الثقافة والهرج: وولد الجنجويد من رحم الجيش «وبعدين» «2-2»
تاريخ النشر: 27th, November 2023 GMT
عبد الله علي إبراهيم
الحرب ثقافة في غير حومة الوغى كما في حومتها، وهنا مقتل حرب السودان. فمغازي الحرب المهلكة هذه غائبة عنا وعن العالم لأن صفوة الرأي السودانية في شغل عنها بحرب أطرافها في اليمين واليسار. وكان أول هذه الحرب الصفوية هو الاتهامات المتبادلة حول من الذي بدأ منهما، لا الجيشين، هذه الحرب. وخاضا، ولا يزالان، في حربهما من حول الحرب في الميدان على الوسائط مع أن زعم أي منهما ببدء الحرب فوق أجر أي منهما كما تقول العبارة الإنجليزية.
وجردت هذه المعارك الصفوية الحرب من المغزى حتى بدت للعالم نزاعاً فادحاً بين “جنرالين” متعطشين للسلطة. فلم تجد المسائل التي رمت الحرب بتحدياتها للوجود السوداني مكاناً في الخطاب الصفوي عندنا. فلم تنتج مواقف الاصطفاف ضد أو مع جيش من الجيشين (أو حتى الحياد) معرفة تحيط بهذه التحديات نستضيء في عتمتها بها. وهي تحديات عن صورتنا لما تكون عليه الدولة القومية الحديثة، والجيش المهني فيها الذي قال صموئيل هنتنغتون إنه متخصص بـ”إدارة العنف” عنها. كما اتصلت هذه التحديات بالدولة الوطنية لما بعد الاستعمار وتداول السلطة والثروة فيها. وطالت النطاق الإقليمي من تضعضع بيئاته والهجرات عنه التي لا تعرف “جواز سفر” في أغنية سودانية شهيرة.
وتحايل خطاب الصفوة دون التعاطي مع أمهات المسائل في الحرب مثل منزلة الجيش في الدولة الوطنية الحديثة. فلا ترى “قحت” من جيشنا ما يجعلها تستدعي له تلك المنزلة وهي “إدارة العنف”، في قول صاموئيل هنتنغتون، في مثل هذه الدولة. ولـ”قحت” في تجريد الجيش عن منزلته تلك في السودان حجتان، أولاهما أنه مجرد ميليشيات كيزانية وقف الإسلاميون على تحولها إلى هذه الصفة خلال حكم دولة الإنقاذ لثلاثة عقود. أما الحجة الأخرى فهي أنه جاء اليوم للجيش ليشرب من كأس سقاها مع “الدعم السريع” لطوائف من الشعب قبل سقوط نظام الإنقاذ. فلا بواكي لقاتل نفسه كما تقول العبارة في السودان.
ومن فرط تمسك “قحت” بأن الجيش لا يعدو عن كونه ميليشيات كيزانية قولهم إن “الكيزان” هم من أوعزوا له بالحرب. وتخلط “قحت” هنا بين الجيش في السياسة والجيش المهنة. فلم تتخلف فرقة سياسية سودانية منذ الاستقلال عن الارتباط بالجيش في حكومة ما، سواء أكان أوعزت للجيش بالانقلاب الذي جاء بها للحكم، أو استصحبت هي الجيش للحكم بعد انقلابه. فمعروف أن حزب الأمة، الذي هو بعض “قحت” الآن، كان من وراء انقلاب الفريق عبود في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، وفي المسألة خلاف لا نريد له أن يستوقفنا هنا.
وكان الشيوعيون الذين خرجوا من “قحت” خلال مناقشات وثيقة الثورة الدستورية في أغسطس (آب) 2019 ولهم حلف يعرف حالياً بالجذري، من وراء انقلاب جعفر نميري في مايو (أيار) 1969 ناهيك بانقلابهم الخديج في يوليو (تموز) 1971. ولم تشتهر للتجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني والجمهوريين أدوار “تحريضية” للانقلاب، ولكنهم خدموا تحت نظم عسكرية بلا نأمة. فكانت للاتحاديين صلتهم بانقلابات اللواء محيي الدين أحمد عبدالله في 1959 على الفريق إبراهيم عبود: فنجح الأول منها وفشل الثاني.
أما حزب المؤتمر السوداني فهو الصيغة السياسية القومية لما عرف بين الطلاب تاريخياً بحركة المستقلين عن “الكيزان” والشيوعيين. وكانوا قوام نظام نميري في الحكومة والحزب والصحافة والمجالس التشريعية والنقابية. ولم يخرجوا منه إلا بسقوط النظام في 1985. وبينما لم يحتل الجمهوريون دست حكم في دولة نميري إلا أنهم مارسوا تربيتهم وسياستهم في مناخها المعتم غير مؤرقين بحرمان غيرهم مما تمتعوا به. وقدموا خدمات قيمة للنظام في الأثناء حتى اصطدموا اصطداماً تراجيدياً به قبل سنتين من سقوطه، ناهيك بانقلابات وثيقة الصلة بأحزاب لم تبلغ الحكم مثل انقلاب البعثيين الدموي في رمضان 1990.
فلا يستقيم عقلاً، والحال كما رأينا، دمغ الجيش بأنه كيزاني في حين كان لهؤلاء المتهمين له بالكيزانية معه يوماً سرهم فيه. فكان لكل منهم نبطشيته مع الجيش وصدف فقط أن كانت نبطشية “الكيزان” هي آخر نبطشياته. فلا يجوز، وسيرة أحزاب “قحت” وغيرها كما رأينا، صرف الجيش كميليشيات كيزانية. فإن فعلوا خلطوا بين الجيش المهني الذي له إدارة العنف حين كانوا دولة وبين الجيش المهني الذي له مقوماته التي تميزه عن الميليشيات.
أما الحجة الأخرى فهي من صنف “يداك أوكتا وفمك نفخ”، أي إن حرب الجيش العوان الحالية لـ”الدعم السريع” هي جنايته على نفسه بنفسه لأنه هو من أخرج “الدعم السريع” من “رحمه”، وهي الكلمة كثيرة الورود في الصدد. فيرون حرب “الدعم” للجيش بذلك كمثل انقلاب السحر على الساحر. ولا عزاء. وربما لم تصدق العبارة. فكتب الصحافي محمد لطيف نقضاً مركزاً لها ليثبت أن الجيش نأى بنفسه مهنياً وبقوة عن الارتباط بـ”الدعم السريع”. فرفض اقتراحاً من الرئيس المخلوع عمر البشير بتجنيد قوة خاصة تحت قيادته. فلم يجد الاقتراح ترحيباً من الجيش الذي كان لوقته سرح قوة خاصة أخرى تابعة له تعرف بحرس الحدود أثار أداؤها الثائرات عليه. فلما تأبى الجيش حول البشير مهمة تكوين القوة الخاصة لجهاز الأمن والاستخبارات. وأطاع الجهاز الأمر وكون القوة الخاصة تحت إمرة محمد حمدان دقلو فصارت “الدعم السريع” ليومنا، ولكنه عجز عن ملاقاة تكلفة “الدعم السريع” فسعى ليعيدها للجيش إلا أنه رفض.
واضطر البشير ليجعلها قوة خاصة تابعة مباشرة له بقانون صادر من المجلس الوطني في 2017 لا يجمعها القانون بالقوات المسلحة إلا في حالات الطوارئ التي تكون بها كل قوة نظامية تحت تصرف القوات المسلحة. ربما كان بوسع الجيش عمل أكثر مما عمل لوأد هذه الميليشيات في المهد، ولربما كان نأى عنها وهي تقوم بجرائم حربها في دارفور، لكن القول إن “الدعم السريع” ولد من رحم الجيش يصطرع حوله “الكيزان” و”قحت”. فـ”الكيزان” من جهتهم. يقولون إن عظم العدة والعتاد والشوكة التي يعرض بها “الدعم السريع” الآن في الساحتين السياسية والعسكرية هي ما تدجج به خلال قيام “قحت” بأمر الحكومة الانتقالية. ولم يفارقوا الصواب، ولكن، وبهذه المغايظة بين “قحت” و”الكيزان”، تضيع قضية الجيش المهني الذي يدير العنف في الدولة الحديثة بين الأرجل.
مخطئ من ينسب خمول ذكر حرب السودان كلية إلى غير تبطل صفوتنا دون الارتفاع إلى التحديات المنذرة للسودان. فإن أنذرت الحروب التي سبقتها بتفرق البلد فهذه الحرب قد تنذر بمحاقها. فمتى تزايلت الثقافة عمداً في الإحاطة بديناميكيتها بات الهرج وغابت عنا تضاريسها المعقدة التي تحتفظ، في قول فون كلوسويتز قبل قرنين، في الساعة الأشد حلكة، بشيء من بارق نور داخلي يضيء الطريق إلى الحقيقة. فإما الثقافة أو الفوضى.
الثقافة والهرج: لماذا يخمل ذكر حرب السودان في العالمين؟ «1- 2»
الوسومعبدالله علي إبراهيمالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عبدالله علي إبراهيم الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
النائب العام السوداني: 200 ألف مرتزق يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع
قال النائب العام السوداني الفاتح محمد عيسى طيفور، إن هناك تقارير تتحدث عن "دخول أكثر من 200 ألف مرتزق إلى السودان ليقاتلوا إلى جانب قوات الدعم السريع" ضد قوات الجيش السوداني.
ومنذ منتصف أبريل 2023، يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة والسلطات المحلية.
وأضاف النائب العام السوداني في مقابلة مع الأناضول: "هناك تقارير (لم يوضحها) تتحدث عن دخول أكثر من 200 ألف مرتزق إلى السودان من عدد من الدول (دون تسمية)".
وأشار إلى أن "آخر هؤلاء المرتزقة هم كولومبيون، وهنالك دول جوار معروفة دخلت منها المرتزقة (دون تسمية الدول)".
وأضاف طيفور: "هؤلاء الكولمبيون جلبوهم من وراء البحار لتدمير البنية التحتية"، مشيرا إلى أن "الحكومة الكولومبية اعتذرت وقالت إن هؤلاء الأشخاص قد تم خداعهم".
وأردف: "تم القبض على 120 شخصا من المرتزقة (لم يحدد جنسياتهم)، وسيحاكمون وفق القوانين السودانية في محاكمات عادلة تتوفر فيها كافة اشتراطات المحاكمة العادلة" .
وفي 3 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أعلنت وزارة الخارجية السودانية، تلقيها اعتذارا من كولومبيا على مشاركة بعض مواطنيها في القتال إلى جانب قوات "الدعم السريع".
وفي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعلنت القوات المشتركة (الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا) والتي تقاتل إلى جانب الجيش السوداني، أنها "استولت على قافلة إمداد عسكري لقوات الدعم السريع، تحمل أسلحة ومعدات عسكرية ومرتزقة بينهم كولومبيون".
وبثت على صفحتها الرسمية عبر "فيسبوك" مقطع فيديو عرضت من خلاله وثائق تعود لمواطنين كولومبيين يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع، فيما لم يصدر عن الأخيرة أي تعليق بهذا الخصوص.
** جرائم حرب
واتهم النائب العام السوداني قوات الدعم السريع "بارتكاب جرائم الاعتداء والقتل بحق المدنيين، كما ارتكبت جرائم عنف جنسي ممثلة في الاسترقاق الجنسي والاغتصاب والحمل القسري بقصد إحداث التغيير الديمغرافي".
وأضاف: "وقد ارتكبت جرائم حرب، وضد الإنسانية، و تطهيرا عرقيا، وكذلك جرائم إرهابية باعتدائها على مطارات مدنية، واتلافها أجهزة الملاحة وإخراجها عن الخدمة".
وأردف طيفور أن قوات الدعم السريع "احتلت 540 ألفا من الأعيان المدنية، بينها 80 في المائة منازل مواطنين، وأخرجت 250 مستشفى من الخدمة، بينها 14 مستشفى اتخذتها ثكنات عسكرية".
وتابع: "إجمالا ارتكبت المليشيا (الدعم السريع) مخالفات تقع تحت البند 18 من القانون الجنائي السوداني الذي يشتمل على مواد متعلقة بجرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية".
كما أنها "ارتكبت جرائم متعلقة بمخالفة قانون مكافحة الإرهاب السوداني بالإضافة إلى المواد من 50 إلى 78 من القانون الجنائي السوداني" على حد قوله.
وذكر طيفور أن "المليشيا (الدعم السريع) ارتكبت جرائم خطيرة أيضا في حق الاطفال، حيث جندت 10500 طفل".
كما اتهم النائب العام السوداني الدعم السريع "بنهب مخازن برنامج الاغذية العالمي في الخرطوم ومدن نيالا والجنينة وزالنجي (غرب)، والمخزون الإقليمي بولاية الجزيرة، والمخازن الرئيسية لمنظمة حماية الطفولة (يونيسف) في العاصمة الخرطوم".
وتتهم منظمات دولية بينها "هيومان رايس وتش" قوات الدعم السريع "بارتكاب عمليات نهب وحصار القرى والعنف الجنسي المنهجي".
وفي يناير/ كانون الثاني 2024 قدر تقرير لجنة خبراء مكلّفة من مجلس الأمن الدولي بمراقبة تطبيق العقوبات المفروضة على السودان أن "قوات الدعم السريع، بدعم من ميليشيات عربية (لم يسمها) قتلت ما بين 10 آلاف و15 ألف شخص في بلدة الجنينة بولاية جنوب دارفور غربي السودان.
وفرض الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وبريطانيا عقوبات على عدد من قادة الدعم السريع لدورهم في الحرب بالسودان، من بينهم شقيقا قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو حميدتي عبد الرحيم والقوني".
وتنفي قوات الدعم السريع قيامها بأي انتهاكات بل تؤكد أنها تسعى إلى تحقيق السلام.
** بلاغات جنائية:
وأفاد النائب العام السوداني، أن النيابة العامة واللجنة الوطنية للتحقيق في جرائم الدعم السريع، قامت بإجراء تحقيقات كبيرة جدا.
وقال: "عدد البلاغات في جرائم الدعم السريع بلغت أكثر من 31 ألفا، وتم إصدار أحكام في 391 منها وإحالة 705 إلى المحكمة".
ولفت طيفور، إلى أن "الإجراءات تسير بصورة طيبة جدا، وهنالك متهمين تم إعلانهم كمتهمين هاربين، وتم طلب متهمين عبر الإنتربول وآخرين سيتم طلبهم".
وفي 3 أغسطس/ آب 2023، أصدر رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان قرارا بتشكيل لجنة لحصر "جرائم الحرب وانتهاكات وممارسات قوات الدعم السريع ضمت النائب العام والخارجية وعضوية ممثلين لوزارة العدل والقوات المسلحة والشرطة وجهاز المخابرات العامة والمفوضية القومية لحقوق الإنسان.
وبشأن لجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة اعتبر النائب العام السوداني أن اللجنة "لم تتعامل مع هذه الانتهاكات بالصورة المهنية المطلوبة في شأن التحقيق في القضايا".
وزاد "اللجنة الدولية ذهبت لتتحدث عن مسائل سياسية تخرج عن اختصاصها، مثل المطالبة بمد سلطة المحكمة الجنائية إلى كامل التراب السوداني، وإحضار قوات حماية للمدنيين، وحظر السلاح على كامل التراب السوداني".
وتابع قائلا : "هذا يخرج من اختصاصها تماما (.. ) لهذا فإن الأجهزة العدلية في السودان والدولة السودانية رفضت تقرير اللجنة أمام مجلس حقوق الإنسان وقدمت ملاحظات حوله وطالبت بإنهاء ولايتها".
وأردف، "بكل أسف تم تجديد هذه الولاية، ونحن حتى الآن لا نلمس فيها عملا قانونيا يجعل المواطن السوداني يطمئن إلى عمل هذه اللجنة، هذه اللجنة لديها أجندات لا تتعلق بالقانون على الإطلاق".
وكانت الخرطوم رفضت قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي قضى بتمديد ولاية بعثة "تقصي الحقائق في السودان" حتى أكتوبر/تشرين الأول 2025.
وأعلنت الخرطوم منذ البداية رفضها قرار إنشاء البعثة الذي اعتمده مجلس حقوق الإنسان في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بهدف توثيق انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في البلاد منذ اندلاع الحرب في 15 نيسان/أبريل 2023