وصلتني رسالة من أطبَّاء عرب في المغترب ما زالوا يحملون بُلدانهم ولُغتهم وثقافتهم في شغاف قلوبهم ويعيشون آلام وآمال أُمَّتهم ويبذلون جهدهم كَيْ يكونوا فاعلين في تحسين مسارها ومصيرها. في هذه الرسالة عَبَّروا عن آلامهم لمشاهدة أكبر عدوان آثمٍ وأقسى وحشيَّة يمارسها إنسان ضدَّ إخوة له في الإنسانيَّة ممَّا أقنعهم أنَّ الإنسان لَمْ يحرز أيَّ تقدُّم خلال الستة آلاف سنة الماضية، وأنَّ التاريخ كُلَّه يَدُور حَوْلَ أُناس يقتلون أناسًا لا يعرفونهم.
لقَدْ كانت مواقف الطواقم الطبيَّة من الأطبَّاء الفلسطينيِّين في مشافي غزَّة والَّتي توافدت إليها أيضًا بعد الحرب عَلَيْها لِتساعدَ في إنقاذ حياة البَشَر غاية في النبل والإنسانيَّة؛ فرغم تهديدات الصهاينة باستهداف المستشفيات، والَّتي أصبحت أيضًا ملاذًا لآلاف الأطفال والنِّساء بعد تدمير منازلهم، لَمْ يغادر أحَد من هؤلاء الكوادر من أطبَّاء ومُمرِّضين مشافيهم وقضوا كُلَّ الوقت يداوون جرحاهم وأعلنوا مرارًا أنَّهم لَنْ يتركوا جرحاهم لخطر الموت بحثًا عن ملاذ آمن لأنْفُسهم، وفي هذا الموقف عصارة إنسانيَّة تُعيد لنَا الثِّقة بإنسانيَّة الإنسان المعاصر بعد أن كاد هؤلاء المعتدون المتوحِّشون المشبَّعون بالعنصريَّة والأحقاد المتوارثة من اضطهاد المُجتمعات الغربيَّة لَهُم طوال القرون الماضية، يفقدوننا الثِّقة بإنسانيَّة الإنسان المعاصر وقدرته على الشعور بأخيه الإنسان والتعاطف معه. لقَدْ وصلَ حدُّ الجريمة أنَّ المعتدين الصهاينة اعتقلوا عددًا من الكوادر الطبيَّة، كما استُشهد ما يفوق مئتَيْ طبيب ومُمرِّض بحيث أصبحت مشافي غزَّة ميدانًا للعدوان والتنكيل بالجرحى والطواقم الطبيَّة وأهليهم والقادمين للمساعدة في إنقاذ حياتهم. وهذه هي المرَّة الأولى الَّتي يتذكر فيها أيُّ إنسان من الشرق أو الغرب تحويل المراكز الطبيَّة إلى أهداف لحرب إبادة وتطهير عِرقي يذكِّرنا بالقرون الوسطى والحروب الاستيطانيَّة للاستعمار الغربي، الأمْرُ الَّذي يتنافى مع كُلِّ أخلاق وأعراف وقوانين دوليَّة يلتزم بها الجميع خلال الحروب.
كان المتحاربون في الحرب العالَميَّة الثانية يضعون صليبًا كبيرًا على أسطح المشافي كَيْ يعرفَ الطيران المهاجم أنَّ هذا الهدف لا يُمكِن قصفه. والأكثر من ذلك أنَّ منظَّمات الأُمم المُتَّحدة المعنيَّة والمتخصِّصة قَدِ التزمت الصَّمْت حيال اعتقال وقتل الكوادر الطبيَّة وتدمير المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد وكأنَّها قواعد عسكريَّة. وطبعًا انحازت وسائل الإعلام الغربيَّة كُلُّها مع المعتدين ودافعت بوقاحة عن حقِّ الأبارتيد بالإبادة العِرقيَّة للمَدنيِّين الفلسطينيِّين ممَّا أكَّد أنَّ هذه الوسائل الإعلاميَّة الغربيَّة مجرَّد أبواق دعائيَّة للأنظمة القمعيَّة الاستعماريَّة العنصريَّة.
من ناحية أخرى فقَدْ كان لنبل هذه الكوادر الطبيَّة الفلسطينيَّة وصمودها في المساعدة رغم خطر الموت أبلغ الأثَر في إيصال الرواية الحقيقيَّة إلى العالَم وسط حملة تضليل وكذب وافتراء قام بها العدوُّ عَبْرَ وسائل الإعلام الغربيَّة وحكوماتها؛ بالافتراء أنَّ المشافي إمَّا تقوم بإيواء مُسلَّحين أو بتخزين أسلحة. علَّ العالَم الغربي اليوم والَّذي تتجاذبه أكاذيب الصهاينة المعتدين بالإضافة إلى فقره المعرفي بالعرب والمُسلِمين، حيث إنَّه استمدَّ مُعْظم مفاهيمه عن العرب والمُسلِمين من المستشرقين الغربيِّين، لَمْ يفهم كيف يُمكِن للكوادر الطبيَّة أن تتعرضَ للقتل والاعتقال والإصابة وترفضَ أن تتركَ مرضاهم لمصيرهم ويصرُّون على أن يشاركوهم ذات المصير؛ لأنَّ العالَم الغربي لَمْ يطَّلع على معنى المهنة الطبيَّة في الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة ولا يدرك ارتباط هذه المهنة بأخلاق الإنسان وسمعته وتاريخه وتصنيفه بَيْنَ أقرانه وأهله وزملائه، وعلَّها مناسبة هنا وكتحيَّة حارَّة وذات مغزى لكُلِّ الكوادر الطبيَّة الَّتي صمدَت طوال الحرب على غزَّة والَّتي ضحَّت وأذهَلَتِ العالَم بأدائها وأخلاقها أن نُلقيَ ضوءًا على الإرث العربي والإسلامي الَّذي دخل في تشكيل جينات هذه الكوادر ونُظُمها الأخلاقيَّة.
لقَدْ شهد العصر الذهبي الإسلامي الَّذي امتدَّ من القرن الثامن وحتَّى الخامس عشر الميلادي تقدُّمًا هائلًا في الأبحاث والعلوم، وأحَد أهمِّ حقول المعرفة هذه كان الطِّب الإسلامي الَّذي شهد نظامًا طبيًّا انتقل بجوهره إلى الأنظمة الحديثة في الطِّب والمشافي حين كانت أوروبا لا تزال آنذاك تعيش عصورها المظلمة. لَمْ يكُنِ البحث الطبِّي وإنقاذ المَرضى وتدريب الطلاب أمْرًا علميًّا بحتًا منفصلًا عن الهُوِيَّة الإسلاميَّة للطبيب العربي، بل كان وبعُمق تعبيرًا دينيًّا عن هُوِيَّتهم الإسلاميَّة وفي جوهر أداء واجباتهم الدِّينيَّة، فقَدْ كان الإيمان بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف أساسيًّا في الطِّب الإسلامي والَّذي أكَّد أنَّه من واجب المُسلِمين الاهتمام بالمَرضى. وحسب أحاديث الرسول محمد (صلى الله عَلَيْه وسلَّم) فإنَّ الله سبحانه وتعالى قَدْ أرسل دواءً لكُلِّ داء وأنَّه من واجب الطبيب المُسلِم أن يهتمَّ بجسد وروح المريض، وهذا بالذَّات دفَع المُسلِمين إلى الاهتمام بالعلوم الطبيَّة والصيدلانيَّة واتِّباع مقاربة شاملة للجسد والروح على السَّواء وبناء المشافي.
علَّ من أهمِّ مساهمات العصر الإسلامي لتاريخ الطِّب هو إقامة المستشفيات والَّتي يُدفع لها من أموال الزكاة ومن أموال الوقف الإسلامي، وهناك وثائق وبراهين وأدلَّة على أنَّ هذه المستشفيات كانت موجودة في القرن الثامن الميلادي، وانتشرت بعدها وبسرعة في كُلِّ أرجاء العالَم الإسلامي، وهناك وثائق لثلاثين مستشفى رئيسيًّا مِنْها على الأقلِّ. هذه المشافي ـ بالإضافة إلى الاهتمام بالمرضى ـ كانت ترسل أطبَّاء وقابلات إلى المناطق الأفقر، كما كان في هذه المشافي أقسام للطلاب والباحثين لمتابعة دراستهم والقيام بأبحاثهم. لقَدْ كان في هذه المستشفيات أقسام متخصِّصة لتأهيل الأطبَّاء وكان هؤلاء الطلاب يسافرون مسافات لإمضاء وقت بحثي والتعلُّم والتدريب على أيدي أفضل الأطبَّاء. كما كان هؤلاء دقيقين جدًّا بحفظ البيانات ليس فقط كطريقة لِنَشْرِ العِلم والمعرفة ولكن أيضًا لتقديم الدليل والوثيقة في حال اتِّهام أيِّ طبيب بممارسة خاطئة.
وفي وقت أقرب إلى اليوم أسَّست نساء سوريَّات ولبنانيَّات هاجرن إلى البرازيل في أواخر القرن الثامن عشر مشفى في مدينة ساوباولو البرازيليَّة باسم «المشفى السوري اللبناني» يُعدُّ اليوم أهمَّ مستشفى في أميركا اللاتينيَّة وحافظ على إرث الأجداد بالاهتمام بشفاء الجسد والروح، كما أسَّس قسمًا للمنح الطلابيَّة وتدريب الأطبَّاء تمامًا كما فعل الأطبَّاء في العصر الإسلامي. وهؤلاء النسوة مُعْظمهن مسيحيَّات ولكنَّهن اتَّبعن ما أنجزه العرب في عصرهم الذهبي الإسلامي، أي أنَّ هذه الثقافة الَّتي نفخر بها جميعًا ليست مقتصرة على المُسلِمين أبدًا ولكنَّها أزهرت في العصر الإسلامي وتبعها وأسهَم في إنتاجها واستمرارها المُسلِمون والمسيحيون في بلاد لَمْ تفرِّق بَيْنَ الرُّسل ولا بَيْنَ أتباع هؤلاء الرسل أبدًا.
لهؤلاء المتوحِّشين الصهاينة وشركائهم الغربيِّين الَّذين يقتلون آلاف البَشَر بآلاتهم الحربيَّة الهمجيَّة ولا يفهمون معنى الرحمة والنَّخوة والشَّهامة والتضحية والفِداء ولا يعرفون معنى الإرث الإنساني والموقف الإنساني نقول لَهُم إنَّكم تحاولون تدمير حضارة وحَمَلة حضارة متجذِّرة في أعماق التاريخ وقلوب وجينات البَشَر في هذه المنطقة من العالَم ولَنْ تتمكنوا من ذلك. ولكُلِّ الطواقم الطبيَّة والإعلاميَّة العربيَّة الَّتي تحدَّت الموت لِتقولَ: «إنَّنا لا نخذل ثقافتنا وتاريخنا وإنسانيَّتنا» نقول لَهُم بوركتم فأنتم المشعل الحقيقي للرحمة الإنسانيَّة في هذا العصر بعد أن انحدر الغربيون، سياسيون وإعلاميون، إلى درك العصور المظلمة حيث الإبادة الوحشيَّة للمَدنيِّين العُزَّل من أطفال ونساء وتهديم المُدُن وقصف المشافي والمنازل، هذا المشعل الإنساني هو الَّذي سيضيء درب هذه الأُمَّة إلى الانتصار والتفوُّق رغم كُلِّ حروب الإبادة والتطهير العِرقي فقَدِ انتصرتم بالتزامكم بتاريخكم وأخلاقكم وهُزموا هزيمة نكراء على كُلِّ المستويات.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الکوادر الطبی م الغربی العال م الب ش ر آلاف ا فی هذه
إقرأ أيضاً:
«القاهرة الإخبارية»: بلاغات أولية عن سقوط صواريخ في الجليل الغربي
كشفت بلاغات أولية عن سقوط صواريخ على منطقة طمرة وشفاعمرو بالجليل الغربي، حسبما أفادت قناة «القاهرة الإخبارية»، في نبأ عاجل.