رزان أكرم زعيتر يبدو المشهد على موائد كوكب الأرض سوريالياً؛ ففي حين تفيض أطباق الطعام ويتم هدر أطنان من الغذاء في الدول عالية الدخل، يتلوى الجياع في الدول متدنية الدخل بفعل الحرب والاحتلال والحصار والوصول غير الآمن للموارد؛ في مشهد يكرس انعدام العدالة والمساوة، كل ذلك وسط تجاهل المسبب الحقيقي لهذه التراجيديا في القرن الـ 21، ومحاولة القفز عمّا يجب عمله كإدعاء محاربة الجوع عبر تقليل هدر الطعام.

إن هدر الغذاء ليس مساوٍ لفقده؛ فالأول اختياري ويبدو كبيراً في الدول الغنية، بينما الثاني اضطراري لغياب سياسات دعم المزارعين وتهميش الزراعة في بلدان الجنوب. لكن الجميع يتحدث عن الهدر وحده، وهو فعلا آفة كبيرة مهم أن نجد حلاً لها فهي واضحة جداً في البلاد الغنية. فقد وجدت من مراجعاتي لتقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة FAO، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP، أنّها أكثر في البلاد الأوروبية عالية الدخل وفي دول الخليج العربي. ففي أوروبا يصل معدل الهدر إلى 115 كغم للشخص سنوياً، بينما في إفريقيا يبلغ من 6 إلى 9 كغم فقط للشخص سنوياً اي نحو 100 مليون طن سنوياً من الغذاء المهدور في الاتحاد الأوروبي وهو يُعادل كل ما تُنتجه إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من غذاء! أما الفقد في الغذاء على الجانب الاخر فهو الذي يحدث في السلسلة الأولى من الإنتاج أي بدءاً من البذار والوقاية والري والتسميد إلى الحصاد والتوضيب والتسويق وقبل الوصول إلى أسواق التجزئة وموائد المستهلك ويكون عاليا في الدول الفقيرة، حتى لو كانت مواردها الطبيعية عالية، وهذا ينسحب على بلداننا العربية متدنية الدخل، وهو لأسباب إجبارية مفروضة على المُزارع ويعود لسوء البنية التحتية كالطرقات الزراعية، وعدم توفر الكهرباء، وضعف الإرشاد والتغليف ووسائل التخزين والذي  لو توفر وحده لأمكننا تخفيف الفقد بنسبة 25% وكذلك التبريد وسبل ومراكز التسويق.  إن المفارقة بين متلازمة بحبوحة العيش وارتفاع الهدر الغذائي مردها هو ثقافة الاستهلاك التي تروّج لها الرأسمالية. ولحسن حظنا فأن ثقافتنا العربية الإسلامية انعكست على ثقافتنا الشعبية حيث هدر الطعام والإسراف فيه محرم ومكروه كما جاء في القرآن الكريم “كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ”، فقد كنا قبل العولمة والسوق المفتوح وبرامج التصحيح الاقتصادي المفروضة على بلداننا قد تربينا على احترام كل لقمة عيش وأذكر أننا كنا إذا وقعت كسرة خبز على الأرض التقطناها بسرعة وقبلناها ووضعناها على جبيننا. ويفاقم مشكلة هدر الطعام فهو عدم شفافية الشركات العابرة للقارات والمؤسسات الغذائية الكبرى في كشف أرقام الهدر الحقيقية، وأنها لا تتوانى عن إتلاف أطنان من الغذاء للمحافظة على أسعاره بهدف الكسب السريع ومراكمة الثروة، علاوة عن ذلك تذهب إلى إغراق أسواق البلدان الفقيرة بالمحاصيل الفائضة لديها لخلق أسواق جديدة وإضعاف إنتاجها كما يحصل في بلادنا بمحصول القمح، إذ تُغرق أسواقنا بالقمح الفائض من البلاد التي تنتجه حتى لا نستطيع أن ننتج قمحنا. تتوسع آثار مشكلة هدر الطعام، وترتبط بشكل وثيق في الاحترار العالمي، وهي قصة مسكوت عن أبطالها “الأشرار” عند الحديث عن التغير المناخي، حيث يتسبب الهدر في 10% من الانبعاثات الحرارية، والخطر فيها ليس ثاني أوكسيد الكربون، بل غاز الميثان الذي يَنتُج عن طمر مخلفات الغذاء. ومع ذلك هناك بعض الجهود المبذولة عالمياً للحد من الهدر الغذائي فقد أصدرت الأمم المتحدة دراسات وقرارات متتالية ذات علاقة، كما وتقوم الدول الكبرى الآن بتحضير تشريعات ومنها ما أصبح نافذاً كما في فرنسا منذ سنة 2016، حيث بات لديهم تشريع لمكافحة الهدر في محلات التجزئة والمطاعم ووضعت غرامات كبرى. أما الأمر مضحك المبكي أنه لو جاء فقير ليسرق من حاوية النفايات هذا الغذاء المُتلَف أو الغذاء المُلقى سيُحاسب ويُسجن بتهمة السرقة، أما في إيطاليا فقد قررت السلطات ألا تسجن مَن يسرق الغذاء المهدور في حاويات القمامة! على كل فما دمنا نعالج الآثار للهدر الغذائي كمبتعدين عن الحلول الجذرية سنبقى في نفس الدوامة، وبشكل أساسي نحن بحاجة إلى التوعية حول هذا الموضوع منذ الصغر، أي ابتداءً من الصفوف الأولى بتوعية التلاميذ من خطر الهدر مؤكدين على ثقافتنا الشعبية كما ذكرت، وأن نُحارب في بلادنا النموذج الرأسمالي الاستهلاكي الذي هو برأيي من أهم مسببات الهدر، ويجب أيضاً ألا نثق بالشركات التي تضع على مُنتجها تاريخ انتهاء الصلاحية لأنه غالباً ما يكون لم يحن بعد، ولكن الهدف منه تشجيع الشراء وإعادة التزود مما يخلق طلب متزايد على السلعة. أما بالنسبة للفقد في الغذاء فهناك العديد من الحلول لمواجهته منها الاستثمار في التصنيع الزراعي وهو من أهم السبل لتحقيق سيادتنا على غذائنا، وبرأيي ان التكامل الزراعي في وطننا العربي هو وسيلة لمواجهة أخطار عديدة على رأسها مشكلة فقد الغذاء.   ختاماً، نحن بحاجة إلى العدالة في توزيع الغذاء، والوصول إلى موارد إنتاجه، وتحقيق السيادة الغذائية، علينا ألا نكون ضحية التضليل باسم الغذاء، وأن نعي دائماً أن الأنظمة الغذائية التي فُرضت علينا هي أنظمة سيئة جداً ليس فقط في بلادنا العربية، بل في كل العالم النامي، فهي أنظمة تحترم المُنتج الكبير الذي يبغي التصدير ولا تدعم المزارع الصغير الذي يُنتج غذاءه ليطعم عائلته وقريته ومُحيطه، لذلك نذرنا أنفسنا للعمل إلى جانب صغار المزارعين، نشاركهم همومهم، ونتحدث بصوتهم، ونزرع معهم، ووجدنا في هذا الدرب الصعب رفاق وأصدقاء وشركاء كثر، ومعاً سنتابع هذا النضال إلى أن تستيقظ شعوبنا من غيبوبة طال أمدها. رئيسة الهيئة الإدارية للعربية لحماية الطبيعة مؤسِسة الشبكة العربية للسيادة على الغذاء عضو اللجنة الفرعية للقضاء على الجوع في المنطقة العربية عمّان – الأردن

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

المشروعات الزراعية الكبرى.. طفرة في توسيع الرقعة المنزرعة.. وخبراء: تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الإستراتيجية يوفر الأمن الغذائي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

على مدار العقد الأخير.. حققت مصر طفرة زراعية غير مسبوقة عبر إنشاء مشروعات زراعية كبرى من خلال التوسع الأفقي، الأمر الذي يسهم في زيادة الرقعة الزراعية والمساحة المحصولية بما يمكن من تحسين نسب الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الإستراتيجية.

ومن خلال المشروعات الزراعية عملت مصر على إقامة مجتمعات زراعية عمرانية جديدة توفر الكثير من فرص العمل، وإتاحة آفاق جديدة للاستثمار، كما تستهدف الدولة المصرية خلال الفترة القادمة استصلاح واستزراع حوالي 4 مليون فدان بالمناطق الصحراوية.

زيادة الرقعة الزراعية في مصر

استطاعت مصر تحقيق زيادة في الرقعة الزراعية من خلال استصلاح واستزراع الصحراء في مساحة أكثر من 2 مليون فدان بدأت في الاستزراع والإنتاج ، وتقع هذه المساحات ضمن المشروعات القومية للتوسع الأفقي الجاري تنفيذها ومن أهمها: مشروعات جهاز مستقبل مصر بمناطق: الدلتا الجديدة بمساحة 2.2 مليون فدان - شمال ووسط سيناء بمساحة 456 ألف فدان - سنابل سونو بأسوان بمساحة 650 ألف فدان، ومشروع تنمية الريف المصري الجديد بمساحة 1.5 مليون فدان، ومشروع توشكي بمساحة 1.1 مليون فدان، بالإضافة إلى مشروعات القطاع الخاص في الوادي الجديد وشرق العوينات وتوشكى، بحسب بيان صادر عن وزارة الزراعة. 

واستهدفت مصر توفير موارد مائية في ظل نقص الموارد المائية العذبة فقد لجأت الدولة المصرية إلى معالجة وتدوير مياه الصرف الزراعي وإعادة استخدامها في الزراعة بالإضافة إلى مصادر المياه الجوفية، حيث أنفقت الحكومة مليارات الجنيهات على إنشاء محطات المعالجة الثلاثية لمياه الصرف الزراعي لتوفير مياه الري، فضلاً عن تطبيق الممارسات الحديثة لترشيد استخدام مياه الري عبر تطبيق نظم الري الحديثة في كل مشروعات التوسع الأفقي الجديدة.

ونجحت مصر في تنفيذ عدد 17 تجمع تنموي زراعي جديد بشبه جزيرة سيناء، بواقع 7 تجمعات بجنوب سيناء، و10 تجمعات بشمال سيناء، ويستفيد من هذه التجمعات بطريقة مباشرة حوالي 2122 أسرة من أبناء سيناء والمحافظات الاخرى بواقع 5 أفدنة ومنزل لكل مستفيد وأسرته.

كما تم إنشاء 3 مراكز للخدمات الزراعية تعمل على تقديم الدعم الفني والخدمات الإرشادية للمزارعين بسيناء، وتم اعتماد عدد 2 جمعية تعاونية زراعية جديدة في مركزي الحسنة ونخل لخدمة مزارعي التجمعات الزراعية الجديدة. 

ارتفاع معدلات تحصيل مستحقات الدولة

كما شهدت الفترة الماضية ارتفاع معدلات تحصيل مستحقات الدولة إلى أرقام غير مسبوقة حيث وصلت قيمة المتحصلات إلى 550 مليون جنيه خلال الثلاث شهور الماضية ونأمل في تحقيق أعلى معدلات التحصيل خلال العام المالي الحالي، وقد بلغ عدد طلبات تقنين أوضاع واضعي اليد حوالى 300 طلب تقنين بإجمالي متحصلات تبلغ أكثر من 90 مليون جنيه لهيئة الإصلاح الزراعي. 

زيادة الصادرات الزراعية

واسهم  التوسع في الرقعة الزراعية في زيادة الإنتاج الزراعي وتوفير المتطلبات المتزايدة من الغذاء نتيجة الزيادة السكانية ، وتحسين نسب الاكتفاء الذاتي من بعض المحاصيل الإستراتيجية، وتوفير فائض من محاصيل الفاكهة والخضر والنباتات الطبية والعطرية للتصدير مما يدعم زيادة القدرة التنافسية للإنتاج الزراعي المصري وقد نجحت الوزارة في الثلاث شهور الماضية في افتتاح أسواق جديدة، مثل السوق الصيني أمام الرومان المصري وأخيرا سوق كوستاريكا أمام البصل الطازج، علماً بأنه يتم تصديـر أكثر مـن 405 منتج زراعي إلى أكثر من 160 دولة ، مما ترتب عليه حدوث تقدم كبير في مجال الصادرات الزراعية. 

وفي هذا الشأن، قال الدكتور أشرف كمال، أستاذ الاقتصاد الزراعي، إن الهدف الأهم لزيادة الرقعة الزراعية هو تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية الرئيسية والتي تمثل ركن أساسي في تحقيق الأمن الغذائي المصر، بالإضافة إلى تحقيق فائض للتصدير للخارج.

وأكد كمالي أن المشروعات الزراعية نجحت في تحقيق طفرة كبيرة في الصادرات الزراعية والغذائية المصرية، الأمر الذي يدعم بشكل رئيسي النمو الاقتصادي لمصر. 

وتابع خبير الاقتصاد الزراعي: "الزراعة نشاط اقتصادي رئيسي للاقتصاد القومي وتساهم بـ15% من الناتج المحلي الإجمالي، و25% من قوة العمل، و20% من الصادرات، وقد كانت الصادرات الزراعية هذا العام قصة نجاح، إذ تجاوزت حاجز 7 ملايين طن بقيمة صادرات 4 مليارات دولار.

توفير فرص عمل بالمشروعات الزراعية 

ولعل توفير فرص عمل يعد أبرز أهداف المشروعات القومية والزراعية الكبرى، حيث أكد "كمال" أن مشروعات توشكى ومستقبل مصر والدلتا الجديدة نجحت في توفير فرص عمل بشكل كبير الأمر الذي يسهم في الحد من البطالة، حيث وفرت تلك المشروعات مئات الآلاف من فرص العمل".

من جهته، قال الدكتور أحمد أبو اليزيد، أستاذ الاقتصاد الزراعى، إن السبب الحقيقي لنجاح المشروعات الزراعية المصرية هو وجود رغبة من القيادة السياسية للنهوض بالقطاع الزراعي عبر تبني استراتيجية واضحة للتوسع ف الرقعة الزراعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي لمصر. 

وأضاف " أبواليزيد " في تصريحات تليفزيونية، أن إقامة مشروعات مثل الدلتا الجديدة ومستقبل مصر إلى جانب إحياء مشروع توشكى نجحت في زيادة كبيرة في المساحات المنزرعة منحتنا فائض من الخضروات والفاكهة يتم تصديره، كما أن الحكومة تنتهج كل ما له علاقة بأساليب تحديث العمليات الزراعية، فى المقاومة والتسميد والرى.

مقالات مشابهة

  • مشاورات مصرية كينية حول السلم والأمن الدوليين وقضايا الأمن الغذائي واللاجئين
  • كيف اختزلت حادثة ماغديبورغ مدى الاحتقان الطائفي والعرقي والسياسي الذي ينخر في جسد الوطن العربي؟
  • ندوة تناقش استخدامات الذكاء الاصطناعي لتحقيق الأمن الغذائي
  • حصاد وزارة الزراعة في 2024.. تعزيز الأمن الغذائي في مواجهة التحديات المتلاحقة
  • أستاذ اقتصاد: مشروعات الزراعة القومية تساهم في رفع الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي
  • المشروعات الزراعية الكبرى.. طفرة في توسيع الرقعة المنزرعة.. وخبراء: تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الإستراتيجية يوفر الأمن الغذائي
  • إطلاق مشروعات عملاقة وفرص استثمارية نوعية لتعزيز الأمن الغذائي
  • الشراكة بين القطاعين تثمر إطلاق مشروعات إستراتيجية في الأمن الغذائي
  • مهرجان القمح في مليحة يعزز ممارسات الأمن الغذائي
  • معايير جديدة من "الغذاء والدواء" لتحديد الأطعمة الصحية