مؤتمر بيت الفلسفة والعالم المعيش
تاريخ النشر: 27th, November 2023 GMT
في التاسع عشر من نوفمبر الحالي عقد مؤتمر الفجيرة الدولي الثالث للفلسفة تحت عنوان «الفلسفة والعالم المعيش» لمدّة يومين، من تنظيم بيت الفلسفة بالإمارة، ويأتي هذا المؤتمر في سياق الاحتفاء العالمي بيوم الفلسفة.
يأتي سؤال المؤتمر حول الإنسان بوصفه مشكلة في الواقع المعيش، أمام ما يدور في هذا العالم من تناقضين، بين التّقدّم العلمي والواقع البشري، فالعلم اليوم وصل إلى درجات كبرى من التقدم المادي والتقني، وأصبح العالم موصولا ببعضه، عن طريق الاتّصالات ووسائل النّقل وغيرها، إلّا أنّ واقعه لا زال يعيش حالة الصراع والاحتراب والفقر والتشريد، فهناك واقع مأساوي تعيشه العديد من التّجمعات البشرية.
حاول المؤتمر أن يبحث في مفردات الواقع المعيش كالسعادة والفن والتسامح والقيم، وفي الوقت نفسه حاول البحث عن مستقبل الذكاء البشري في ضوء الذّكاء الاصطناعي، وما ينتظره الكوكب الأرضي من مهدّدات بشرية ومناخية، ولم يغفل عن سؤال الفلسفة، وهل ما زال التّفلسف مهمّا في حياتنا اليوم؟
لهذا المؤتمر لم يخلُ من جدليّات أثارت تساؤل الحضور ومداخلاتهم، ومنها جدليّة الإنسان بين الذّات والهويّة، حين ترتبط هذه الذّات بالسّلطة، وتعلي من هويّاته، لتتحول من هويّات متعدّدة لطبيعة الإنسان بكونه متعدّدا، إلى هويّات متنافرة ومتصارعة، تصل إلى درجة الاحتراب، لأسباب عرقية أو دينية أو عرفية اجتماعية، فالواقع المعيش اليوم لم يخل من صراع الهويّات، والّتي أثرت سلبا في الواقع الإنسانيّ، ولا زالت آثارها السّلبيّة تظهر من فترة لأخرى.
واليوم يطرح سؤال صراع القيم، فهل القيم تتصارع، أو أنّ مصاديق القيم هي التي تخلق صراعا في المجتمعات البشريّة؟ ثمّ هل صراع القيم بإطلاقها، أو يصدق ذلك على القيم المرتبطة بالهويّات الخصوصيّة؟ فهناك قيم مطلقة أقرب إلى المبادئ الجامعة، كالكرامة والمساواة والعدل والحريّة، فهذه أصالة مرتبطة بالذّات لا بالهويّة، ولكنّها من خلال مصاديقها تحصر في هويّات ضيقة فتتصارع بينها في ظاهرها.
هذا السؤال يلازمه سؤال مرجعية القيم المطلقة المرتبطة بالذات الإنسانية الأولى، فهل مرجعيّتها ذاتيّة مطلقة، أو ذات مرجعيّة لاهوتيّة؟ وإذا قلنا بالثّاني هل باعتبارها واقعا هي سابقة عن النّصّ، فكان النّصّ تصديقا لها، أو كان النّصّ شيئا طبيعيّا لكونها سننيّة في الوجود، فلا تعارض بين النّصّ والسّننية، ولكن فهومات النص بكونها مصاديق تأريخيّة قد تضيّق من ذلك، وتعدّد هذه المصاديق التأريخية تدخلنا في صراعات باسم القيم ذاتها.
والواقع المعيش اليوم يعيش أمام قضايا عديدة، وعلى رأسها قضايا الجندريّة والحقوق والحريّات والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين والتعددية القطرية والفكرية والدينية، وأمام قضايا الشارع والإنسان البسيط وحقوقه الشّهوانيّة، وأمام تكتّلات سياسيّة ولاهوتيّة وثقافيّة وفكريّة، تلقي بثقلها في عالم متقارب على بعضه، فما يحدث في جزء منه ولو بعيدا، تتأثر به الأجزاء الأخرى بالضّرورة.
وعلى هذا يأتي سؤال الحضارة والثّقافة، فهل هناك تمايز بينهما، أو أنّهما صورة واحدة، فالحضارة هي الثّقافة، والثّقافة هي الحضارة، والذي يسود العالم اليوم الثقافة الغربية باسم الحضارة، هذا السؤال حدث حوله جدل كبير، فهناك من لا يزال يرى بثنائيّة وتعدّد الحضارات اليوم، والحضارة تشمل ثقافات وهويّات متباينة، وبها تتشكل حضارة ما، وهناك من يرى أنّ الحضارة الإنسانية اليوم واحدة، باعتبار القيم المشتركة، وما ينتجه الإنسان ويبدعه هذا الإنسان، ولكن السّياسات الأقوى تهيمن بثقافة معينة على الآخر، نتيجة لقوة عسكرية، أو هيمنة استهلاكية أو إعلامية أو دينية، فيأتي سؤال الحضارة باعتبار الإنسان كذات، وسؤال الثقافة باعتبار التّعدديّة الانتمائيّة كهويّة، والتعددية حالة صحية إذا لم تطغَ على الحضارة والإنسان.
بعد هذا كلّه هل نحن بحاجة في ظل هذا الواقع المعيش إلى الفلسفة من جديد، أم لا زال التخوف منها مسيطرا لفترة أطول، وهل الأجيال بحاجة إلى تعليم جدليّات الفلسفة، والّتي تجاوزها الغرب أنفسهم، أم هم بحاجة إلى فتح مجال السّؤال الحر، والتّفكير النّاقد، حتّى لا يختطف عقله لاتّجاهات قد تكون متطرفة، أم أنّ هناك تخوفا من طرح السّؤال ذاته.
ثمّ هل يمكن أن يتصالح التّفكير الفلسفي مع التفكير الديني، بمعنى هل تتصالح الفلسفة مع الدين، وهل الدّين يتعارض مع الفلسفة، أو لا يلتقيان باعتبار المرجعيّة، مع أنّ العقل خيط مشترك بينهما، بيد أنّ الفلسفة اليوم تفكير حر، والدّين حريّته مؤطرة بنظم لاهوتيّة، بمعنى هل يوجد اليوم في الحقيقة فلسفة دينية، أو لا يمكن الجمع بينهما إلّا عند حدّ التفلسف في صورته الكليّة لا الإجرائيّة النّاقدة.
وعليه هل يمكن أن نعتبر علم اللّاهوت، كان يهوديّا أو مسيحيّا أو إسلاميّا (مثلا) علما فلسفيّا، أو هو الآن خارج الفلسفة لاعتبار المرجعية اللاهوتية، فإذا درسنا الفلسفة العربيّة في العصر الوسيط هل يمكن اختزالها في التّرجمة والشروحات على الآثار الإغريقيّة واليونانية، وهل يمكن اختزالها في رموز فلسفيّة معينة، فالمعارف الإسلاميّة والعربيّة كما نشطت فيها هذه الشروحات الفلسفيّة؛ نشطت فيها مثلا الأدوات اللّغويّة والدّلاليّة والنّحويّة والصّرفيّة والبلاغيّة، والّتي هي جزء من الفلسفات اللّسانيّة اليوم في صورتها المبكرة، كما نشطت فيها الأدوات العقلية واللّفظيّة الأصوليّة، وإن كانت مصاديقها أسقطت على النّصّ الدّينيّ، إلّا أنّها في الجملة أدوات منطقيّة عقليّة.
مع أنّ المنطق الأرسطي القديم لم يتمازج مع المسلمين في الفلسفيّات والأصوليّات المعرفيّة الإسلاميّة فحسب، بل دخل في التّعامل مع اللّاهوتيّات الإسلاميّة أو علم الكلام الإسلاميّ، وكما يرى عبد الجبّار الرّفاعيّ في كتابه «علم الكلام الجديد» أنّه كان هناك «إسراف المتكلمين [أي المسلمين] في استعارة المنطق الأرسطي، وتوظيف مفاهيمه في صياغة علم الكلام فيما بعد، والاعتماد عليه كليّا بوصفه مرجعيّة للتّفكير الكلاميّ؛ نجم عنه تشبّع التّفكير الكلاميّ بمنهج هذا المنطق، فانحرفت وجهته، وراح يفتش عن عوالم ذهنيّة مجردّة، بعيدة عن الواقع ووقائعه ومشكلاته، فتغلّبت بالتّدريج النّزعة التّجريديّة الذّهنيّة على المنحنى الواقعي في التّفكير الكلاميّ».
فالواقع المعيش اليوم في عالمنا العربيّ عموما والخليجيّ خصوصا، أمام جيل منفتح على أدوات المعرفة الإنسانيّة ككل، فقد تسطيع أن تضع شيئا من السّياج لبعض المعارف وفق الرّؤية الكلاسيكيّة، لكنّه يصعب ذلك في الجوانب الفلسفيّة والفكريّة؛ لأنّها فضاء حر، وإذا حدّت ماتت، لهذا التّفكير النّاقد يعني أن تكون هناك مساحة مفتوحة لفضاء البحث والتّساؤل والنّقد، وعليه تتعدّد النّتائج بشكل طبيعيّ، ويكون تدافعها طبيعيّا إذا ما وجدت دائرة الأمان لهذا التّفكير النّقديّ والفلسفيّ.
وإذا كانت العديد من المقالات الفلسفيّة أقرب إلى التّنظير الجدليّ منه الواقع العمليّ، إلّا أنّه أيضا يوجد من القيم الفلسفيّة الكبرى، والّتي تساهم إيجابا في الواقع المعيش، كالجمال والحبّ والتّعايش والعدل والمساواة وتحقيق الكرامة الإنسانيّة، ولها تأثير إيجابيّ في العالم المعيش، إذا ما أحسن توظيفها وفق ماهيّة الإنسان، وذاتيّته الواسعة، لا وفق الهويّات والانتماءات الضّيقة.
لا يوجد في الحقيقة مؤتمر فلسفيّ كهذا يعطي أجوبة معلّبة، أو يخرج إلى توصيات مطلقة، لكنّه بشكل طبيعيّ يولّد أسئلة أخرى، والفلسفة التي لا ينتج عنها أسئلة فلسفيّة؛ ليست بفلسفة، بل هي أقرب إلى المواعظ والمدارس التلقينية، لهذا نحن بحاجة اليوم في قراءة العالم المعيش وفق سؤال الفلسفة من جديد، ووفق قيمها الوجودية الكبرى، لكي تسهم في الرقي بالمجتمع الإنسانيّ من ضيق الأيدلوجيّات السّياسيّة واليمينية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الفلسفی ة ة الإنسان الیوم فی فلسفی ة هل یمکن ة الیوم فی الت
إقرأ أيضاً:
خليفة التربوية تعزز دور الأسرة في التعليم وتنمية القيم
أبوظبي (وام)
تُعد جائزة خليفة التربوية واحدة من أبرز الجوائز في الإمارات، والتي تهدف إلى تعزيز الابتكار والإبداع في مجال التربية والتعليم وتُسهم في تعزيز دور المجتمع في دعم التعليم وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتتضمن أبرز فئات الجائزة «فئة المبادرات المجتمعية»، التي تركز على الدور الأساسي للمجتمع في دعم العملية التعليمية وتعزيز مشاركة المؤسسات والأفراد بشكل فعّال، وتهدف إلى تعزيز التعاون بين المجتمع والمدارس، من خلال إشراك أولياء الأمور والمجتمع المحلي في الأنشطة التعليمية، ما يعكس أهمية تكامل جميع الأطراف لتحسين البيئة التعليمية وتطويرها.
وتولي الجائزة اهتماماً خاصاً بـ «فئة الأسرة الإماراتية المتميزة»، التي تبرز دور الأسرة في تعزيز الهوية الوطنية والتربوية لدى أبنائها وتشجيعهم على التفوق الدراسي والاجتماعي، وتُعد هذه الفئة مثالاً على الأسرة التي تسهم بشكل فاعل في تشكيل مستقبل أبنائها وتطوير قيمهم الوطنية والاجتماعية.
وأكد حميد إبراهيم الهوتي، الأمين العام لجائزة خليفة التربوية، أن مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بتخصيص عام 2025 «عام المجتمع»، تترجم مكانة المجتمع في فكر القيادة الرشيدة، وتعكس ما توليه من رعاية وحرص على بناء الأسرة وتعزيز ركائزها باعتبارها اللبنة الأولى في بناء المجتمع، كما تعكس القيم الإماراتية الأصيلة والحرص على تعزيز هذه القيم وترسيخها لدى النشء والأجيال المقبلة.
وقال: إن التطور والتقدم الذي تشهده دولة الإمارات في جميع مجالات التنمية الوطنية، استند إلى جذور راسخة لقيم إماراتية جعلت من الفرد نقطة انطلاق لبناء مجتمع متكامل يشد بعضه بعضاً في تعاضده وتكافله ورسوخ أركانه، وإن تسليط الضوء على المجتمع يعتبر مبادرة رائدة تستنهض الهمم وتشحذ العزائم وتعضد الجهود الوطنية لمواصلة مسيرة النماء لدولة الإمارات ومجتمعها، الذي كان على مر العصور نموذجاً في وحدته وتلاحمه، لافتاً إلى أن هذه المبادرة تحمل خيراً كثيراً للمجتمع من خلال البرامج والخطط التي تستهدف فئاته العمرية المختلفة. وأشار الأمين العام لجائزة خليفة التربوية إلى حرص الجائزة واهتمامها بجميع فئات المجتمع من خلال ما تقدمه من برامج وما تطرحه في دوراتها المختلفة من مجالات، إذ حرصت على تخصيص فئة للأسرة الإماراتية المتميزة تمنح للأسر التي قدمت إسهامات بارزة في دعم مسيرة تعليم الأبناء وتوفير البيئة التعليمية والاجتماعية التي تمكّن كل فرد من أفراد الأسرة من مواصلة تعليمه بتفوق وتميز.
وأوضح أن فئة الأسرة الإماراتية المتميزة التي تطرحها الجائزة، تحظى بإقبال كبير، ما يعكس وعياً أسرياً ومجتمعياً راسخاً برسالة ودور الأسرة في بناء الفرد وتحقيق تلاحم المجتمع وترابطه. وأكد أن الإمارات تمثل نموذجاً يحتذى به في بناء الأسرة والمجتمع من خلال المبادرات والبرامج التي تسهم بصورة بارزة في تنشئة الأبناء ودعم مسيرتهم التعليمية والدفع بهم إلى التميز في المجالات التي تخدم مسيرتهم العلمية والتعليمية، بل وحياتهم المهنية بكل جوانبها، مشيراً إلى ما تمتلكه الدولة من منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين التي تكفل للأسرة حقوقها، وكذلك البرامج والخطط التي تصون هذه الحقوق وتدعم رفاه الفرد والأسرة والمجتمع بصورة عامة ومستدامة في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية وغيرها.