سأبقى ممتناً لصاحب عنوان المقال الذى أستشيره كثيراً، فأجد لديه ما ينفع رغم مفارقته لنا جسداً، الجميل الجميل نجيب محفوظ، فهذا العنوان لمن لا يعلم هو عنوان واحدة من رواياته الأثيرة.
وأعتقد بل أوقن أن عناوين وعبارات وكلمات الرجل ستظل تُستعار إلى الأبد وعياً بسحر يندر أن ينبت فى بلادنا مرة أخرى قريباً.
فالثرثرة نقيض الصمت، وهى تعكس حال مُجتمع ملتهب، مُستفز، ومتُخم بالمشكلات وموجوع بالأزمات غير أنها مجرد لغو لا تُقدم قيما أو تطرح حلولاً أو تُبشر بفرص يُمكن اغتنامها.
أتذكر مقالاً ساخراً كتبه الكاتب الكبير توفيق الحكيم فى أربعينيات القرن العشرين بعنوان: «أنا عدو المرأة وعدو الحياة البرلمانية لأن طبيعة كلاهما واحدة: الثرثرة»، وأتصور أن الثرثرة لم تعد حكراً على الحياة البرلمانية فى بلادى، وقطعاً لم تعد صفة لصيقة بالمرأة وحدها، وإنما هى عنوان عام شامل نراه فى كل موقع ومكان.
فى المؤتمرات والندوات العامة توصيات واحدة نسمعها منذ كنا صغارا يافعين ننظر للمستقبل بآمال واسعة وأحلام كبرى للتغيير ونشدان الأفضل. أنا ابن التسعينيات برتابتها وعنفها وأقر أن ما سمعته من حلول لمشاكلنا وأنا فى ربيع العمر، هو ذاته ما أسمعه وأنا أزحف نحو الشيخوخة.
الخطاب الدينى كما هو لم يتغير، لا فوق منابر المساجد، ولا تحتها، لا فى المناهج الدراسية، ولا فى الكُتب الفكرية. لا يوجد تجديد حقيقى، وكل مَن حاولوا التفكير بطريقة مختلفة وصموا بالمروق واتهموا بالزندقة.
فى السياسة كما كُنا نُعلى الاستقرار على كل شىء، ونهاب التعددية، ونتجنب حرية التعبير.
فى الإعلام يُمكن أن ننقطع شهراً كاملاً عن المتابعة ثُم نعود لنسمع الكلام ذاته ونتابع الأطروحات نفسها، والتعليقات الأزلية على الأحداث دون أن يمل أصحابها أو يحاولون التجديد والتغيير.
وحتى فى السوشيال ميديا، تقودنا تريندات سطحية لا نجد لكثير منها تبريراً موضوعياً، فتتحرك موجات الرأى العام تجاه الأشخاص والأحداث قطيعا خلف لا شىء.
وفى دوائر المثقفين ينشغل الجميع بعبثيات ممرورة لا تُغنى ولا تُشبع ويلتحف البعض باشتباكات جوفاء لا تُنتج فكرة واحدة تستحق التحرك لخدمة الإنسان.
كيف نتقدم ونحن نسير فى الطرق ذاتها، نكركر أنفاس الكلام، ونتجرع الأمثال القديمة، ونمضغ الشعارات تلو الشعارات؟
كيف نتغير ونحن نُثرثر أكثر مما نُفكر، نلعن ونسب ونُهدد وتمتد ألستنا أطول من سواعدنا؟
كيف تنصلح الأحوال ونحن نركز على اللقطة والصورة والمظهر، ونُمسرح كل شىء: الحداثة، الديمقراطية، التنمية، والعدالة؟
فى بلاد العم سام يتحدث النبهاء عن كتاب جديد يُغير العقول ويرسم المسارات ويطرح السياسات الجديدة التى ستصيغ تطور الإنسان فى القرن الواحد والعشرين. كتاب بسيط، مُركز، ولكنه عميق كتبه عبقرى أمريكى من أصل عربى بعنوان «الموجة الجديدة»، ومؤلفه شاب اسمه مصطفى سليمان وهو أفضل كوادر الذكاء الاصطناعى فى العالم، وهو يُبشرنا بأن كل شىء حولنا سيتغير تماما خلال ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر.
لا الأعمال ستبقى كما هى، ولا الأنشطة، ولا السلوكيات، ولا سياسات الدول، ولا أفكار الإصلاح. وللأسف الشديد ما زلنا نثرثر.
والله أعلم.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الجميل الجميل نجيب محفوظ
إقرأ أيضاً: