مدرسة في عالم الموسيقى العالمية بل فلسفة نادرة الوجود رحل محمد الأمين ورحل معه عبق الزمن الجميل (1)
تاريخ النشر: 28th, November 2023 GMT
www.badawi.eu
قلنا ما ممكن تسافر:
في ذكرى رحيل هذا العملاق ومآثره التي تركها لنا وهي دون شك إرث عالمي ينبغي أن يشار إليه بالبنان، نرى بصمات الموسيقار محمد الأمين في أمثلة نادرة الوجود ذلك في سياق الأغنية السودانية المليئة بالعاطفة الجياشة وبالحب الصادق المفعم بأحسيس دفينة، عندما تغنى بنادرته "قلنا ما ممكن تسافر".
الفرقة الماسية المحمدأمينية:
رصع ود الأمين هذه الأغنية (قلنا ما ممكن تسافر) بصولو للكمان انطبع بحلاوته - وشكرا لكل أصبع من أياد العازفين المهرة الذين عزفوه - يتحاور فيه هذا الأخير مع جلّ الفرقة الماسية الفريدة، حيث يدور اللحن والصولو كما يدور الدرويش في ساحة الذكر، يأخذنا إلى عوالم حلقات الذكر في صوفية خالدة. وبين هذا وذاك نتأمل بنشوة وعين مبصرة باصرة بصيرة حركات ود الأمين وهو يرجع البصر إلى الوراء مراقبا الفرقة بدقة وألا يفلت الوقع والإيقاع من إحدهم، وهم في ذلك أحرص منه. وفي هذا المقال والمقام يجب يا سادتي ويا أهل السودان أن نشيد بأعضاء الفرقة "الماسية المحمدأمينية" التي كانت حريصة على أن يبقى كل فرد فيها عضوا فاعلا وحتى في المهجر فهم لم يهجروه أو يتنكروا له. نقول لهم: يا سادتي الكرام من أعضاء فرقة محمد الأمين، متعكم الله بكل جميل، بقدر ما أمتعتمونا طيلة هذه العقود، بالعزف المجود، وبالنغم الأصيل وبالاخلاص في كل جملة موسيقية أخرجتها أناملكم من آلاتكم ، فلقد سطرتهم أنتم وهو بموسيقاكم وموسيقاه تاريخا لن يندثر، ووضعتم بصامتكم في كل لحن ونفس مما قدمه هذا العبقري الفذ. شكرًا مرة أخرى لكم يا أستاذة، شكراً للكمنجات الرائعة، للإيقاع المنبنقز الخطير الذي يدق كما عقارب الساعة، للموزع والمدقق الأستاذ أسامة عازف البيكلو، لعازف الجيتار والباص، والساكس، والمزمار، والبقية الباقية إن نسيتها فاسمحوا لي، فكلم جواهر تنتظم في عقد فريد و في دنيا الفن الأصيل.
تبكيك الجوامع الانبنت ضانقيل يا غرار العبوس:
ألا رحم الله الاستاذ محمد الأمين وطيب الله ثراه بقدر ما أعطى وبقدر ما جاد به عوده وحنجرته، لحنه وموسيقاه ودعونا يا سادتي نستعيد في ذاكرتنا الجمعية بكاءه على العظماء بواحدة من أغنياته الجميلة التي جاءت بإيقاع المناحة ألا وهي "أغنية غرار العبوس دار الكمال ونقاص دوبة حليل أبوي اللي العلوم دراس تبكيك الجوامع الانبنت ضانقيل لقراية العلم ونبرة التهليل". يبكيك السودان وجل أفريقيا يا محمد الأمين لأنك أعطيت ولم تبخل بكل جميل نبيل، عزيز وغال وسوف تبقى فينا ما بقينا على وجه هذه الفانية.
من جهة أخرى بكى ود الأمين عازة الوطن وهو في وحدة ووحشة وتغرب إلا من عودٍ رنان احتضنه في صدره وكأنه الوطن الجريج، والابن الوجيع فقد رأى ود الأمين أن يحتضنه في جنباته كأم رؤوم ليضمد جرحه الغائر. رحل كما رحل زميله العملاق عبد الكريم الكابلي ودفنا، يا للحسرة، بعيدًا عن أرض الطهر النيليّ حيث عاشا فيه سنيّ الزمن الجميل.
أغنيات بنكهة النيل:
دون مغالاة فالأغنيات التي ألفها محمد الأمين بها نكهة النيلين أبيضه وأزرقه، ولو بدأنا يا سادتي أن نطرق باب كل أغنية من أغانية لاحتجنا لسنين عددا، ولما أعطيناه حقّه وأن يكون الجزاء الوفاق. تغنى بالخفيف حينما غرّد بأغنية "أسمر جميل فتان"، وصدح بالأغنيات الكبيرة التي أطلق عليها هو هذا المصطلح العجيب، "الغنا الكبير" كما في رائعته "أربعَ سنين" للشاعر الراحل خليفة الصادق، والتي تغنى فيها بساحرة من ساحرات الجمال الفريد، أختنا الراحلة فاطمة مكي، طيب الله ثراها، فهي وهما بصموا بحبهم وحيواتهم على حدقات أفئدتنا كلمة تندر هذه الأيام وبكل بساطة هي كلمة "الريدة أي الحب بل أعمق منه عندما تنطق بلسان سودانيّ مبين" ذاك هو الحب لا يضاهيه حب. ومن ثمّة دعونا نعرج ونتأمل سمفونيته الفريدة «خمسة سنين» التي سطرها قلم الشاعر الوديع عمر محمود خالد، لتضع اكليلا من الرومانسية حول عنقه.
لي صديق مغربي مراكشي، أقدره ويقدرني هو الأستاذ شاعر الملحون المعروف سي محمد بوعابد (أبو ريم). تحدثنا عن محمد الأمين وطلب مني أن أرسل إليه بعض من أغنياته ذلك بعد أن سمع برحيله، عبر كلمة صغيرة أرسلتها في قروب الواتسآب. وعجبت أنّه يعرفه حقّ المعرفة وطفق يحدثني عن لقاء له في حفل ما، طلب الموسيقار من الجمهور أن يستمع قائلا لهم "أنتم أتيتم لتستمعوا ... لا لتغنوا ..." وفي هذا السياق جاء مصطلح "الغناء الكبير" الذي يترجمه ويقدمه هو في كل حفل بطريقة مختلفة حيث ملكة الارتجال. وما كانت تلك الكلمة في الحقيقه إلا درس تاريخيّ ومرافعة سامية في أدب الغناء والاستماع. وكما جاء في القرآن "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه".
مثال للسهل الممتنع .... "قلنا ما ممكن تسافر":
قلنا ما ممكن تسافر
نحن حالفين بالمشاعر
لسه ما صدقنا انك بجلالك جيتنا زاير
السفر ملحوق ولازم انت
تجبر بالخواطر
الغريبة الساعة جنبك تبدو أقصر من دقيقة
والدقيقة .. وانت ما فى مُرَّة ما بنقدر نطيقها
دنيا بقربك يفرهد كل طاير يحيا فوقها
وجنة من بعدك بيذبل كل مخضر فيها ناضر
لوتسافر دون رضانا
بنشقى نحن الدهر كله
ما بنضوق فى الدنيا متعة
وكل زول غيرك نمله
أقل حاجة تخلى سفرك
حتى لو أسبوع أقله
وانت عارف نحن بعدك
للصباح ... دايما نساهر
لا ... لا ما بنقدر نسيبك تمشى للوحدة وتعاني
برضو ما بنقدر نقاوم شوقنا من بعدك ثواني
وما بنغني وراك كلمة وما بنشوف البهجة تاني
غايتو لو شفقان علينا
ما أظنك
يوم تسافر
قلنا ما ممكن تسافر
خبر الوفاة بالمدينة الحمراء:
لقد وصلني الخبر المشؤوم وأنا في المدينة الحمراء التي أحبّها وأعشق ترابها في كل لمحة ونفس وقد تألمت كل الألم للفاجعة التي أتت برحيل الموسيقار والمدرسة الفنية العالمية محمد الأمين عن دنيانا البائسة. نعم رحل "أبو الأمين"، كما أحب جمهوره ومحبيه دائما أن ينادوه وينعتوه. كلنا يعلم ما وصل إليه حال بلدنا اليوم. صرنا في عداد العوالم المنسية: لاجئين، كادحين، فاقرين إلا من عزة النفس وحب الوطن الجريح. ورغم آلام هذا الجرح الغائر المدمخ بفقد البلد تتبادر إلى ذهني العديد من التساؤلات في حق بلد أسمر فتح بيبانه على مدّ العصور ل"للغادي والضهبان" على حدّ قول المثل السوداني.. الأسئلة التي تطرح نفسها، في سياق نسيان الأمّة العربية والإسلامية لبلد سُمِيّ ذات يوم "سلة العالم للغذاء"، هي وبكل بساطة:
أين جامعة الأمم العربية وأين الأمم العربية بالأحرى بل أين أمّة الإسلام والعروبة التي تتراقص وترقص والسودان وغزة يعومان في آلامهما. أظن أن تلك الأمم الغابرة، كانت ولا تزال سرابا بقيعة حسبناه ماء.
يا عجبي، انتفض العالم لأوكرانيا وتضافرت الدول على دعمها وتساندت، بيد أنها وفي نفس الوقت، جمعت عدّتها وعتادها بل كل ما أعطيت من مفاتح ينوء بحملها ذوو العصبة أولو القوة لدعم دولة إسرائيل وحسبت بل احتسبت أبناء غزة والضفة الغربية وأبناء النيلين، أبيضه وأزرقه، في عداد الغابرين كما احتسبوا دوما أبناء سودان الطهر والصمود من قبل ومن بعد. أعلم أن بعض الدول الأوروبية ورغم تباين وجهات النظر فيما يتعلق بحضورها في إطار السياسة في الشرق الأوسط، نجدها قد فتحت الأبواب على مصراعيها ولقد قالتها المستشارة الألمانية (طيب الله ثراها - حتى في حياتها): "نعم، نحن قادرون"، وتقصد في استيعاب كل اللاجئين من الوطن العربي، ولنضع خطًا أحمر تحت كلمة "عربي". حقيقة يمكن أن يتبادر لأذهاننا السؤال التالي: "مالهم ومالنا كي يساعدونا ... فليس لهم في أمرنا لا ناقة ولا جمل"، أقولها ملئ شدق وأعني ما أقول، في حين أن النبي (ص) قد وصى على سابع جار يا أمّة العروبة. فإلى أين ذهب الجيران في هذه المخمصة يا سادتي؟ هل انفتحت الأرض وابتلعتهم؟ أم أنهم لا يزالون في كيدهم يعمهون. على الرغم من هذه التحديات، يظل السودان مكانًا ينبض بالحياة والثقافة. الشعب السوداني أظهر ومنذ اندلاع ثورته الفتيّة صمودًا وإرادة ليس لها نظير، مهموما بتحقيق تغيير إيجابي على الساحة، وكانت تلك آماله في تحقيق استقرار سياسي واقتصادي لكل أبناء الوطن الذين ضربوا في أرض كل مضرب وألقوا في متاهات الدنيا عصييهم وبنوا بيتًا وخيمة ... على حد المثل الجاهلي.
حلم السودان الجميل:
رحل عنَّا ود الأمين وكان يحلم بسودان حمله في كل جوانحه إلى دنياه السرمدية، حمله إلى جنان الخلد والفراديس. نعم، كان دائما يتحدث عن الكارثة التي ألمّت بالبلد والتي لم يكن يتوقعها أو تخطر ببال أحد منّا، اللهم إلا الذين لديهم مفاتح الغيب. وكم أحسّ بجرحه يقابلني وهو يتغني بروائعه "ود مدني"، "بتتعلم من الأيّام، مصيرك بكرة تتعلم"، "أسمر جميل فتّان" وكأنه يناجي محبوبته عازة الوطن. محزن أن هذا الأسمر الذي تغنى به ود الأمين، تغيرت ملامحه ولم تعد تلك البقعة هي البقعة التي نشأ بها وتعرعرع على جنباتها. صارت بلاد النيلين موقع للقتل والنهب والاحتيال، بؤرة للألم وفعل كل الفظاعات والدناءات البشرية التي تخطر ببال الجنّ ناهيك عن البشر. رحل عن دنيانا راضيا مرضيا حاملًا معه حب الناس في كل لمحة ونفس، تنفس وقتئذ وعند الرحيل بتلك الكلمات: "دوبا حليل أبوي ... للعلوم درّاس ... دوبا حليل أبوي اللعلوم دارس". ويقصد يا حليل، يا حسراتاه على السودان معلم الأمم.
السودان مهد الفن والجمال:
نجد القلائل من أهلنا في الخليج بل في كل بقاع الوطن العربي لا يعرفون إلا القليل عن ثقافات السودان المتباينة، هذا البلد الذي هو في الحقيقة قارة للثقافات والفن والأبداع، ذلك بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان. يجهلون حاضرنا وماضينا، تاريخنا ومستقبلنا، وبين هذا وذاك يجهلون بل يتجاهلون موسيقانا الخماسية الخالدة ومن أؤلئك من "يتتريق عليها"، لذلك وبكل أسف وحرقه، نجد الحضور الفني السوداني في مهرجانات العرب خجولا إلى أبعد الدرجات. لماذا؟ ألأن موسيقانا لا ترقى إلى قمم موسيقاهم؟ أم لأننا لا نستطيع أن نخرج عباقره في الفن مثلهم – مثال محمد عبدو وميادة وصابر الرباعي وراغب علامة وغيرهم، أم لعلة في نفس يعقوب؟ على كل أقولها وأكرر، كما قالها مالكم إكس لأهله من بني السودان "أنتم جميلون"، وأقول لكم يا أهلي في السودان بلسان مالكوم إكس: أنتم قمة في الجمال والإبداع والألق وكذلك موسيقانا، هيّ طفرة ودرّة من درر موسيقى العالم المترامي الأطراف، ولو بدأنا في حسبان جوانبها وميزاتها لبقينا في حساباتنا إلى يوم يبعثون ونبعث. إنّ هذا المقال يسلط الضوء على ما كان يجول بدخيلة ود الأمين: السودان، أبعاده الفنية والثقافية في الوطن العربي، تداخلاته ومن ثمّة انحساره وانحصاره على نفْسِهِ ونَفَسِهِ. ولكن الأيام دول يا سادتي فمن غرّه زمن ساءته أزمان واللهم لا شماتة.
عازف العود الماهر:
عندما نتحدث عن عزف العود في عالم الموسيقى سواء في الوطن العربي أو بالسودان فلابد أن يتبادر للمستمع العربي أسماء مثال: وديع الصافي، فريد الأطرش، القصبجي، منير بشير، نصير شمة، ومن المغرب العربي سعيد الشرايبي ومن تونس أنور إبراهيم، لكن لم يخطر على بال متذوقيّ آلة العود أن يرجعوا إلى قامة سامقة لا تقل عن من ذُكِروا من قبل، هو الأستاذ الموسيقار محمد الأمين. لم يفارق العود صدره طيلة حياته، وكان العود هو الصديق والرفيق والمدد الذي يستشف منه كل هذا الابداع. نعم، محمد الأمين العازف المحترف لا يقل قسطا عن وديع الصافي أو فريد الأطرش. للأسف فإن الإعلام العربي مجحف، مريض ومتوحّد (إقصد هاهنا مرض التوحّد - إيّ الانحصار على الذات)، وأشير هاهنا بأنه لا ولم بل ولن يلفت الانتباه حتى الآن لقامات سودانية ومغربية على سبيل المثال لا الحصر، متميزة فريدة بعبقرية خارقة للعادة كمحمد الأمين أو محمد وردي، عبد الكريم الكابلي من السودان أو كسعيد الشرائبي، عبد الوهاب الدكالي، عبد الهادي بلخياط وغيرهم من المغرب.
على كل نقولها الآن على الملأ، إن بحثنا في الوطن العربي على عازف ماهر يمتلك نواصي الآلة من الألف إلى الياء فهو بدون أدنى شك ود الأمين، أجل بخماسية ألحانه وسلاسة ألوانه وفخامة جمله الموسيقية.
حتى في سياق الموسيقى بالسودان فهو علم على رأسه نار. نعم، يوجد بشير عباس، يوجد برعي محمد دفع الله وآخرًا عوض أحمودي، لكن لو اجتمعوا جميعهم، مع كل احترامي وحبي لفنهم وحرفيتهم، لن يصلوا إلى عبقرية ود الأمين وحدث ولا حرج. (مع كل الاحترام والتبجيل لكل عازف محترف في السودان)
(يتبع)
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الوطن العربی محمد الأمین
إقرأ أيضاً:
الدعم السريع جيش وطني لا جنيدي ولا عطوي
انتشرت في الآونة الأخيرة "بروباقندا" للفلول والمرتزقة "المشتركة"، تعمل على وصم جيش التحرير الوطني – قوات الدعم السريع، بأنها مشروع لكيان اجتماعي يسمى العطاوة والجنيديين، جاءت هذه الدعاية المغرضة بعد أن تكبد الفلول ومرتزقتهم الهزائم في جميع المحاور، وقصد من هذه الاشاعة تحجيمها وحصرها في الإطار الإثني والقبلي الضيق، ليسهل بعد ذلك عزلها من المجتمع، متناسين الموقف المشهود لقائدها حينما ألقى القبض على ابن عمه الشيخ موسى هلال بمستريحة، وعندما حاول مقدم البرنامج التلفزيوني آنذاك جرّه لفخ القبيلة، وأراد مخاطبته كرزيقي (جنيدي – عطوي)، رفض ذلك التعريف، وهدد بالانسحاب من الحوار، لو أن مقدم البرنامج أصرّ على استنطاقه من المنطلق القبلي، فنزع السماعة والمايك، ومن جميل صفات القائد بحسب شهادة المقربين منه، أنه مطلقاً لا يحتفي بمن يتقرّب إليه من باب القبيلة أو الجهة أو العرق، لهذا السبب التف حوله الشرق والشمال والوسط والجنوب قبل الغرب، ومعلوم أن الانسان السوداني البسيط قد تأثر كثيراً وما يزال، بخبث طرائق الآلة الإعلامية لفلول النظام البائد، والتي نجحت إلى حد ما في تفكيك المجتمع، لملل ونحل وعشائر وقبائل لكي تسهل قيادته، إنّ قوات الدعم السريع نشأت بقانون، أجازه نفس البرلمان الذي بارك شراكة الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، في حكم السودان بعد اتفاقية السلام الشامل، والتي جاءت برائد ثورة التحرير الوطني الدكتور جون قرنق نائباً للرئيس، ورئيساً لحكومة جنوب السودان، فالتطور الطبيعي لأي جيش وطني أن يقف مع ثورة الشعب عندما يصل الجميع لمفترق الطرق، وهو ذات الخيار الذي اختاره القائد بعد اندلاع ثورة ديسمبر، فكان القشة القاصمة لظهر بعير النظام السالف، فجاء انتقام فلول المنظومة الاخوانية المندحرة، ممثلاً في الصاق فرية العشائرية على هذه القوات الوطنية الصرفة.
عندما كان البشير رأساً للنظام سمعنا بعض من أبناء قبيلته يقولون أن مقاليد الحكم بيدهم، وهذه الظاهرة من الظواهر الاجتماعية السودانية المشهورة، كذلك فعل بعض ممن ينتمون قبلياً للقائد بحسب بساطتهم وفخرهم المستحق، بابنهم الذي قاد ثورة التحرير الوطني، لكن هذا لا يعني أن المؤسسة تؤيد ذلك، أو تحذوا حذو الانحياز القبلي، على الرغم من أن جيش الفلول قد ارتكب الفظائع عبر طيرانه المأجور، بحق المجتمعات المحسوبة على القائد، لخلق بذرة فتنة جهوية تجعل خيار تفتيت وحدة السودان ممكناً، باستفزاز الكيانات الاجتماعية ودفعها لاختيار الانفصال رغبة ورهبة، لكن فات على الفلول أن القبائل المستهدفة بالقصف الجوي تمثل مع أخواتها الأخريات من جهات السودان الأربع، عصب الدولة المؤسسة قبل أكثر من مائة سنة، الدولة الوطنية الأولى التي قادها الإمام محمد أحمد المهدي وخليفتاه عبد الله ودقنه، ففلول الإخوان – فرع السودان، لا علاقة تجمعهم بالمنهاج الإسلامي، والدليل على ما نقول هو عملهم ضد الموروث المهدوي الذي رسم لنا حدود هذه الدولة العظيمة أرض (المليون) ميل مربع، والتي خانتها الحركة (الإسلامية) – المؤتمر الوطني – الاخوان المسلمون، بلعب الدور نفسه الذي جعل انفصال جنوب السودان عن شماله ممكناً، ولأن الجماعة الاخوانية لا يهمها الوطن في شيء انتقلت لبورتسودان، بعد أن دحرتها قوات الدعم السريع في الخرطوم، لكي تقيم لها وطناً بديلاً، فهي لا تؤمن بقيمة الأوطان طالما أن هنالك إمكانية لممارستها للسلطة ولو من جزيرة توتي، فهي تحتضن قوم جبلوا على حب الكرسي بصرف النظر حيوات أو موات الناس، لذلك نشاهد قائد جيشهم يتغول على سيادة الوطن ويحاول سارقاً أن يمثل الدولة في المحافل الدولية.
من نعم الله على شعب السودان أن سخّر له هذه القوة العسكرية الوطنية لأن تقول لا للدكتاتورية، وأن تضع حداً فاصلاً بين الدولة القديمة والمستقبل الجديد للسودان الجديد، الذي حلم به الدكتور جون قرنق ولم يستطع تحقيقه، نسبة لصلف وجبروت وسطوة الاخوان المسلمين في السودان في تلك الحقبة، والذين لم يتبقى لهم سوى مخلفات نوايا خبيثة لتفكيك ما تبقى من لحمة اجتماعية، ظهرت ملامحها في شرق السودان أيضاً، باستخدام ذراع الفلول – "المرتزقة" في جر أهل الشرق للاقتتال البيني، وما طفح في الاعلام من خلافات بين زعامات الشرق ما هو إلّا سيناريو آخر مثيل لسيناريو حرب دارفور العرقية، التي أشعلتها مليشيات "المرتزقة" الذين يتواجدون اليوم بميناء السودان، فهم الذين يسوقون لبروباقاندا عطوية وجنيدية قوات الدعم السريع، التي احتوت نسيج السودان الاجتماعي الكبير، ومثلت طيف واسع من الداعمين السياسيين والناشطين الذين يحبون السودان، ويعلمون تمام العلم أنه لا توجد قوة عسكرية وطنية وحدوية، ظلت تقدم الغالي والنفيس في سبيل رفعة راية الوطن وجعلها عالية خفاقة، غير قوات الدعم السريع، فقوميتها ووطنيتها لا يجب أن يجادل فيها مرتزق أو فلول منتفع، فلو كانت لحقبة "الإنقاذ" حسنة واحدة تحمد لها، فهي تكوين هذه القوة العسكرية التي تمثل الدرع والحصن الحصين للدفاع عن الوطن، وسوف تنقشع سحب النفاق والتدليس قريباً، وسيكتشف السودانيون أنها السد المنيع الذي قاوم تسونامي تمزيق الوطن الجريح.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com