تكشف الحروب عن الطابع المتوحش في الإنسان وشهوته إلى القتل والدمار والانتقام، كما تبين الحروب أيضا جوهر الإنسان وفطرته المجبولة على الخير والانحياز الكامل إلى قول الحق والدفاع عن المظلومين أمام أشرس الطغاة وأعتى الديكتاتوريين، ففي الإبادة الأخيرة للفلسطينيين في غزة صدحت حناجر أحرار العالم بإدانة الكيان الصهيوني وتجريم ممارساته الوحشية بقتل الأطفال والنساء وقصف دور العبادة والمستشفيات، في الوقت الذي كثُر فيه المرجفون العرب وأعلنوا صراحة عن تحميل المقاومة الإسلامية مسؤولية الهجوم على الكيان المغتصب، في هذه الأثناء تأتي أصوات الشرفاء والأحرار في العالم ومواقفهم رجالا ونساء ليصطفوا مع حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، ومن هؤلاء الأمريكي نورمان غاري فينكلشتاين (70عاما) الأستاذ الجامعي المتخصص في العلوم السياسية، الذي يقول بصريح العبارة: «إن الفلسطينيين عاشوا تحت التعذيب والحصار لسنوات ولهم حق الرد بكل قوة»، وبالرغم من أصوله اليهودية وتجربة والديه في المحرقة النازية، إلا أن معاناة أهله لم تنسه قيمته كإنسان شاهد على ندوب المعاناة في ذاكرة أهله.
في مكان آخر وزمن آخر وتجربة أخرى يقف مفكر وسياسي إيرلندي مع الأمريكيين في التحرر من الهيمنة البريطانية، فقد دافع إدموند بِرك (1729-1797) عن حق الأمريكيين في مقاومة الاستعمار، «يُعتبر إدموند من رواد الفكر المحافظ الحديث ومن أشهر أعماله (تأملات حول الثورة الفرنسية) التي وقف ضدها، وأيد الثورة الأمريكية، إذ امتعض من الأولى ومن ولع الثوريين المثير للفتنة والاضطراب إذ تدفعهم أيديولوجيتهم إلى تحطيم مؤسسات الملكية والكنيسة والنبلاء، بينما ناصر الثورة الأمريكية واعتقد بضرورة الإصلاح في المستعمرة البريطانية، وآمن بأن الثورة العنيفة فيها كانت أمرا محتوما، ووصل إلى قناعة أن أمته (أي بريطانيا) هي من تدفع سكان مستعمراتها السابقة نحو التمرد والعصيان، وسعى برك لثني زملائه السياسيين عن استخدام القوة ضد سكان مستعمراتها الأمريكية، وحين أعلن الأمريكيون الثورة ضد الاستعمار البريطاني أثنى عليهم بِرك ومجد كفاحهم البطولي». وقد أشار له تيري إيغلتُن في كتابه الثقافة وترجمته المبدعة لطيفة الدليمي.
لم يسهم برك في تأييد الثورة الأمريكية بل يعزى إليه نحت مصطلح مبدأ المحافظة إذ سيتحول المصطلح بعد وفاته بثلاثين عاما إلى اسم لأحد أشهر الأحزاب البريطانية (حزب المحافظين البريطاني)، ليس هذا فحسب بل يرجع الفضل لبرك إلى ابتكار مفهوم السلطة الرابعة قائلا: «إن المراسلين الصحفيين هم الحزب الرابع الأكثر تأثيرا من كافة الأحزاب الأخرى»، والتي تُشكل بنية الحكومة وهي ثلاثة أحزاب، رجال الدين والنبلاء والعامة.
إدموند بِرك ذو الأصول الأيرلندية لم يخفِ تعاطفه مع الميليشيات المكونة من فلاحين وفقراء أيرلنديين يتعرضون للقمع من السلطات البريطانية، وهو القائل: «اجعل عقل أي إنسان متمرغا في العبودية إلى الحد الذي يغدو فيه متعايشا معها، لكن سيظل ثمة حد يدفع فيه القمع ذلك العقل المتساكن مع العبودية إلى الثورة على مظاهر اللاعدالة». تتجسد مقولة بِرك مع حالة الشعب الفلسطيني الذي تعرض للتنكيل على مدار خمس وسبعين سنة، ذاق فيها كل أصناف العذاب والتهجير من أرضه والتشتيت في بقاع الأرض كلها، ففي كلمة ألقاها أكاديمي فلسطيني أمام مجموعة من الأيرلنديين يقول: «نحن الشعب الفلسطيني كنا ضحايا لضحايا التاريخ الأوروبي ونتيجة لذلك لم نأخذ حقنا من التفهم والتعاطف والتضامن لكن أيرلندا هي استثناء، لذلك فقد أنصتم لصرختنا من أجل الحرية.. أود تذكيركم أننا نحن الفلسطينيين عانينا من ثلاث عمليات إنكار متتالية أولها كان إنكار مجرد وجودنا المادي، لأن الذين استعمروا بلدنا تظاهروا بأن فلسطين كانت أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض، كما حُرمنا من حقوقنا الوطنية والفردية، أيضا لم يعترف أحد بالظلم التاريخي الواقع علينا أو حتى الاعتراف بمعاناتنا. جربنا عملية السلام أو ما يطلق عليها اتفاقية أوسلو وبعد مرور ثلاثين عاما عليها لم ننعم بالسلام ولم تتوقف قوات الاحتلال عن القتل ولا سجن المدنيين والتنكيل بهم، كما توسع الاستيطان وقويت شوكة المستوطنين، فالسياسية الإسرائيلية منذ نشأتها وإلى الآن تسارع إلى الاستيلاء على أكبر قدر من الأراضي الفلسطينية. بعد مراجعات لوضعنا وكنا واقعيين بدرجة غير معقولة إذ لم نطلب عدالة مطلقة لكننا طالبنا بعدالة ممكنة، إن المعضلة الأخلاقية والتحدي السياسي في الشرق الأوسط اليوم هما كالتالي: إما أن يكون لدينا شعب واحد هذه المرة نحن الفلسطينيين أو أن يكون لدينا دولة مفقودة يجب إنشاؤها، لقد تمثل رد المجتمع الدولي في الأمم المتحدة وأماكن أخرى في أن هناك دولة مفقودة يجب إنشاؤها، لكن لدي أخبار لكم، التاريخ لم يحسم أمره بعد ودعوني أقول لكم إنني لا أنتمي للمدرسة الفطرية المتفائلة التي تؤمن بالقدرية، وأن المظلومين سينتصرون يوما ما، للأسف أصدقائي الأعزاء، فإن التاريخ هو مقبرة للمظلومين الذين بقوا مظلومين حتى سقطوا في غياهب النسيان السياسي، وشاغلنا نحن الفلسطينيين هو أن لا نصبح مثل الأمريكيين الأصليين الذين سقطوا في طي النسيان كمجتمع وثقافة وأمة».
إذن هكذا تتبلور القضية الفلسطينية وتأخذ زخما مغايرا في أصقاع الأرض، فينزل الناس إلى الشوارع ويتظاهرون لأجل الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يُعد الشعب الوحيد في العالم الذي لا يزال يعاني من واقع الاستعمار البريطاني.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مسير طلابي لمركزي النبي الأعظم والإمام زيد بصنعاء تضامنًا مع غزة ولبنان
الثورة نت../
نظم مركزا النبي الأكرم والإمام زيد التابعين لمراكز المرحوم الشيخ محسن أبو نشطان التعليمي الثقافي في محافظة صنعاء، اليوم مسيرًا طلابيًا تضامنًا مع الشعب الفلسطيني واللبناني، وتأييدًا لعمليات القوات المسلحة اليمنية ضد العدو الصهيوني، الأمريكي والبريطاني.
وخلال المسير الذي انطلق من شارع الخمسين إلى ميدان السبعين، رفع المشاركون الأعلام ولافتات معبرة، ورددوا هتافات منددة بجرائم الكيان الصهيوني بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني في قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان.
وأعلنوا تأييدهم لمعركة “طوفان الأقصى”، وكل خيارات قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، في الرد على جرائم العدو الصهيوني بحق غزة ولبنان، والعدوان الأمريكي – البريطاني على اليمن.
وفي المسير، أكد مدير مراكز المرحوم الشيخ محسن أبو نشطان، فضل أبو نشطان، أهمية استمرار الحراك على كل المستويات المساندة للشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية، والاستعداد تنفيذ الخيارات التي يراها قائد الثورة، لنصرة الشعب الفلسطيني والتنكيل بالعدو الصهيوني.
وأشار إلى أن هذا الجيل ومن خلال التربية القرآنية المحمدية، هو الجيل الذي يراهن عليه السيد القائد في نصرة الإسلام والمستضعفين وقضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية.