د. أسامة رسلان يكتب: الخطاب الإعلامي في زمن الحرب والسلم
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
تتناول هذه الأكتوبة -تناولاً جزئياً بطبيعة الحال- جانباً من جوانب النزاع الدائر بين الكيان الصهيونى المسمى «إسرائيل» والعرب؛ لا سيما أهل فلسطين. وهذا الجانب نادراً ما يحظى بالتنظير والتقعيد اللازمين وصولاً إلى اعتباره جهداً منظماً مأمولاً، وذلك على الرغم من أنه الجانب الأرجى وصولاً إلى الجمهور؛ ذلك بأن محتوى الأخبار والوسائط الإعلامية على اختلافها هى الأقدر على اجتياز الحدود ونطاقات البث ومحيط النزاع الفعلى.
ظهرت «حروب اللغة» فى عالمنا منذ أمد طويل، ومن أحد تجلياتها ما سُمى «حرب اللغات» (أو «ملحمة هسافوت» بالعبرية) فى عام ١٩١٣، وهى عبارة عن جدل حمى وطيسه فى فلسطين إبان تسلُّط الإدارة العثمانية عليها، أما موضوع الجدل فقد كان لغة التعليم فى المدارس اليهودية المستحدثة فيها (أى قبل قيام إسرائيل بعقود فى ١٩48)، وما اقترنت به تلك المساعى من حدث جلل تمثل فى إحياء موات اللغة العبرية. ففى عام ١٩١٣، كانت وكالة المساعدات الألمانية اليهودية (Hilfsverein der deutschen Juden) تدير مدارس للمهاجرين اليهود فى فلسطين منذ عام ١٩٠٥. وسعت الوكالة يومئذ إلى استخدام الألمانية بوصفها لغة التدريس والتعليم فى مدرستها الثانوية الفنية الأولى فى حيفا (أى مدرسة «تخنيكم» (Technikum))؛ فتسبب ذلك فى فورة وتنازع بين مناصرى استخدام الألمانية والحالمين بإحياء العبرية بوصفها اللغة التى ينبغى للشعب اليهودى النطق بها فى ما يراه «أرض الوطن»!
ليس سلاح اللغة بأدنى مما سواه تنكيلاً وإثخاناً متى وُظِّف لتلك الغاية؛ وهذا هو عين ما دعا أحد أشهر علماء ألسنية القانون على مستوى العالم، بيتر تيرزما، إلى إصدار كتاب كامل ضمّنه مباحث أكاديمية شتى بعنوان «جرائم اللغة» (Language Crimes) منذ إصداره الأول فى ١٩٩٣. تناول الكتاب (إساءة) استغلال ما يعرفه أهل الألسنية باسم «الأفعال الكلامية» فى مواقف تنطوى على الإغواء أو التآمر أو التشهير أو الحنث باليمين أو التهديد أو عرض الرشوة وما إلى ذلك من جرائم منبتها لغوى. غير أن هذا النموذج الأكاديمى يقتضى تطويراً بما يناسب دواعى المواجهة بين الكيان الصهيونى والعرب، وإن شئت فقل «العرب المخلصين للقضية» وكل حر صاحب ضمير فى عالم اليوم. ثمة «شقاق» لغوى لا تخطئه العين بين الاستخدامات اللغوية بين طرفى النزاع منذ بداياته، فما المطلوب إلا قائمة لسرد شواهد لفظية وعبارية على فجوات يتعذر رأبها بين الاختيارات اللغوية لطرفى النزاع بكل ما لها من دوافع سياسية ودينية وفكرية وتاريخية. وللقارئ الكريم أن يستدعى ما شاء من بواعث تفسيرية للأمثلة الآتى بيانها إثباتاً لبعض شواهد الشقاق المشار إليه. فمثلاً: منذ احتلال الصهاينة مدينة القدس فى ١٩٦٧ ظلت إدارة باحات المسجد الأقصى تحت هيمنة الاحتلال، والمثال هنا تحديداً عن الجدار القديم فى مدينة القدس القديمة الذى يشكل جزءاً من البناء المقام حول تل، أى «حائط البراق». وسبب التسمية فى العربية معروف، فى ما يسمى المكان نفسه «حائط المبكى» على ألسنة الصهاينة وفى الإعلام العالمى، وهذا الشقاق اللغوى محل تنافر وإصرار وتنازع بين طرفى الادعاء: الاحتلال وأصحاب الأرض.
ومن الأمثلة الأخرى الإصرار الصهيونى على التوسع فى بناء المستوطنات فى الأراضى المحتلة التى يرتجى لها أن تكون أرض الدولة الفلسطينية الوليدة فى الضفة الغربية وقطاع غزة (ظلت تلك المستوطنات فى غزة حتى ٢٠٠٥ إلى حين تنفيذ خطة «فك الارتباط»). هنا تحفظ كثير من اللسانيين العرب على استخدام كلمة «مستوطنات» لأن جذرها اللغوى العربى هو «وطن»، فكأننا نساعد الصهاينة على اتخاذ الأراضى الفلسطينية وطناً. فاقترحوا للكلمة بديلاً عربياً هو «مستعمرات»، لكن فئة أخرى نقمت هذا الاستخدام لأنه من الجذر اللغوى «عمَّر»، ومنه جاءت الأكذوبة الكبرى أن ما شهده العالم على مرور قرون كان «استعماراً»، أى طلباً للتعمير، لا للنهب والسرقة والقتل والتدمير وتأليب الشعوب والفئات والأفكار على بعضها بعضاً. وعلى ذلك، زاد جمهور الرافضين للمقترحين. فجاء مقترح ثالث هو تسمية تلك الكيانات المصطنعة «مغتصبات»، بجامع بشاعة الاغتصاب الذى يطال الأنثى والاغتصاب الذى يطال الأرض. ومع ذلك، فالغالب فى الخطاب الإعلامى العربى استخدام كلمة «مستوطنات».
القائمة تطول على تلك الشواهد، خصوصاً أن كثيراً من المناطق الداخلة فى نطاق فلسطين التاريخية قد عومل أهلها بالإبادة أو التشريد، وتاريخها بالطمس أو التلمدة (نسبة إلى التلمود)، مع استبدالها بكلمات ذات رمزيات صهيويهودية. ولا شك أن تلك التدابير الاحتلالية الإحلالية، والتدابير المستمسكة بالأرض فى مواجهتها، إنما تنم عن ذهنيات ذات تربّص ثقافى يراعى من الأمور دقيقها وجليلها، بما يعين على اتباع سردية تاريخية تنتظم كل مسالك الإحلال / المقاومة فى عقدها، بما فيها المسلك اللغوى. وعصرنا هذا أرجى وأجدى ما يكون فيه الانتشار اللغوى فى ظل الإلحاح البصرى السمعى على حواسّنا مجتمعة بفعل ثورة الوسائط والانفجار الإعلامى الذى لا يعرف حدوداً.
من المسلَّم به أننا نعيش عصر العولمة الطاغية فى كل شىء، وليست العولمة اللغوية ببعيد عن لسان أبسط الناس. والإلحاح بالأفكار والمسميات يزيد فى مساحة قبولها، أو على الأقل إلفها واعتيادها، ولذا أبدعت العامية المصرية: «الزن على الودان أمَرّ من السحر!»، ويدخل فى عداد ذلك الوصم الدائم للعرب وللمسلمين ولمرجعياتهم الفكرية فى وسائل الإعلام والخطاب العالمية، فصرنا نسمع على الدوام مصطلحات من قبيل «جهاديين» (وصماً لمفهوم الجهاد واجتزاءً له)، و«الإرهاب الإسلامى» لترسيخ هذا التلاصق بين مفهومين لا يلتقيان (الإرهاب والإسلام)، فضلاً عن وصم المسلمين بأنهم «جلادو نساء»، ووصم النبى الأكرم والعرب من ورائه بالشهوانية، وما إلى ذلك من أوجه الوصم التى من أحدثها سك مصطلح «الإرهاب الإسلامى السنى»! فى المقابل، تجد فكراً سقيماً مريضاً كالصهيونية يلقى كل تبجيل وتقدير وحماية على المستويات كافة، حتى تعالت الأصوات فى ظل هذا العدوان الغاشم على غزة باعتبار نقد السياسات الإسرائيلية أو المساس بالفكرة الصهيونية من قبيل «معاداة السامية» التى شرعت لحمايتها القوانين والتشريعات!
وترتيباً على ما سلف، لا بد من توسعة ميدان المعركة إلى ميادين أخرى استجابةً لما يحدث، فلهذا آثاره النفسية واللغوية والإعلامية المفيدة. ومن أساليب ذلك الإحالة إلى علوم الألسنية وحسن توظيفها من باب «العين بالعين». الحاصل الآن أن عواصف النقد والصراخ والإدانة والتحسر على الفظائع المرتكبة فى حق المستضعفين هى الطاغية على العقول؛ فالعاطفة (الواجبة المفهومة تماماً) مسيطرة على عقولنا. ومن المنظور العلمى: العاطفة تزيد فى إفراز الأدرينالين فى الجسم تحفيزاً لردة الفعل الآلية الفطرية فى الجسم، فمن أراد الرد العملى الموجع فليهدأ وليفكر بعقل بارد كما يقال. لذا فأحد أهداف ما يحدث هو إغراق الجميع فى موقف رد الفعل الملتحف بالعاطفة، لا فى موقف الفعل المهتدى بالعقل. وخروجاً من ضيق العاطفة الكسيحة إلى رحاب العقل الفسيحة، إليكم ما يلى.
كلمة genocide تعنى «الإبادة الجماعية»، وهى اتهام لا تكف أطراف شتى عن الترامى به منذ عقود، لكنه نادراً ما أفضى إلى المساءلة. أما من المنظور اللغوى، فهذه الكلمة منحوتة (والنحت اللغوى معناه ابتكار كلمة جديدة أو تعبير جديد أو استخدام كلمة أو تعبير موجود بالفعل استخداماً جديداً فى غير ما وُضع له). وهدياً بذلك، نحت المحامى البولندى رافايل ليمكن كلمة genocide فى عام ١٩٤٤ فى كتابه «دور دول المحور فى أوروبا المحتلة»، أى إن الكلمة التى أصبحت «جريمة الجرائم فى القانون الدولى» هى «ابنة أمس» كما يقال، ونحتها مفهوم من المنظور اللغوى كما يلى: نصفها الأول genos كلمة يونانية تعنى «قبيلة» أو «عرقاً بشرياً»، وأما نصفها الثانى cide فهو لاحقة لاتينية تعنى «القتل». ولما كانت الأحوال القائمة تقتضى وصماً مقابلاً (بالحق، لا بالباطل)، فالمقترح الجديد هو كلمة Ziocide: أى الإبادة الصهيونية (بمعنى: الإبادة الجماعية التى يرتكبها صهاينة). فالشق الأول من الكلمة مأخوذ من مصطلح Zionism (الصهيونية)، والثانى هو عينه اللاحقة الحرفية اللاتينية المذكورة آنفاً.
ومن أوجه الاستجابة اللغوية الأخرى لما يحدث فى غزة سك مصطلح Zioheid (بمعنى: العنصرية الصهيونية). والشق الأول من الكلمة سبق توضيحه، أما الشق الثانى من كلمة apartheid (بمعنى: الفصل العنصرى، خصوصاً كما شهدته جنوب أفريقيا). فهذه الكلمة مؤلفة من apart (بمعنى: «الفصل / التفرقة»، من اللغة الهولندية) ومن heid (بمعنى المصدرية). ومن هنا نسك هذا المصطلح الجديد دلالة على ما يقترفه الصهاينة من تفرقة عنصرية بغيضة ضد الفلسطينيين.
ثمة مثال آخر مبعثه هو التضليل الإعلامى الذى لا تكف عنه الآلة الصهيونية سواء أكانت تبث أو تكتب فى الكيان الصهيونى أم خارجه. وقد نظَّرَت علوم الاتصال (الإعلام) لمصطلحات تحليل الخطاب الإعلامى، حتى خرجت علينا بمصطلحات أحدها disinformation (بمعنى: التضليل الإعلامى، أى الكذب المحض فى المحتوى وفى العرض). ولأن الدعاية الصهيونية وداعميها جديرون بالوصم، فالمقترح وصمهم بمصطلح جديد هو Zio-information (بمعنى «التضليل الإعلامى الصهيونى»). أما ارتكان الصهاينة إلى الدعم الدولى اللا محدود سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً فهو دليل على «الطفيلية الصهيونية»، أو Zioparasitism، فالطفيلية تعنى فى عالم الحشرات والحيوان أن الكائن الطفيلى لا يعيش بمفرده، بل يحتاج إلى كائن ليعيش عليه أو معه. فالصهيونية كائن طفيلى على داعميه، وحق لنا وعلينا سك هذا المصطلح تدليلاً على تلك الحالة.
المقترحات الأخرى كثيرة وممكنة، والغاية ها هنا هى الوصم المستحق لمن وصمونا بغير حق، وإحياء مسار الاشتباك اللغوى كى لا يموت فى ظل الطغيان الإعلامى وعولمة الإعلام التى لا تكف عن الإلحاح عن حواسّنا. نزعة الاستقلال وسمو النفس على الضيم والذل هى مجموع ما نحيا له وبه وعليه، واللغة محور كل شىء وأساس التعبير عنه؛ وعلينا تطويع العلوم لنفعنا ولضر عدونا، واللغة سلاح ماضٍ فى هذا الصدد، لا سيما إذا أعملناه فى وجه العدو باللغات التى يفهم، وبالأساليب التى منها ينفر، وللأهداف التى منها يضج... فتحية لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف على هذا المنحى الجديد. لقد جاء ميلاد المرصد منذ عام ٢٠١٥ لعكس مسار التقليد واستشراف المستقبل بلغة العصر، فهو حرىّ بالتجديد فى كل موضع وكل قضية داخلة فى اختصاصه، والخطاب الإعلامى من تلك الاختصاصات، فهنيئاً للأزهر أن أقام المرصد شهاباً رَصَداً.
* مدرس ألسنية القانون، رئيس وحدة اللغة الإنجليزية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الحرب السلام الكيان الصهيونى
إقرأ أيضاً:
أحمد المسلماني في الطبعة الأولى: حصار ستالينجراد الفلسطـ ـيني
عرض الإعلامى أحمد المسلمانى تقريرا بعنوان، حصار ستالينجراد الفلسطيني، قائلا: “خلال الحرب العالمية الثانية كان مشهور جدا هذا الحصار، والأن حصار غزة”.
إسرائيل تدخل المرحلة الأكثر خطورة .. أحمد المسلماني يحلل المشهد مقترحات لإصلاح مجلس الأمن والأمم المتحدة.. أحمد المسلماني يوضحوأضاف الإعلامى أحمد المسلمانى، خلال برنامجه “الطبعة الأولي” المذاع عبر فضائية “الحياة”، أن الحصار الموجود فى غزة هو حصار داخلي على كل قرية ومستشفي ومنزل، إنما هناك حصار كبير تم فى منطقة جباليا وبيت لاهيا وبيت حنون فى أكتوبر عام 2024، فى منتهي القسوة ولا سابق له.
وتابع الإعلامى أحمد المسلمانى: “لدرجة أنه صباح يوم 6 أكتوبر 2024 أستشهد 600 فلسطيني على الفور، وبيت لاهيا الذى حدث بها الحصار يشبه ستالينجراد، يشبه الموت للجميع، إما جوعا أو بحرق الخيام”.