لجريدة عمان:
2024-11-09@02:16:24 GMT

التبعية.. أقنعة تسقطها الأزمات

تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT

ينطلق مفهوم «التابع والمتبوع» من العلاقة القائمة بين أي طرفين؛ - سواء على مستوى الفرد؛ أو على مستوى المجموعة - أحدهما يملك من معززات القوة ما تجعله يفرض شروطا قاسية على الذي يود التعامل معه، وهو تعامل قائم على بسط الهيمنة والقوة والتعالي؛ وإلا فكيف يكون متبوعا؟ وأما الطرف الثاني «التابع» فهو الطرف الضعيف في هذه المعادلة، يتلقى أوامر ونواهي الطرف الأول، ويمتثل له في كل صغيرة وكبيرة؛ اقتنع بذلك أو لم يقتنع، والصورة في مجملها قائمة منذ الأزل، ومعاشة في كل عصر، وبالتالي فهي ليست علاقة جدلية سفسطائية، وإنما نعيشها واقعا حقيقيا كسطوع الشمس في وسط النهار، بمعنى أن العلاقة بين التابع والمتبوع أمرا حتميا لا جدال فيه، وتزهر كثيرا في المناخات الاجتماعية المباشرة، وإن غلفت بشيء من الود الظاهر، إلا أنها تحتاج إلى كثير من الحيطة والحذر؛ حتى في مناخها الاجتماعي، وهذه العلاقة وفق هذا المفهوم (التابع/ المتبوع) تناسلت إلى علاقات تشابكية كثيرة (تبعية اجتماعية؛ تبعية سياسية؛ تبعية اقتصادية؛ تبعية فكرية؛ تبعية دينية؛ تبعية وجدانية؛ تبعية مهنية.

..) وهذا شأن من شؤون الحياة اليومية المتجددة فلا تثير كثيرا من الانتباه «صور نمطية» فالحياة لن تقف عند حد معين من مستوياتها، فهي ولادة للأفكار، وللمناهج، وتعطي المساحة الممتدة لكل من يريد أن يكون له موضع قدم فيها، فهي ليست حكرا على أحد دون آخر، إلا إن أحجم الإنسان نفسه عن عدم رغبته في إضافة قيمة أخرى لحياته التي يعيشها، وهذا الأمر يظل خارج سياق الحياة الطبيعية، ولذلك ترسخ مفهوم التبعية كأحد المحاور المهمة في حياة الناس، فاستوعبوها بمراراتها في بعض المواقف، وبجمالها في مواقف أخرى، إلا أنها تظل تثير الشبهات والشكوك عن حقائق العلاقات عندما تتموضع عند صورة (التابع/ المتبوع) في كل العلاقات بلا استثناء، لأنها تخرج عن المقبول، وهو وجود علاقات تكافئية، وهذه أقرب إلى الفطرة منها إلى عناوين كثيرة يمكن أن تعلق على مختلف العلاقات، فالعلاقات التكافئية قائمة على الاحترام المتبادل، وعلى الأخذ والرد «الحوار» وعلى القبول والرفض «الحرية» وعلى الفعل ورد الفعل «العدالة» وعلى تبادل المنافع «التكامل» وبالتالي فأي علاقة تخرج عن هذه النتائج ستدور حولها الكثير من علامات الاستفهام.

الشائع أكثر - في الفهم السياسي؛ خاصة - أن مفهوم التبعية قائم على وجود دول قوية استعمارية؛ ودول ضعيفة مستعمرة ولو بصورة غير مباشرة، حيث تحرص الأولى على أن تكون الثانية تحت إمرتها، في كل صغيرة وكبيرة؛ ليس لها قرار الرفض أو المفاضلة بين أمرين، وتأتي هذه الهيمنة على أثر مجموعة من الهبات «المبطنة» بالديون، والعطاءات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فقط لسد ثغرة الحاجة في أوقات الذروة، والأحداث الجسيمة، التي تجد فيها الدول الضعيفة أنها بحاجة إلى المساعدات لتجاوز محنتها الوقتية، فإذا بهذه المساعدات تصبح دينا مؤرقا، حيث تراكم من مسألة التبعية، وتزيد في عمرها الزمني والمادي، فلا تجد الدول الضعيفة نفسها إلا وهي غارقة أكثر وأكثر، وتحتاج إلى معجزة غير عادية لتنتشلها من غرقها، بالإضافة إلى حرص الدول المهيمنة على الغسل المتعمد لأدمغة القائمين على الدول التابعة، وذلك من خلال خلق أعداء وهميين عليها، وأن لا منجاة من هؤلاء الأعداء المتربصين إلا بوجود هذا المارد «المتبوع» وذلك حتى تظل المصلحة قائمة في استحلاب الدول الضعيفة، وجعلها راكعة خانعة على طول خط السير الأفقي لهذه العلاقة القائمة بين الطرفين، والسؤال: هل يستطيع من هو تابع اليوم أن ينتفض من ضعفه، ويعلنها: «لا تبعية بعد اليوم»؟ أجزم أن ذلك في مقدور كل دولة «في حكم التابع» ولكن عليها أولا: أن تهيئ الأرضية الآمنة في التصالح مع شعبها، فالشعوب هي القوة الحقيقية للأنظمة السياسية، وليست علاقاتها بالدول الكبيرة، ومتى تحقق هذا الأمر وأتيحت له الفرصة الكاملة للتعبير عن حقيقته، فإنه بإمكان أية دولة أن تقول لما كان «متبوعا» من هنا تبدأ نقطة البداية، حيث لحظة ميلاد للعلاقات التكافئية، وفق الأنظمة والقوانين، والاحترام المتبادل بين الطرفين.

ينظر إلى البعد الاقتصادي على أنه محور مهم، ويلعب دورا كبيرا في مسألة التبعية، وفي هذا السياق لا تكون التبعية عمياء، بقدر ما هي مؤسسة على تدرج «ماكر» يبدأ بوسائل في ظاهرها التعاون والتكامل الاقتصادي، وفي مضمونها لف حبل الخناق على الأنظمة السياسية، وعدم قدرتها على استقلالها المالي المطلق، حيث تكبل بالديون شيئا فشيئا تحت عناوين كثيرة عبر برامج تنمية، يتم من خلالها استنزاف الثروات والأموال بصورة غير رشيدة وبلا مقابل متكافئ مع حجم الإنفاق، حتى يجد النظام السياسي نفسه أمام معضلة دين غير قادر على سداده في فترة محدودة من الزمن؛ وفق ما هو متفق عليه؛ فتبدأ مرحلة جديدة من المساومة على الأصول الوطنية، إما باستئجارها بصورة غير عادلة، ولمصلحة المتبوع، وإما بشرائها واستثمارها عبر اتفاقيات تستمر عشرات من السنوات، حيث يتم إغراق النظام السياسي بهذه الديون، ويكبل بمزيد من القيود، ومع مرور الأيام والسنون تورث هذه الديون للأجيال القادمة من الأنظمة الراحلة، وهناك من يستفيق، فيعيد ترتيب الحسابات من جديد، وقد يواجه بالكثير من العراقيل، ولكن كما قلت أن التصالح مع الشعوب هو المنقذ في كل مراحل التاريخ.

السؤال المهم أيضا في مناقشة موضوع التبعية: هل تعاني الطاعة من خلل بنيوي يفضي إلى التبعية المطلقة، وهل الخلل البنيوي ناتج عن خلل في تأصيل تطبيق المفهوم الثقافي، أو الاجتماعي «القيم» أم أن الفطرة ذاتها هي من تكون بين زواياها شيئا من مفهوم التبعية؟ عند العودة إلى نصوص القرآن الكريم نجد الكثير الكثير مما يمكن أن يعد من الآيات التي تطرقت إلى موضوع التبعية، في مناخيها الإيجابي والسلبي، سواء في علاقة العبد بخالقه، أو في مختلف العلاقات القائمة بين الناس فيما بينهم، ومن ذلك قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا..) و(قالوا ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا...) و(يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)، ومن الأحاديث النبوية الكريمة: عن أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَن؟» - رواه الشيخان - حسب المصدر. فهذه الأدلة ليست مقصودة لذاتها في هذه المناقشة، وإنما للتدليل على أن التبعية تذهب إلى مفهوم الممارسات الفطرية؛ في الأساس؛ ويدخل فيها القصد، والعزم وعندما تخرج عن ممارستها الفطرية المعهودة إلى ما سوف يتحصل من خلالها على نتائج مقصودة حرص على تحقيقها المتبوع، والمتبوع في هذه الحالة لا ينطلق من ممارسة فطرية، ويتقبل أي نتائج للتبعية أو الطاعة، وإنما يحرص على أن تكون عبر ممارسات ميكانيكية تتخللها الخطط والبرامج، والدسائس، واقتناص الفرص، وهنا يجب أن يظهر مستوى الوعي في التقليل من توغل التبعية في مجالات الحياة المختلفة، وألا تكون ممارسات التبعية تسليما مطلقا لكل شيء ولأي شيء، فالضرورة والواقع تستلزم أن يعيش الإنسان حرا، لا تابعا؛ فالإنسان ولد حرا بالفطرة، فكيف يرضى أن تسلب حريته ليعيش تابعا؟ تبقى الملاحظة الأخيرة والمهمة أيضا في سياق هذه المناقشة، أن من المهمات الأصيلة للأزمات هي التعرية لكل ما هو محاط بستائر المكر والخديعة، والكذب والافتراءات، فتبقي الوجه الناصع المعبر عن حقيقة الأشياء، فجميع تداعيات هذه الأشياء تظهر على السطح مع اشتداد المحن والأزمات، وأن مجموعة الصور الاحتفالية والمروج لها في المسافة الفاصلة بين التابع والمتبوع ما هي إلا مجسمات كاذبة أوهن من بيت العنكبوت، والسبب أن ليس هناك من يتحمل العبء عن غيره، فكل مرتهن بمصيبته، فهل يعي العقلاء ما هم فيه «الواقع» وما هم عليه «المستقبل»؟

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على أن

إقرأ أيضاً:

أبو فاعور عن رحيل الطبيب الرسولي أنطوان اسطفان: خسارة كبيرة في زمن الأزمات

 أشار عضو كتلة "اللقاء الديموقراطي" النائب وائل أبو فاعور إلى أنه "في زمن الخسائر الكبرى من شهداء ونازحين ومفقودين، يرحل البروفيسور أنطوان اسطفان، وهو الطبيب الرسولي الذي تشرفت بالعمل معه لأجل تعميم ومأسسة ثقافة وهب الأعضاء ومساعدة المرضى، وهو الأب الروحي للبرنامج الوطني لوهب الأعضاء".

أضاف:" الرحمة لروحه الرسولية والتعزية لعائلته ومحبيه".

مقالات مشابهة

  • عائشة بن أحمد آخر المنضمين إلى أحمد مكي في رمضان 2025
  • أوقاف القليوبية تطلق قافلة دعوية داخل 4 مساجد كبرى
  • الاستثمار لمواجهة الأزمات في المؤسَّسات
  • أحمد بن محمد يفتتح “مركز صون للرعاية والتأهيل” التابع لهيئة تنمية المجتمع في دبي
  • تقرير جديد يكشف تفاصيل مثيرة عن التنظيم السري للميليشيات وخفايا جهاز الأمن والمخابرات التابع لها - أسماء وأدوار 12 قياديا
  • شراكة بين مركز الذكاء الاصطناعي التابع لـ «دبي للسلع» و«آي بي إم للاستشارات»
  • المغرب يرحب بتبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للقرار 2756 بشأن الصحراء المغربية
  • محافظ الأحساء يدشّن مكتب خدمات الهجر الجنوبية التابع لبلدية الهفوف بمركز مريطبة
  • أبو فاعور عن رحيل الطبيب الرسولي أنطوان اسطفان: خسارة كبيرة في زمن الأزمات
  • رئيس إستونيا: مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بحاجة إلى إصلاح