هل قتل الاقتصاد الرقمي الرأسمالية؟
تاريخ النشر: 27th, November 2023 GMT
تخيّل المشهد التالي وهو أنك تدخل إلى مدينة مليئة بالأشخاص الذين يمارسون أعمالهم ويتاجرون بالأدوات والملابس والأحذية والكتب والأغاني والألعاب والأفلام. في البداية، يبدو كل شيء طبيعيا، ثم تبدأ في ملاحظة شيء غريب، وهو أن جميع المحلات التجارية في المدينة، بل كل مبنى وشقة وشارع، يملكها رجل يدعى جيف.
هذا الرجل قد لا يمتلك جميع المصانع التي تنتج كل تلك البضائع التي تباع في متاجره، لكنه يمتلك خوارزمية تأخذ حصة من كل عملية بيع، ويحق له أن يقرر ما يمكن بيعه وما لا يمكن بيعه.
يشبه هذا المشهد مشهدا آخر قديما هو مشهد "راعي بقر" يدخل إلى مدينة ليكتشف أن رجلا قويا قصير القامة هو المسؤول عن المقهى، ومتجر البقالة، ومكتب البريد، والسكك الحديدية، والبنك، وبالطبع، مسؤول الشرطة.
ما سبق ليس شيئا خياليا، بل هو ما يحدث بالضبط في شركات تكنولوجيا عابرة للقارات مثل أمازون وعلي بابا وغوغل وغيرها، فقد أصبحت هذه الشركات أشبه بإقطاعيات رقمية هائلة تملك كل شيء، وتعامل كل من هو داخلها كنوع من العبيد الرقميين الجدد المجبرين على التصرف بالضبط كما تريد هذه الشركات، وفق ما ذكر الكاتب يانيس فاروفاكيس في مقالة له بصحيفة الغارديان البريطانية مؤخرا.
في المشهد الرقمي السريع التقدم في ظل الثورة الصناعية الرابعة، برزت الخوارزميات باعتبارها حجر الزاوية في الاقتصاد الحديث، حيث أعادت تشكيل مختلف الصناعات والقطاعات الاقتصادية، والسيطرة على سلوك المستهلكين في جميع أنحاء العالم، إذ أحدثت هذه التعليمات البرمجية ثورة في العمليات التجارية، ومكّنت الشركات من تحسين أدائها وعملياتها من خلال مراقبة تفاعلات المستخدمين، واتخاذ قرارات تعتمد على البيانات الضخمة التي تعيد تحليلها بشكل مستمر.
ومع استمرار تطور هذه الخوارزميات أخذت تلعب دورا مهيمنا بشكل متزايد على التجارة والأسواق العالمية.
يمثل الاقتصاد الخوارزمي نقلة نوعية من نماذج الأعمال التقليدية إلى النماذج التي تركز على البيانات، حيث تسخر الشركات في مختلف الصناعات قوة الخوارزميات لأتمتة المهام، والتنبؤ بسلوك العملاء، واستخراج الرؤى، واستخلاص النتائج من مجموعات البيانات الضخمة التي يتم تغذيتها بها باستمرار.
وبهذه الطريقة اخترقت الخوارزميات كل القطاعات تقريبا، من تجارة التجزئة وأسواق المال والبورصة، وليس انتهاءً بالرعاية الصحية والطاقة والنقل، مما أدى إلى تعطيل الأساليب التقليدية وإحداث ثورة فوضوية في ديناميكيات السوق.
وفي عصر الخوارزميات، بدأ زمن ما يطلق عليها البروفيسور شوشانا زوبوف "رأسمالية المراقبة"، وهي مرحلة جديدة في التاريخ الاقتصادي حيث تقوم الشركات الخاصة بتتبع كل تحركاتك بهدف التنبؤ بسلوكك والتحكم فيه.
وفي ظل رأسمالية المراقبة، أنت لست العميل أو حتى المنتج: أنت المادة الخام، وذلك حسب ما يؤكد زوبوف في كتابه "عصر رأسمالية المراقبة"، وفي هذا العصر تسيطر الخوارزميات على كل شيء، وهي في ظل هذه السيطرة تضع جانبا واحدا من أهم مبادئ الرأسمالية، وهو مبدأ حرية التجارة ومنع الاحتكار.
إن الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي يعمل على ترسيخ السلطة في أيدي بضعة أشخاص فقط أو لنقل شركات التكنولوجيا التي يملكها هؤلاء الأشخاص، وهذه الشركات لا تخضع لرقابة صارمة.
وفي هذا السياق، يقول المدير المالي الأسبق لشركة "غولدمان ساكس" مارتين شافيز في محاضرة له بمركز جامعة هارفارد للعلوم في عام 2000، "كان لدينا 600 شخص يصنعون أسواق الأسهم الأميركية.. اليوم، لدينا شخصان والكثير من البرامج".
أن يُسيطر شخصان فقط على سوق الأسهم الأميركية، وهو الأكبر في العالم وأغناها وأكثرها فعالية، فهذا يعني شيئا واحدا فقط وهو الاحتكار، وهو بكل تأكيد ضد مبدأ حرية التجارة الذي هو محور الرأسمالية. وهذا يعود بنا لسؤال في غاية الأهمية وهو: هل عادت البشرية لعصر الإقطاع؟
الإقطاع هو نظام من العلاقات الاقتصادية الزراعية، حيث تكون وسيلة الإنتاج الرئيسية وهي الأرض ملكا لشخص واحد، ويعمل الفلاحون الذين كان يطلق عليهم الأقنان في أرض هذا الشخص، الذي يسمى الإقطاعي.
ويملك الإقطاعي الأرض والمنازل والفلاح، الذي يقضي معظم وقته في العمل وعليه أن يعطي ربع محصول الأرض للإقطاعي، وقد سميت هذه العلاقات الاقتصادية بالإقطاعية.
ألا يشبه ما يجري في شركات مثل أمازون وعلي بابا وغوغل وغيرها من عمالقة التكنولوجيا ما كان يجري في زمن الإقطاع؟ تملك هذه الشركات العملاقة "الأرض الرقمية"، حيث تملك جميع "المحلات" التي تتاجر في الأدوات والملابس والأحذية والكتب والأغاني والألعاب والأفلام وكل ما يخطر على البال، وتحدد هذه الشركات ما يعرض في هذه المتاجر الرقمية، وطريقة عرضه، وثمنه، وتأخذ مقابل ذلك مبلغا ماليا يتم اقتطاعه من كل عملية بيع تجري في متاجرها. هو بكل تأكيد إقطاع، لكنه إقطاع رقمي هذه المرة.
عندما تدخل موقعا مثل أمازون أو علي بابا تكون قد خرجت من منطقة الرأسمالية، وعلى الرغم من كل عمليات البيع والشراء التي تجري هناك، فإنك قد دخلت عالما لا يمكن اعتباره سوقا ولا حتى سوقا رقميا، وفق ما يؤكد الكاتب يانيس فاروفاكيس في مقالته آنفة الذكر بصحيفة الغارديان.
وذلك لأن الخوارزميات التي تقف خلف هذه المواقع تفرض على المستهلك نوع المنتج الذي يمكنه الاطلاع عليه، وتقوم بتسويقه ليشتريه المستهلك في النهاية، وفي اللحظة ذاتها ترفض عرض المنتجات الأخرى التي لا تخضع لاشتراطات الشركات التي تتبع لها هذه الخوارزميات، وبالتالي فهي سوق ذات اتجاه واحد فقط، تعرض ما تريده فقط.
ويوضح فاروفاكيس "هذه ليست سوقا. إنها ليست حتى شكلا من أشكال السوق الرقمية المفرطة في الرأسمالية. في الواقع، إنها أسوأ من السوق المحتكرة بالكامل، فهناك، على الأقل، يمكن للمشترين التحدث مع بعضهم بعضا، وتشكيل جمعيات، وربما تنظيم مقاطعة استهلاكية لإجبار المحتكر على خفض الأسعار أو تحسين الجودة. ليس الأمر كذلك في عالم جيف (المقصود هنا جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون)، حيث لا يخضع كل شيء وكل شخص ليد السوق الخفية النزيهة، بل لخوارزمية تعمل من أجل تحقيق النتيجة النهائية لجيف وترقص حصريا على أنغامه".
تبدو هذه صورة مرعبة لكنها واقعية بدرجة كبيرة، فالخوارزميات لا تتحكم في البضائع والمنتجات التي يتم عرضها على المستهلكين فقط، بل تتحكم في المحتوى والأفكار أيضا، ولعل أقرب مثال على ذلك حجب شركات التواصل الاجتماعي الكبرى -مثل فيسبوك وإنستغرام- أي محتوى داعم للقضية الفلسطينية خلال العدوان الإسرائيلي المستمرة فصوله الدامية على قطاع غزة المحاصر. قد يبدو أننا نُدخل موضوعا في آخر، ولكن الفكرة هي نفسها، وهي السيطرة على المستهلك، والتحكم بنوع المنتج الذي يشاهده والذي سيقوم بشرائه في النهاية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: هذه الشرکات کل شیء
إقرأ أيضاً:
مسئول بـ الإسكوا : دول المنطقة ومن بينها مصر حققت طفرة في التحول الرقمي
أشاد أيمن الشربيني رئيس سياسات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) ورئيس مكتب التنسيق المشترك للمنتدى العربي العالمي للتعاون الرقمي والتنمية، بالتجارب والخبرات في المنطقة العربية بشأن التحول الرقمي والاقتصاد الرقمي، مشيرًا إلى أن دولًا عربية استطاعت أن تكون في مراكز متقدمة في قطاع التحول الرقمي وأصبحت نموذجًا يحتذى به.
وقال الشربيني- في حوار لمدير مكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط في عمَّان، على هامش أعمال النسخة الثانية من "منتدى التعاون الرقمي والتنمية"، التي عُقدت مؤخرًا في الأردن تحت شعار "رؤيتنا، عالمنا، مستقبلنا"- إن هناك دولًا في منطقة الشرق الأوسط قدمت نموذجًا كبيرًا للتحول الرقمي وتخطت تجارب دول أخرى كبرى أجنبية لها باع طويل في هذا القطاع، مُنوهًا بأن هناك دولًا عربية بمنطقة الشرق الأوسط في المراتب العشرة الأوائل بين هذا العالم في التحول الرقمي.
وكشف عن أن هناك أيضًا دولًا في مراكز متقدمة كثيرًا ورائدة فيما يتعلق بالمجالات التفاوضية والمنابر العالمية ولها دور كبير عالميًا، لافتًا إلى أنه وفقًا لأبحاث "الإسكوا"، حققت بعض دول المنطقة طفرة كبيرة وتقدمت بشكل غير مسبوق في التحول الرقمي والرقمنة مثل مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر وغيرها، وبعضها في العشرة الأوائل عالميًا.
وأوضح الشربيني أن كل دولة من دول المنطقة تختلف حسب إمكانياتها وظروفها والتحديات التي تواجهها، مؤكدًا أنه في المجمل، تحولت المنطقة تحولًا كبيرًا في قطاع التحول الرقمي والرقمنة.
وأضاف أنه يوجد تقييمات تم وضعها في جامعة الدول العربية للتحول الرقمي تتناسب مع ظروف كل دولة ومحيطها، مبينًا أن الأمر يتعلق بالمستوى والوضع الراهن لديها وليس أشياء أخرى، منوهًا بأن التقييم التراكمي في تحقيق التحول الرقمي والرقمنة هو الأساس.
ورأى رئيس سياسات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) ورئيس مكتب التنسيق المشترك للمنتدى العربي العالمي للتعاون الرقمي والتنمية، أنه "رغم كل هذا التقديم، إلا أنه ما زالت هناك فجوات ونعمل على سدها من خلال الأجندة العربية للتحول الرقمي التي وُضعت من قِبل الجامعة العربية"، مؤكدًا أن التعاون المشترك والتنسيق والتشاور وتبادل الخبرات ومناقشات المنتديات تثمل محورًا لسد هذه الفجوات.
وحول أهمية عقد "منتدى التعاون الرقمي والتنمية"، الذي عُقد مؤخرًا في الأردن تحت شعار "رؤيتنا، عالمنا، مستقبلنا"، أوضح أيمن الشربيني أن عقد مثل هذه المنتديات يساهم في مسار الأجندة الرقمية العربية التي وُضعت بمعرفة الدول العربية وكافة المنظمات ذات الصلة بالرقمنة، مشيرًا إلى أن هذه الأجندة تمثل أهم مناقشات هذا المنتدى.
ولفت إلى أن هناك سياقًا عالميًا، والأجندة العربية جزء من هذا السياق، ويهدف المسار إلى تحقيق الرقمنة في العالم العربي، لافتًا إلى أن "القمة العالمية لمجتمع المعلومات"- التي من المقرر عقدها نهاية العام الجاري- تمثل أهمية في تحقيق التنمية الرقمية في العالم من خلال تبادل التجارب والخبرات بين العالم.
ونوَّه بأن هذا المنتدى يضع أولويات العالم العربي لـ"القمة العالمية لمجتمع المعلومات" كجزء من العالم يسعى إلى تحقيق التنمية الرقمية والرقمنة، موضحًا أن مثل هذه المنتديات تساهم في تحقيق ذلك من خلال المشاركين فيها من كافة قطاعات الدول سواء البرلمانية أو التنفيذية أو الشعبية التي تمثل الشارع العربي كمستخدم لهذه الرقمنة.
وتابع الشربيني أن الأجندة العربية للرقمنة وُضعت بمعرفة القادة والملوك في القمة العربية الـ32، التي عُقدت في مدينة جدة بالسعودية، وتعمل جامعة الدول العربية على متابعتها، وتنفيذها هو محور مشاركة الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط في مثل هذه المنتديات، مشيرًا إلى أن كافة حضور المنتدى سواء من العالم العربي أو المنظمات الدولية يؤكدون حرص الدول العربية على تحقيق التنمية الرقمية والاقتصاد الرقمي كمحور أساسي حاليًا لمعظم الدول العربية.
وأردف أن هناك تواصلًا مستمرًا بين المنظمات الدولية والمنتديات من أجل تحقيق هذه التنمية الرقمية التي يتطلع إليها العالم العربي، لافتًا إلى أن "الإسكوا" و"المنتدى العربي العالمي للتعاون الرقمي والتنمية" يعملان على تحقيق التقارب بين الجهات التنفيذية في الدول العربية والشعوب والقضاء على أي فجوات بينهما.
وعن دور "الإسكوا" و"المنتدى العربي العالمي للتعاون الرقمي والتنمية" مع الدول العربية، أشار رئيس سياسات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) ورئيس مكتب التنسيق المشترك للمنتدى العربي العالمي للتعاون الرقمي والتنمية، إلى أن الدور الرئيسي هو تقديم كافة أشكال الدعم والمساندة لكافة الدول العربية لتحقيق التنمية الرقمية بالتعاون والتنسيق مع جامعة الدول العربية، منوهًا بأن "كافة الأعضاء هم من الدول العربية، ونقدم الدعم لهم من أجل المساعدة في تحقيق التنمية الرقمية".
وشدد على أن التعاون المشترك وإطلاق المشروعات المشتركة هو أيضًا من ضمن عمل "الإسكوا" باعتباره جزءًا من نطاق عمل الأمم المتحدة وهو دورها الريادي، لافتًا إلى أن التعاون الرقمي يحتاج إلى تضافر الجهود المشتركة الدولية، وأن تكون على مسافة واحدة من جميع الأطراف المشاركة في هذا الصدد.
وبشأن تقييمه للتعاون بين الجامعة العربية و"الإسكوا"، لفت أيمن الشربيني إلى أن التعاون بين الجانيين على أعلى مستوى، إيمانًا بأنه لا أحد يستطيع أن يعمل بمفرده ولكن يجب التعاون معًا، منوهًا بأن التعاون بين كافة المنظمات العربية والدولية والأمم المتحدة أساس باعتبارها الداعم الرئيسي.
وشدد على حرص "الإسكوا" على التعاون الوثيق مع جامعة الدول العربية لتحقيق الأهداف المنشودة بشأن التحول الرقمي والاقتصاد الرقمي، مؤكدًا أن العمل المشترك يؤكد أن هناك قدرة على مواجهة التحديات بهذا التعاون والتنسيق، ودون غير ذلك لا يتحقق الهدف.
ورأى الشربيني أن التعاون والتنسيق مع الدول العربية يؤكد أنها بخير وبقوة وتمتلك الكوادر والخبرات التي تساهم في تحقيق التحول الرقمي، مؤكدًا أن "الإسكوا" تعمل مع الجميع ولصالح الجميع في هذا الشأن.