د. صالح الحاج في نيسان/أبريل 1975، بدأ الرئيس الفرنسي “فاليري جيسكار ديستان” أول زيارة رسمية يقوم بها رئيس فرنسي إلى الجزائر المستقلة، ولأول مرة منذ صيف عام 1962، زينت الأعلام الفرنسية الطرق الرئيسية في الجزائر العاصمة. كانت تلك الزيارة، مليئة بالرسائل السياسية بين الطرفين، فقد تعمد الرئيس الراحل “هواري بومدين”، الاستعانة بمترجم بينه وبين نظيره الفرنسي رغم إتقانه اللغة الفرنسية.
كما اختار الجانب الجزائري، سيارة “مرسيديس” ألمانية، “لديستان” للتنقل بها بدل “سيترواين”، التي كانت المفضلة لدى مسؤولي باريس، في خطوة قال مسؤولون سابقون في شهاداتهم، أنها كانت رسالة بأن الجزائر لديها البدائل في التعاون الاقتصادي. على صعيد الصراع مع إسرائيل، سارت الجزائر في خط دعم حركات المقاومة الفلسطينية، كما دعت إلى اتخاذ موقف متصلب من إسرائيل. وبعد اتفاقيات “كامب ديفيد” انضمت الجزائر إلى “الجبهة الشعبية للصمود والتصدي”. ومنذ سنة 1975، توترت العلاقات الجزائرية- المغربية والجزائرية- الموريتانية بسبب قضية الصحراء؛ فقد احتجت الجزائر بشدة على قرار إسبانيا تسليم الصحراء للمغرب وموريتانيا. والجزائر تدعم حركة “البوليساريو” التي تقاتل الجيشين المغربي والموريتاني تحت شعارات التحرير. واعترفت الجزائر ب”جمهورية الصحراء العربية الديمقراطية” سنة 1976 وفي الوقت نفسه تعتبر المغرب أن الجزائر مسؤولة عن القتال وترفض الاعتراف بوجود حركة تحرير مستقلة. على الصعيد الداخلي، اعتمد الرئيس “هواري بومدين” في سياسته التنموية على مبدأ إعطاء الأولوية لقطاع ” إنتاج أدوات الإنتاج”، كذلك مقولة “الحلقات القائدة للقطاعات الاقتصادية، ثم أضاف إلى هذين المفهومين أطروحة “التراكم الاقتصادي البدائي”، وبدأ الدعاية لمشروعه التنموي وسط شعار أساس اشتهر حينها ب”مفهوم الصناعات المصنعة”، وتزامن أسلوب بومدين هذا مع عملية الإصلاح الزراعي في الريف التي انحصرت في تأميم الملكيات الكبيرة وتوزيعها الفلاحين. وصرفت مئات الملايين من الدولارات على بناء بنية تحتية وصناعية متينة. توفي بومدين يوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، في الساعة الثالثة وثلاثين دقيقة فجراً. إثر مرض مفاجئ استعصى علاجه. أكد بومدين دوره كزعيم بارز من زعماء العالم الثالث، ولم يألوا جهدا في دعم حركات التحرر على امتداد القارات الثلاث: إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فهو صاحب فكرة “النظام الاقتصادي العالمي الجديد” الذي أطلقها من على منبر الأمم المتحدة عام 1974. كما عرف هواري بومدين بدعمه ومواقفه المشرفة تجاه القضية الفلسطينية وهو صاحب المقولة الشهيرة والتي أصبحت بمثابة شعار للجزائر حتى الآن نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، في قمة الرباط 1974 أكد على أن. ” لا وصاية على الفلسطينيين”.. “لا تفاوض، لا تطبيع، ولا تعامل مع العدو “، كان من دعاة رفع التحدي ومقاومة الاستعمار والإمبريالية. ولا ينسى له التاريخ أيضاً موقفه القومي، عندما احتاجت مصر لتجديد عتادها العسكري بعد نكسة 67، فقد سافر مع الرئيس جمال عبد الناصر إلى الاتحاد السوفييتي، ويومها قال بومدين للروس “كلّ ما تطلبه مصر من سلاح يُعطى لها وتُرسل الفاتورة الى الجزائر” . عقب وفاة بومدين عام 1978، خلفه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد الذي حكم للفترة من 1979 إلى 1992، إلا انه لم يعدل الوثيقة الرسمية في بداية الأمر، ولمدة طويلة، حتى انتفض عليه الشعب عام 1988؛ بسبب تدهور القدرة الشرائية جراء أزمة انهيار أسعار البترول؛ حيثُ أعلن المؤشر الاقتصادي عن انهيار ملحوظ في مداخيل الدولة من العملة الصعبة، مما آثار ارتباك لدى المواطن الذي أصبح همه اليومي الجري وراء رغيف الخبز ولقمة العيش. وتراكمت الأخطاء في عهد الرئيس “الشاذلي بن جديد” واستشرى الفساد بشكل كبير، بالإضافة إلى التقشف الواضح الذي فرضه صندوق النقد الدولي على الجزائر. جرت الأزمة الجزائرية في الواقع على مرحلتين، بدأت المرحلة الأولى سنة 1982 مع تناقص الاستيراد الذي كانت الدولة قد بدأت السيطرة عليه سيطرة تامة منذ سنة 1978، ما أوصل الواردات إلى الحد الأدنى، وكان نتيجة لهذا التضاؤل شحاً عاماً وخلو البلاد من السلع والمواد الضرورية، وقطع الغيار، مقابل تنامي الاستيراد عن طريق التهريب ووجود سوق سوداء يسيطر عليها بعض أركان النظام. أما المرحلة الثانية فبدأت مع الظروف التي استجدت سنة 1986، تخفيض كبير من جزء كبير من النفقات في الموازنة وهبوط الضرائب الواردة من مبيعات النفط إلى النصف خلال عام؛ مما اضطر الدولة إلى تجميد مشاريع الاستثمار الكبرى (صناعة السيارات والتعدين). أدت تلك التراكمات السلبية إلى انفجار اجتماعي بدأ في 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1988، فقد عاشت الجزائر انتفاضة شعبية رافقتها احتجاجات عنيفة، تنعت محليا بأحداث أكتوبر 1988. أودت بحياة المئات من الأشخاص، قدرت بين 150 شخصا حسب الأرقام الرسمية، و500 شخص حسب المنظمات الحقوقية والمعارضين. طوت انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1988 صفحة ثورة التحرير وحزبها الحاكم (جبهة التحرير الوطني)، وفتحة صفحة الثورة الاجتماعية في الجزائر المستقلة. وللمرة وبعد أن ساعد قادة جبهة الإنقاذ الرئيس “الشاذلي بن جديد” على ضبط الأوضاع المترتبة على انتفاضة أكتوبر 1988، مقابل وعد بالعمل السياسي الحر، حل “رئيس الوزراء” محل “الوزير الأول” واختير قاصدي مرباح بتشكيل حكومة جديدة مسؤولة اتجاه البرلمان الذي يمنحها الثقة. وفي 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، قطف “الشاذلي بن جديد” ثمار إصلاحاته حين اختاره المؤتمر السادس لجبهة التحرير مرشحاً لفترة رئاسية جديدة مدتها خمس سنوات، بدأت فعلياً يوم 22 كانون الأول/ ديسمبر 1988. وكان المؤتمر السادس لجبهة التحرير بداية للفصل بين منصبي رئيس الجمهورية والأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني. تقلد منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير ابن الجبهة السيد” عبد الحميد مهري” الذي انخرط مبكرا في نشاط الثورة التحريرية الخارجي، وبرز كشخصية قيادية محنكة، اختير ليكون عضوا سياسيا في لجنة التنسيق والتنفيذ إلى جانب عبان وفرحات عباس ودباغين. في حين ابتعد الرئيس “الشاذلي بن جديد” عن معترك الاقتتال الداخلي بتخليه عن منصب الأمين العام لحزب “جبهة التحرير” واكتفى برئاسة الجمهورية، ليصبح فوق الجميع. كان الرئيس ” الشاذلي بن جديد” قد أخذ على عاتقه مسؤولية ما حدث من قمع خلال انتفاضة أكتوبر 1988 وأنه هو من كان يعطي الأوامر، مؤكداً في الوقت نفسه أن الجيش أنقذ البلاد من كارثة حقيقية، مقابل هذه التطمينات قرر كلا من الجيش والحزب منح ثقتهما للرئيس”بن جديد” من جديد، ودعما الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والسياسية المقدم عليها. وفي 17 شباط/ فبراير 1989، أعلن عن قيام “اتحاد المغرب العربي” بمدينة “مراكش” المغربية، من قبل خمس دول هي: الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا. وبعد أيام قليلة من مشاركته في تأسيس “اتحاد المغرب العربي” دعا “بن جديد” الجزائريين للتصويت على الدستور المعدل المنسوخ عن دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا، الذي أشرف على صياغته القانونية القاضي والسياسي “محمد بجاوي” والذي ينص على التعددية الحزبية، وعلى فصل السلطات، ويلغي نهائياً أية إشارة إلى الاشتراكية التي ستنتهي بعد عام حتى في مهدها “الاتحاد السوفيتي”. أقيل “قاصدي مرباح” بعد أقل من عام من توليه رئاسة الوزراء، أول رئاسة في عهد التعددية، وأخرج منها بحجة البطء في تنفيذ الإصلاحات، ليحل محله “مولود حمروش” رئيسا للوزراء؛ بهدف التعجيل في وضع البرنامج الإصلاحي موضع التنفيذ. اشتمل البرنامج الإصلاحي على شقين رئيسيين: الشق الأول، يُعنى بتنفيذ التعددية الحزبية من خلال السماح بتشكيل الجمعيات التي لها طابع سياسي، ونزع صفة الحزبية عن الدولة. أما الشق الثاني من الإصلاح اقتصادي، يهدف إلى العمل بسرعة نحو اقتصاد السوق. كاتب صحفي وباحث/ ليبيا salhalhaj743@gmail.com
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
الدولة والسلفيات الدينية والمذهبية
الدولة - إن صح التعبير - مؤسسة متطورة، وإذا كانت هناك قيم مطلقة عابرة للزمكانية، إلا أن الدولة إجرائيا لها ارتباط وثيق بالظرفية، ولا يمكن بحال استنساخ نماذج إجرائية سالفة في واقع مختلف تماما، كما لا يمكن الوقوف عند حرفية النصوص الإجرائية الماضوية في واقع مختلف، قد تكون الروح مطلقة كالمساواة والعدل والحرية، إلا إن إجراء تحقق ذلك لا ينفصل عن الواقع المعيش، وفي نظري لا توجد ديانة أو فلسفة من حيث الابتداء أرادت أن تختزل الدولة في صورة إجرائية مغلقة، لكنها تناولت الدولة وفق ظرفية واقعها الذي تعيشه، فإذا وجدت نصوص في ذلك فهي لا تخرج عن روح القيم المطلقة، أو الظرفية المقيدة بواقعها، وعليه ربط الدولة كليا بواقع ظرفي مختلف تماما ربط يقود العقل المعاصر إلى الجمود والتخلف، وقد يقوده إلى الصراع والنزاع والاحتراب، كما يجعل العقل يعيش في مخيال وهمي يتمثل في أن استنساخ الدولة في صورتها الإجرائية الماضوية تقوده إلى الرفاهية والكرامة والخلاص من آلام الواقع، وهو نوع من الوهم، والهروب من واقع الحال الذي ينبغي أن يدرس بعقلانية الواقع، لا بأوهام الماضي، والكثير مما يروى عن الماضي يصلنا منه ما هو مختزل عن واقعه، وليست الصورة الحقيقية المرتبطة بإنسان تلك المرحلة وفق تقدمه أو تأخره وفق مقياس واقعه وظرفية زمنه.
ولما نتحدث عن السلفية لا نريد هنا السلفية بالمفهوم المذهبي المغلق المتمثل في بعض الجماعات الدينية المعتدة بأرثوذوكسيتها، أو التي ترى الخلاص في رؤى واجتهادات السلف، وليس المراد أيضا الوقوف عند بعض الجماعات الإصلاحية المعاصرة والتي تبنت السلفية لقبا لها، والمراد من حديثي هنا أنه لا يوجد ديانة أو مذهب أو حركة لا سلف لها، أو لا رؤية سلفية لها، تسمت باسم السلفية، أو حتى كانت رافضة لهذا المصطلح، فالعديد من هذه الحركات لها ارتباط سياسي في النشأة، ولها رؤية سلفية حول الدولة والاجتماع البشري، قد تجمد عليها، وقد تتطور رؤيتها إذا ما حدث انفتاح عند بعض منظريها وأتباعها، بيد أن الخلاص من الرؤية الماضوية لا يمكن أن يتمثل في جميع أفرادها، وقد يتعرض المنظرون الجدد لإقصاء من قبل التقليديين - السلفيين - في كل مذهب، والذين يستخدمون البراجماتية النفعية وفق كيان الدولة القائم، وإن كان واقع خطابهم له رؤية ماضوية خلاصية حول واقع الدولة، لهذا يحاربون المنظرين الجدد باسم الدولة نفسها عندما تكون المصلحة واقعة بين السياسي والديني الأرثوذكسي.
قد يكون من الناحية الشكلانية لا خطورة في علاقة السلفيات الدينية والمذهبية بالدولة في الخطوط الجامية والنفعية البراجماتية، الخطورة لما تتسع دائرتها حيث يتمثل إشكاليتها في رفض الآخر القريب دينيا أو مذهبيا إذا كانت مخالفا لسلفيتها الحرفية، ورفض البعيد خارج التفكير الديني ذاته محاولة لإقصائه وإبعاده، مستخدمة أدوات الدولة ذاتها من حيث المؤسسات، وقد تتسع إلى القضائية والضغط الاجتماعي، ولو كانت الدولة لها صورة ليبرالية أو علمانية من حيث الابتداء، ليخرج مفهوم الآخر المختلف من دائرة المواطنة المرتبطة بالذات الواسعة، إلى المواطنة المرتبطة بمدى النفعية من جهة، وبضيق التصنيفات المذهبية تجاه المختلف من جهة ثانية، وتتسع الخطورة عندما يملأ العقل الجمعي المستقِبل لخطابات سلفية ترى الخلاص في نماذج ماضوية هي بذاتها تصارعت وتحاربت، واختزلت في روايات وقصائد شعرية، يستقبل العقل الجمعي هذه الخطابات بلا إعمال عقلي، ولا نقد معرفي، تجعله يعيش الازدواجية بين مخيال الخطاب وظرفية الواقع، ليسقط ذلك سلبا في تأثره بجماعات متطرفة باسم الدين، أو يكون ناقما لمحيطه الذي يعيش فيه.
لهذا لابد من إعادة قراءة الدولة وفق نظريات الواقع، ولابد من نقد مثل هذه الخطابات غير المنضبطة من تديين الدولة وإخراجها من إطارها الإنساني المتحرك، إلى الأطر اللاهوتية المغلقة من جهة، ومن طبيعتها الحالية الواقعية إلى الخلاصات الماضوية الوهمية من جهة أخرى، ليبنى العقل الجمعي على المواطنة المرتبطة بالذات المتساوية بين الجميع، هذه الذات لا تلغي الخصوصيات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية، ولكنها من حيث الدولة يبقى الجميع ذاتا واحدة لا تمايز بينهم، والكل سواء في العمل والاجتهاد والشراك والإبداع والكفاءة، فإذا لم يحدث مثل هذا النقد، وإذا لم يتم إعادة التعامل مع العقل الجمعي ليكون متعقلا ناقدا محاورا، وليس مستقبلا فقط لخطابات من الخارج باسم المقدس أو غيره، قد ينضبط تفكيره حاليا نتيجة قوة الدولة الوطنية، وليس لسبب ما يتمثله من ثقافة جمعية مؤمنة بإنسانية الدولة وظرفيتها الزمكانية، يظهر ضرر ذلك في الخطابات غير المنضبطة التي قد تتحول إلى فعل حال ضعف الدولة المركزية.
فالجماعات الحركية المتطرفة مثلا لم تكن بعيدة عن هذه الخطابات والسلفيات غير المنضبطة، التي بنيت على كراهية وإقصاء الآخر تحت مفهوم «الولاء والبراء»، أو تحت عمومية الأسلمة بما في ذلك المتحرك في الاجتماع البشري، ومحاولة لاستنساخ تجارب سابقة لها ظرفيتها وفق التديين والخلاص باسم المقدس، ولو كانت مرجعيتها روائية وتطبيقات تراثية لا علاقة لها بالنص الأول من حيث الابتداء، هذه الجماعات تجاوزت حد الخطاب إلى الفعل، بيد أن الخطاب الذي تحمله لا يختلف عن خطاب السلفيات الدينية والمذهبية في عالمنا العربي والإسلامي، فما زالت النظرة الخلاصية للدولة في صورتها الماضوية حاضرة، والعديد من أدبيات هذه الجماعات الحركية المتطرفة لا يختلف تماما عن الذي يطرح في الجامعات والمساجد، وما نراه أيضا في الكتب الدينية التقليدية فيما يتعلق بالحكامة، وتصنيف المختلف الديني والمذهبي، وكلاسيكية الولاء والبراء والتكفير والتفسيق، وإسقاطات ذلك على المعاملات والحدود والقوانين المدنية وما يماثلها.