الحرب ثقافة في غير حومة الوغى كما في حومتها، وهنا مقتل حرب السودان. فمغازي الحرب المهلكة هذه غائبة عنا وعن العالم لأن صفوة الرأي السودانية في شغل عنها بحرب أطرافها في اليمين واليسار. وكان أول هذه الحرب الصفوية هو الاتهامات المتبادلة حول من الذي بدأ منهما، لا الجيشين، هذه الحرب. وخاضا، ولا يزالان، في حربهما من حول الحرب في الميدان على الوسائط مع أن زعم أي منهما ببدء الحرب فوق أجر أي منهما كما تقول العبارة الإنجليزية.


وجردت هذه المعارك الصفوية الحرب من المغزى حتى بدت للعالم نزاعاً فادحاً بين "جنرالين" متعطشين للسلطة. فلم تجد المسائل التي رمت الحرب بتحدياتها للوجود السوداني مكاناً في الخطاب الصفوي عندنا. فلم تنتج مواقف الاصطفاف ضد أو مع جيش من الجيشين (أو حتى الحياد) معرفة تحيط بهذه التحديات نستضيء في عتمتها بها. وهي تحديات عن صورتنا لما تكون عليه الدولة القومية الحديثة، والجيش المهني فيها الذي قال صموئيل هنتنغتون إنه متخصص بـ"إدارة العنف" عنها. كما اتصلت هذه التحديات بالدولة الوطنية لما بعد الاستعمار وتداول السلطة والثروة فيها. وطالت النطاق الإقليمي من تضعضع بيئاته والهجرات عنه التي لا تعرف "جواز سفر" في أغنية سودانية شهيرة.
وتحايل خطاب الصفوة دون التعاطي مع أمهات المسائل في الحرب مثل منزلة الجيش في الدولة الوطنية الحديثة. فلا ترى "قحت" من جيشنا ما يجعلها تستدعي له تلك المنزلة وهي "إدارة العنف"، في قول صاموئيل هنتنغتون، في مثل هذه الدولة. ولـ"قحت" في تجريد الجيش عن منزلته تلك في السودان حجتان، أولاهما أنه مجرد ميليشيات كيزانية وقف الإسلاميون على تحولها إلى هذه الصفة خلال حكم دولة الإنقاذ لثلاثة عقود. أما الحجة الأخرى فهي أنه جاء اليوم للجيش ليشرب من كأس سقاها مع "الدعم السريع" لطوائف من الشعب قبل سقوط نظام الإنقاذ. فلا بواكي لقاتل نفسه كما تقول العبارة في السودان.
ومن فرط تمسك "قحت" بأن الجيش لا يعدو عن كونه ميليشيات كيزانية قولهم إن "الكيزان" هم من أوعزوا له بالحرب. وتخلط "قحت" هنا بين الجيش في السياسة والجيش المهنة. فلم تتخلف فرقة سياسية سودانية منذ الاستقلال عن الارتباط بالجيش في حكومة ما، سواء أكان أوعزت للجيش بالانقلاب الذي جاء بها للحكم، أو استصحبت هي الجيش للحكم بعد انقلابه. فمعروف أن حزب الأمة، الذي هو بعض "قحت" الآن، كان من وراء انقلاب الفريق عبود في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، وفي المسألة خلاف لا نريد له أن يستوقفنا هنا.
وكان الشيوعيون الذين خرجوا من "قحت" خلال مناقشات وثيقة الثورة الدستورية في أغسطس (آب) 2019 ولهم حلف يعرف حالياً بالجذري، من وراء انقلاب جعفر نميري في مايو (أيار) 1969 ناهيك بانقلابهم الخديج في يوليو (تموز) 1971. ولم تشتهر للتجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني والجمهوريين أدوار "تحريضية" للانقلاب، ولكنهم خدموا تحت نظم عسكرية بلا نأمة. فكانت للاتحاديين صلتهم بانقلابات اللواء محيي الدين أحمد عبدالله في 1959 على الفريق إبراهيم عبود: فنجح الأول منها وفشل الثاني.
أما حزب المؤتمر السوداني فهو الصيغة السياسية القومية لما عرف بين الطلاب تاريخياً بحركة المستقلين عن "الكيزان" والشيوعيين. وكانوا قوام نظام نميري في الحكومة والحزب والصحافة والمجالس التشريعية والنقابية. ولم يخرجوا منه إلا بسقوط النظام في 1985. وبينما لم يحتل الجمهوريون دست حكم في دولة نميري إلا أنهم مارسوا تربيتهم وسياستهم في مناخها المعتم غير مؤرقين بحرمان غيرهم مما تمتعوا به. وقدموا خدمات قيمة للنظام في الأثناء حتى اصطدموا اصطداماً تراجيدياً به قبل سنتين من سقوطه، ناهيك بانقلابات وثيقة الصلة بأحزاب لم تبلغ الحكم مثل انقلاب البعثيين الدموي في رمضان 1990.
فلا يستقيم عقلاً، والحال كما رأينا، دمغ الجيش بأنه كيزاني في حين كان لهؤلاء المتهمين له بالكيزانية معه يوماً سرهم فيه. فكان لكل منهم نبطشيته مع الجيش وصدف فقط أن كانت نبطشية "الكيزان" هي آخر نبطشياته. فلا يجوز، وسيرة أحزاب "قحت" وغيرها كما رأينا، صرف الجيش كميليشيات كيزانية. فإن فعلوا خلطوا بين الجيش المهني الذي له إدارة العنف حين كانوا دولة وبين الجيش المهني الذي له مقوماته التي تميزه عن الميليشيات.
أما الحجة الأخرى فهي من صنف "يداك أوكتا وفمك نفخ"، أي إن حرب الجيش العوان الحالية لـ"الدعم السريع" هي جنايته على نفسه بنفسه لأنه هو من أخرج "الدعم السريع" من "رحمه"، وهي الكلمة كثيرة الورود في الصدد. فيرون حرب "الدعم" للجيش بذلك كمثل انقلاب السحر على الساحر. ولا عزاء. وربما لم تصدق العبارة. فكتب الصحافي محمد لطيف نقضاً مركزاً لها ليثبت أن الجيش نأى بنفسه مهنياً وبقوة عن الارتباط بـ"الدعم السريع". فرفض اقتراحاً من الرئيس المخلوع عمر البشير بتجنيد قوة خاصة تحت قيادته. فلم يجد الاقتراح ترحيباً من الجيش الذي كان لوقته سرح قوة خاصة أخرى تابعة له تعرف بحرس الحدود أثار أداؤها الثائرات عليه. فلما تأبى الجيش حول البشير مهمة تكوين القوة الخاصة لجهاز الأمن والاستخبارات. وأطاع الجهاز الأمر وكون القوة الخاصة تحت إمرة محمد حمدان دقلو فصارت "الدعم السريع" ليومنا، ولكنه عجز عن ملاقاة تكلفة "الدعم السريع" فسعى ليعيدها للجيش إلا أنه رفض.
واضطر البشير ليجعلها قوة خاصة تابعة مباشرة له بقانون صادر من المجلس الوطني في 2017 لا يجمعها القانون بالقوات المسلحة إلا في حالات الطوارئ التي تكون بها كل قوة نظامية تحت تصرف القوات المسلحة. ربما كان بوسع الجيش عمل أكثر مما عمل لوأد هذه الميليشيات في المهد، ولربما كان نأى عنها وهي تقوم بجرائم حربها في دارفور، لكن القول إن "الدعم السريع" ولد من رحم الجيش يصطرع حوله "الكيزان" و"قحت". فـ"الكيزان" من جهتهم. يقولون إن عظم العدة والعتاد والشوكة التي يعرض بها "الدعم السريع" الآن في الساحتين السياسية والعسكرية هي ما تدجج به خلال قيام "قحت" بأمر الحكومة الانتقالية. ولم يفارقوا الصواب، ولكن، وبهذه المغايظة بين "قحت" و"الكيزان"، تضيع قضية الجيش المهني الذي يدير العنف في الدولة الحديثة بين الأرجل.
مخطئ من ينسب خمول ذكر حرب السودان كلية إلى غير تبطل صفوتنا دون الارتفاع إلى التحديات المنذرة للسودان. فإن أنذرت الحروب التي سبقتها بتفرق البلد فهذه الحرب قد تنذر بمحاقها. فمتى تزايلت الثقافة عمداً في الإحاطة بديناميكيتها بات الهرج وغابت عنا تضاريسها المعقدة التي تحتفظ، في قول فون كلوسويتز قبل قرنين، في الساعة الأشد حلكة، بشيء من بارق نور داخلي يضيء الطريق إلى الحقيقة. فإما الثقافة أو الفوضى.

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

حسم الجدل حول مشاركة الدعم السريع في تشكيل حكومة سودانية موازية

حسم مستشار قائد «قوات الدعم السريع»، إبراهيم مخير، الجدل حول موقفهم بشأن المشاورات التي تجريها بعض الأطراف السياسية والمدنية لتشكيل حكومة «موازية» في السودان، عاصمتها الخرطوم، مؤكداً أنها «ستجد كامل الدعم والحماية» منهم، في مقابل السلطة التي يتزعمها قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في مدينة بورتسودان شرق البلاد.

اقرأ ايضاًمجازر جديدة في قطاع غزة.. 20 شهيدا وعشرات الجرحى

وجرت مشاورات مطولة الأسابيع الماضية في العاصمة الكينية نيروبي بين قوى سياسية والجبهة الثورية وشخصيات من تحالف «تقدم» ومن خارجه، بحثت تشكيل «حكومة سلام» على الأرض داخل السودان، في المناطق التي تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في غرب السودان ووسطه.

وقال مخير في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «توصلنا إلى قناعة بالطرح المقدم من السياسيين المدنيين ونياتهم الحقيقية تجاه تحقيق السلام في البلاد». وأضاف أن «أهم الأسباب التي تدفعنا لدعم تكوين حكومة في البلاد، هو فشل كل المؤسسات القائمة في النظر إلى السودانيين كشعب واحد متساوٍ في المواطنة والحقوق والواجبات».

ترقب لإعلان الحكومة

ويسود جوّ من الترقب لإعلان الحكومة في الأيام المقبلة، بمشاركة بعض الفصائل من «تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية» (تقدم) التي ترفض بشدة هذه الخطوة، باعتبارها تكرس الانقسام في البلاد. كما تهدد الخطوة بحدوث انقسام في أكبر تحالف سياسي مناهض للحرب في البلاد.

وقال مستشار «حميدتي» إن «البلاد تمضي بشكل متسارع نحو التقسيم، في ظل الممارسات الانفصالية التي تنتهجها حكومة بورتسودان بإصدار عملة جديدة، وتنظيم امتحانات الشهادة الثانوية، وحرمان المواطنين في مناطق سيطرة (الدعم السريع) من هذه الحقوق». وأضاف: «أمام كل ذلك لا خيار أمامنا سوى دعم قيام حكومة شرعية قومية تمارس سلطاتها على أراضي البلاد كافة، والقيام بدورها في حماية المدنيين وتقديم العون لهم، فضلاً عن فتح الأبواب أمام كل الجهود الدولية والإقليمية التي تهدف لوقف الحرب وتحقيق السلام».


وفي وقت سابق هدد قائد «قوات الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو (حميدتي) بإعلان سلطة مستقلة في مناطق سيطرته، عاصمتها الخرطوم، حال أقدم قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، على تشكيل حكومة في مدينة بورتسودان شرق البلاد.

وجرت في العاصمة الكينية نيروبي خلال الأسابيع الماضية نقاشات مكثفة بين قوى سياسية والجبهة الثورية وشخصيات من تحالف «تقدم» ومن خارجه، بحثت نزع الشرعية من حكومة بورتسودان، وتشكيل حكومة على الأرض داخل السودان.

وأكد رئيس الجبهة الثورية، العضو السابق في «مجلس السيادة»، الهادي إدريس، في تصريحات الخميس الماضي، أن قرار تشكيل الحكومة لا رجعة فيه، مشدداً على أنهم لن يتخلوا عن تشكيل الحكومة إلّا إذا قرر طرفا الحرب الذهاب إلى المفاوضات لإنهاء القتال.

نزع الشرعية من بورتسودان

وقال إدريس، وهو نائب رئيس تحالف «تقدم» المدني الذي يرأسه عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني السابق، إن الهدف من تشكيل «حكومة مدنية موازية هو نزع الشرعية من الحكومة التي تتخذ من بورتسودان عاصمة مؤقتة، وقطع الطريق أمام خطط أنصار نظام الإسلاميين (النظام البائد بقيادة الرئيس المعزول عمر البشير) الرامية لتقسيم البلاد، وأيضاً لعدم ترك صوت السودان للجبهة الإسلامية لتتحدث باسمه، وأخيراً لإجبار الطرف الآخر (الجيش) على القبول بمفاوضات لوقف الحرب». وأشار إدريس في الوقت ذاته إلى تمسكه بوحدة الصف المدني.

اقرأ ايضاًإدانة عربية لـ" جريمة إسرائيل" بحرق مستشفى كمال عدوان

وترى المجموعة الداعية إلى تشكيل الحكومة الموازية أهمية التشاور مع «قوات الدعم السريع» حول الأمر، والاتفاق على ميثاق سياسي يكون مرجعية للحكم، متوقعة أن تجد هذه الخطوة اعترافاً من بعض الدول.

وشهد مؤتمر «تقدم» التأسيسي الذي عُقد في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في مايو (أيار) الماضي، تداول فكرة تشكيل حكومة موازية لحكومة بورتسودان التي يترأسها البرهان، لكن المقترح لم يحظَ بالقبول الكافي، ثم أعيد طرحه مجدداً في اجتماع الهيئة القيادية لـ«تقدم» في مدينة عنتيبي الأوغندية مطلع ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وأحيل إلى لجنة سياسية لمزيد من التشاور.

وترفض العديد من القوى السياسية في «تنسيقية تقدم» مثل حزب الأمة القومي، وحزب المؤتمر السوداني، ومكونات مدنية مهنية ونقابية، بشدة، فكرة تشكيل حكومة «موازية»، خوفاً من تكريس الانقسام في البلاد.
 

Via SyndiGate.info


Copyright � Saudi Research and Publishing Co. All rights reserved.

محرر البوابة

يتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة

الأحدثترند حسم الجدل حول مشاركة "الدعم السريع" في تشكيل حكومة سودانية موازية 7 طرق منزلية للتخلص من الرشح ونزلات البرد أدعية للفقراء من البرد الشديد  إدانة عربية لـ" جريمة إسرائيل" بحرق مستشفى كمال عدوان عدد ركعات صلاة الاستسقاء Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية اعمل معنا الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • بالفيديو .. الجيش السوداني ينفذ عملية عسكرية لـ”إنقاذ” 15 أسرة أستخدمتها الدعم السريع دروع بشرية ويقتل قائد كبير
  • الدعم السريع تطلق سراح معتقلين بشروط .. بالأسماء
  • حسم الجدل حول مشاركة الدعم السريع في تشكيل حكومة سودانية موازية
  • رغم إنها حربكم ربما تفصد السموم التي حقنتم بها الوطن!
  • سعد الدين حسن .. الكاتب الذي حادثه الوزير على تليفون المقهى
  • تلفزيون السودان يقحم الكنيسه فى الصراع بين الكيزان والدعم السريع
  • انا بتفق مع الاستاذ يوسف عزت كبير مستشارى الدعم السريع (سابقا؟) لانه علي حق
  • تقدم الجيش السوداني في دارفور هل يغير معادلات الحرب في السودان؟ ؟
  • اشتباكات عنيفة بين الجيش والدعم السريع بالخرطوم ودارفور
  • الحركة الشعبية والدعم السريع- رؤى متضاربة وصراع المصير