّي مسار وطني واضح في تسريع وتفعيل وتمكين دَوْر المؤسَّسات التعليميَّة والبحثيَّة والعلميَّة ومراكز البحث العلمي والاستشارات المُجتمعيَّة والأُسريَّة ودَوْر المجالس التشريعيَّة والمجالس البلديَّة وغيرها في تقديم تشخيص هذه الظواهر والتعريف بها وتصنيفها، وتقديم الدراسات المعمَّقة والمتخصِّصة لمعالجتها ودراستها بصورة عمليَّة وعلميَّة وموضوعيَّة وحياديَّة، بما يؤكِّد على أهمِّية تبنِّي مسار وطني واضح في تسريع وتفعيل وتمكين دَوْر المؤسَّسات التعليميَّة والبحثية والعلمية ومراكز البحث العلمي والاستشارات المُجتمعيَّة والأُسريَّة، ودَوْر المجالس التشريعيَّة والمجالس البلديَّة وغيرها في تقديم الدراسات المعمقة والمتخصِّصة حَوْلَها بكُلِّ موضوعيَّة وحياديَّة.

د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة والاجتماعی ة الع مانی ة الم جتمع الم جتمعی ة وغیرها ة الوطنی هذا الس م جتمعی الأ سرة ة والأ ة والق ة والس فی الم

إقرأ أيضاً:

المجتمع العُماني في زمن التباهي.. أين العقل من الزحام؟

 

سُلطان بن خلفان اليحيائي

 

إهداء وطني

إلى من تمسكوا بجوهرِ العُماني الأصيل، فلم تغوِهم المظاهرُ البراقة، ولم تُبدلهم موضاتُ الزمان، وبقوا كما أراد الله لهم: أوفياء للأرض، صادقين مع الضمير، نزهاء في اليد والفكر والسلوك.

بين نعمةٍ ونقمة

لم تعد المسافات تُقاس بالكيلومترات، بل بثوانٍ تُرسل فيها صورة أو تغريدة.

ولم تعد المعرفة حكرًا على المتعلمين، بل أُلقيت في الأيدي كما يُلقى الماء، حتى غدا الهاتف قطعةً من الذراع لا تُفارق الكف.

طفرةٌ تكنولوجيةٌ هائلة قلبت معايير الوعي، وفتحت أبوابًا من النور، لكنها جرت خلفها ظلالًا طويلة من الغفلة والانبهار.

فما بين شاشةٍ تُعلم وأخرى تُضلل، وقف الإنسانُ محتارًا.

لقد نقلت التقنية وعيًا متسارعًا ومهاراتٍ لم تكن ممكنة قبل عقدٍ واحد، وقربت المسافات بين المدن والولايات، وأتاحت فرصًا للتعلم والعمل والتواصل.

لكنها في المقابل فتحت نوافذ لا تنام، تُطل على عالمٍ يعج بالتفاخر والمقارنات والسباق المحموم نحو المظاهر.

تغيرت النفوس، واشتد التوتر، وضاقت الصدور، لأن كل أحدٍ صار يقيس نفسه بما يرى، لا بما يملك من جوهرٍ وقيمة.

نرى اليوم من يُقيم عرسًا يُرهق به نفسه بالديون ليُظهر الثراء، ومن يُبدل مركبته كل عام طلبًا للمكانة، ومن يُنفق وقته على تصوير مائدة الطعام أكثر من الجهد الذي بذله في كسبها.

كلها صورٌ تُخبرنا أن المظاهر تمددت حتى غطت على القيم.

الركض قبل الحبو

صرنا نريد كل شيء دفعةً واحدة؛ نطالب بنتائج بلا مقدمات، وبمجدٍ بلا تعب، وبشهرةٍ بلا عطاء.

تسللت المقارنات إلى بيوتنا، فصار الشاب يُقارن نفسه بمن يراه على الشاشة، وتقارن الفتاة حياتها بما تبثه المؤثرات في منصاتٍ لا تعرف إلا البريق.

نركض قبل أن نحبو، ونخطط قبل أن نتعلم كيف نفكر، ونقيس أحلامنا بأوهامٍ رقمية تُزين لنا العجز في صورة النجاح.

المظاهر وزعزعة القيم

المبالغةُ صارت سِمة العصر؛ في الملبس، والمناسبات، واقتناء ما لا نحتاج، وفي التجميل، والمساكن، وحتى في الكلام باستخدام مصطلحاتٍ أجنبيةٍ بلا داعٍ.

أصبح البعض يُنفق ما لا يملك، فقط ليُقال عنه إنه "يملك"، ويقحم نفسه في دوامة القروض والمنافسات الفارغة.

والأخطر أن التباهي تسلل إلى القيم ذاتها؛ فاختلطت النزاهة بالمنفعة، وتقدم المظهر على الجوهر، وارتفعت الرشوة في السلوك اليومي قبل أن ترتفع في المعاملات، وتراجع الصدق أمام الكذب، والنزاهة أمام الفساد، حتى غدت "المصلحة" شعار المرحلة، لا "الأمانة".

الإنسان بين لقمة العيش وصخب المظاهر

يعيش الإنسانُ العُماني اليوم بين ضغطِ المعيشة وصخبِ المظاهر؛ فهو يُكافح بكرامةٍ ليصون أسرته وسط موجات الغلاء، بينما يرى حوله من يُنفق ويتباهى بما لا يملك، كأنهم في عالمٍ آخر لا تمسه أوجاع الناس.

إن هذا التفاوت يولد شعورًا بالمرارة، حين يغدو التفاخر مقياسًا للنجاح، ويُقدم البريق الخادع على حساب الجد والاجتهاد.

تداعياتٌ تمس النسيج الوطني

كل انحرافٍ في القيم يترك أثرًا على الوطن، لأن المجتمع إذا فقد وجهته الأخلاقية فلن تُعيده القوانين وحدها.

لقد بدأنا نرى ظواهر دخيلة: محاباة، ومجاملاتٍ في غير موضعها، وتعطيلًا للكفاءات الصادقة، وتسلقًا للمناصب على أكتاف العلاقات، وجرأةً على الحق لم تكن مألوفة في بيئتنا العُمانية الأصيلة التي تربينا فيها على البساطة والرقي في المواقف.

من باب العدالة لا التعميم

ومن الإنصاف أن ندرك أنَّ هذه المظاهر والتجاوزات لا تمثل كل أبناء الوطن، فالمجتمع العُماني ما زال يحتفظ بكنوزه من القيم والحياء والأصالة.

لا يزال بيننا من يعيش ببساطةٍ وكرامة، لا يُباهي ولا يُفاخر، بل يعمل بهدوءٍ وإيجابية، ويخدم وطنه بضميرٍ نقي.

ولذلك فإنَّ العدالة الاجتماعية تقتضي ألا نُحمل المواطن البسيط أوجاع الحياة فوق طاقته، وأن نحميه من الضيم والإجحاف في حقوقه، فهو في النهاية عصبُ الوطن وقلبُه النابض.

بين الزحام والبصيرة

لسنا ضد التطور، ولا ضد الطموح، ولكن التقدم الحقيقي لا يكون بالمظاهر، بل بالعقل والوعي والانضباط.

لقد انشغلنا بالزحام الرقمي حتى أضعنا صوت العقل، وتماهينا مع الصور حتى نسينا جوهر الإنسان.

والواجب اليوم أن نعيد ترتيب سُلم القيم في عقولنا، وأن نُدرب أبناءنا على الصبر لا على الشهرة، وعلى الإتقان لا على المظاهر، وعلى الفعل لا على القول.

ومضة وعيٍ أخيرة

الوطن لا يحتاج إلى مزيدٍ من "المتأثرين" بالسلوكيات الخاطئة، بل إلى مزيدٍ من "المؤثرين" بتطبيق المبادئ الإسلامية والتخلق بالأخلاق الفاضلة.

نحتاج أن نحدد وجهتنا الصحيحة نحو أهدافنا الحقيقية لا الخيالية، وأن نعلم أبناءنا أن القيمة في ما تُقدمه لا في ما تُظهره.

ولنمضِ نحو مُستقبلٍ مشرق، ولنجد الوقت للإنصات والتفكر، وألا ندع زحمة المظاهر تبتلع صوت العقل وحكمته.

مقالات مشابهة

  • المجتمع العُماني في زمن التباهي.. أين العقل من الزحام؟
  • مواجهات متزنة ومتكافئة في قرعة «كأس جلالة السلطان لكرة القدم»
  • "العمل" توقع برنامج تعاون مع البنك الوطني العماني لتوظيف الكوادر الوطنية
  • مدفيديف: روسيا تعمل على تطوير أسلحة متقدمة لتدمير الأهداف في العمق الدفاعي للعدو
  • صندوق النقد الدولي يرفع توقعاته لنمو الاقتصاد العماني إلى 2.9% و4% خلال العامين الحالي والمقبل
  • النهضة يكتسح عبري بنصف درزن في كأس جلالة السلطان للهوكي
  • شكر على تعاز
  • نتائج منافسات الأسبوع الثاني لكأس جلالة السلطان للهوكي
  • نيجيرفان بارزاني، العمق الاستراتيجي والاستقرار المشترك
  • جلالة السُّلطان المعظم يهنئ رئيس أذربيجان