لجريدة عمان:
2024-11-25@10:34:24 GMT

حل الدولتين والاقتصادين

تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT

يرى بعض الناس أن الحرب الدموية التي تدور رحاها في غزة ربما حطمت الإجماع الذي دام 35 عامًا على أن الحل الوحيد الممكن للمصاعب التي تحيط بالمنطقة يتلخص في إقامة دولتين، «فلسطين وإسرائيل» تعيشان بسلام جنبا إلى جنب. بيد أن آخرين يرون أن الفظائع التي شهدناها منذ السابع من أكتوبر قد تبشر بإحياء ذلك الهدف على وجه التحديد.

في تصريحات أخيرة، أَكَّـد مسؤولون أمريكيون وفلسطينيون وعرب أن حل الدولتين لابد أن يخرج من أنقاض هذه الحرب كما ينبعث طائر العنقاء من تحت الرماد. لا يملك العقلاء في كل مكان إلا الأمل في أن يظل هذا الحل كفيلا بتوفير الإطار المناسب لوضع حد بات نهائيا ومتفقا عليه من الطرفين لصراع دام قرنا من الزمن. الواقع أن توقيت هذا الاهتمام المتجدد لا يخلو من مفارقة ساخرة. ففي شهر نوفمبر، يحتفل الفلسطينيون بذكرى «إعلان الاستقلال» من جانب منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1988، الذي صدر في المنفى من الجزائر في أوج الانتفاضة الأولى. وقد قبلت الفصائل الفلسطينية كافة بتقسيم فلسطين ووجود إسرائيل بحكم الأمر الواقع ضمن حدودها قبل عام 1967.

بإصدار هذا الإعلان الخارق للعادة، حددت منظمة التحرير الفلسطينية رسميا شرطا رئيسا واحدا للسلام: تحرير المساحة التي تبلغ 22% من أرض فلسطين، والتي تتألف من الضفة الغربية المحتلة (بما في ذلك القدس الشرقية)، وقطاع غزة، من كل المستوطنين الإسرائيليين. خلافا لذلك، من غير الممكن أبدا أن تكون هذه المنطقة صالحة كمساحة تقوم عليها دولة مستقلة ذات سيادة تتمتع بمواردها الطبيعية وحدودها المعترف بها. بعد إعلان الجزائر مباشرة، بدأ خبراء الاقتصاد الفلسطينيون يتصدون للعواقب الاقتصادية المترتبة على صيغة الدولتين. في عام 1990، خلصت دراسة شاملة أجرتها منظمة التحرير الفلسطينية إلى أن دولة فلسطينية متصلة على الضفة الغربية وغزة، وعاصمتها القدس الشرقية، قد تكون قابلة للحياة اقتصاديا بالفعل. ولكن نظرا لضعف قاعدة الموارد، ومساحة الأرض الضئيلة، والتحديات المتوقعة المتمثلة في استيعاب اللاجئين والعائدين الفلسطينيين، فإن القدرة على البقاء كانت تعتمد في المقام الأول على انسحاب إسرائيل عسكريا وإخلاء وتفكيك المستوطنات. من دون انسحاب إسرائيل على هذا النحو، يصبح من غير الممكن ضمان التنمية الاقتصادية؛ لأن أي مستثمر لن يثق في السيادة الفلسطينية.

كانت اتفاقيات أوسلو في عام 1993، والتي قبلتها منظمة التحرير الفلسطينية، قاصرة عن تلبية هذا الشرط. لكنها بدلا من ذلك منحت السلطة الفلسطينية الحكم الذاتي المدني إلى حد كبير وسط الاستيطان الإسرائيلي المستمر، الأمر الذي دفع التخطيط الاقتصادي قسرا إلى مجال لم يكن معروفا حتى ذلك الوقت والذي يتمثل في «بناء دولة دون سيادة».

على مدار السنوات الخمس اللاحقة، كان المفترض أن تتوصل المفاوضات الانتقالية إلى اتفاق «الوضع الدائم» بشأن كل القضايا الخلافية؛ وكادت هذه النتيجة تتحقق في كامب ديفيد عام 2000.

لكن المفاوضات فشلت في نهاية المطاف، فأفضى ذلك إلى اندلاع الانتفاضة الثانية التي دامت من عام 2000 إلى عام 2005، والتي سرعان ما تحولت إلى العنف، وانتهت إلى رد عسكري إسرائيلي ساحق. وبدا حل الدولتين أبعد منالًا، وتقلصت صلاحيات السلطة الفلسطينية التي كانت محدودة بالفعل. لم يتسبب الانقسام بين فتح وحماس (الضفة الغربية وغزة) منذ عام 2006 في خلق الشقاق السياسي فحسب، بل أدى أيضا إلى نشوء تشوهات اقتصادية أعظم ومجموعة من التبعيات للاقتصاد الإسرائيلي المهيمن، والذي كان في ذلك الحين يشهد طفرة ازدهار طويلة الأمد.

على مدار السنوات العشرين الأخيرة، كرس خبراء الاقتصاد الفلسطينيون (وأنا منهم) قدرا كبيرا من الوقت والجهد للتخطيط من أجل «اقتصاد وطني» فلسطيني في إطار حل الدولتين. ولكن عندما نزعم أن بناء اقتصاد فلسطيني متماسك ومستقل ومُـنتِـج يظل في حكم الممكن حتى في ظل الاحتلال أو الحصار، فإننا بهذا نتخلى ضمنيا عن مبدأ منظمة التحرير الفلسطينية السابق بأن التنمية مستحيلة في غياب السيادة.

الآن، بات الإرث الاقتصادي الذي خلفته اتفاقيات أوسلو واضحا. إذ تهيمن إسرائيل على الاقتصاد الكلي الفلسطيني، من الـعُـملة والإيرادات الضريبية، وقنوات التجارة، وأسواق العمل إلى القدرة على الوصول إلى الطاقة والموارد الطبيعية، وكل ما عدا ذلك من مقومات الجدوى الاقتصادية ــ وبطبيعة الحال يمكنها أن تتلاعب بكل ما سبق. وعلى هذا فلم يعد من المعقول أن نزعم أن دولة فلسطينية مستقلة من الممكن أن تنشأ وسط أرخبيل من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتضييق الخناق البيئي الديموغرافي الذي تخضع له القدس الشرقية، والآن تدمير غزة والكارثة الإنسانية التي يعيشها 2.2 مليون مدني. الواقع أن حتى أكثر أهل الاقتصاد شاعرية وإفراطا في التفاؤل سيشعرون بالعجز إزاء حجم ومدى تعقيد جهود إعادة البناء التي تفرضها هذه الحرب.

ما يزيد الطين بلة أن إحدى النتائج غير المباشرة للحرب تتمثل في انهيار الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. قبل فترة طويلة من السابع من أكتوبر، كانت التنمية الاقتصادية الفلسطينية تحولت إلى أضغاث أحلام، وخاصة مع صعود حكومة إسرائيلية عازمة كل العزم على الالتزام بأجندة القوميين المتدينين والمستوطنين المسيانيين. لقد دفعوا ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية إلى حافة الانهيار منذ بدأت الحرب، ودعوا صراحة إلى إخضاعهم بالقوة أو تهجيرهم. كما أَكَّـدَ الحكماء (مجموعة مستقلة من القادة العالميين) في رسالة مفتوحة مؤخرا، فإن المجتمع الدولي يتعين عليه أن يسارع إلى التحرك إذا كان راغبا في تحويل كارثة اليوم إلى فرصة أخيرة لتحقيق نتيجة إقامة الدولتين ــ أو فرضها إذا لزم الأمر. بطبيعة الحال، يرى كثيرون من الإسرائيليين الذين يحتلون مقاعد السلطة حاليا أن مثل هذه الفكرة قاتلة. ولكن بما أن التطرف داخل الائتلاف الإسرائيلي الحاكم حاليا لا يمكن تجاهله، فلابد من احتوائه، وخاصة من قِـبَـل الإسرائيليين من مُـحبي السلام وحلفائهم الأمريكيين. حتى في هذه الساعة الحالكة، ربما لا تزال الفرصة قائمة للتوصل إلى اتفاق «حقيقي» يستند إلى حل الدولتين؛ لأننا نعلم بالفعل ماذا يجب أن يتضمن.

لا تزال المتطلبات الأصلية التي حددتها منظمة التحرير الفلسطينية لضمان القدرة على البقاء اقتصاديا صالحة حتى يومنا هذا كما كانت قبل 35 عامًا؛ لأنها تمثل الأساس المادي الوحيد للتوصل إلى حل سياسي دائم وقابل للتطبيق.

لعقود من الزمن، ظل خبراء الاقتصاد والتخطيط الفلسطينيون عاكفين على إعداد الأسس الاقتصادية لقيام دولة فلسطين ذات السيادة. وقد واصلنا السعي وراء هذا الهدف على الرغم من انحسار آفاقه أمام نواظرنا. ولكن بعد معاينة الهوة السحيقة التي جرتهم إليها هذه الحرب، فهل لا يزال عدد كاف من الإسرائيليين والفلسطينيين يملكون من الشجاعة والبصيرة السياسية القدر الذي يدفعهم إلى اختيار السلام بدلا من المزيد من العنف؟.

رجا الخالدي المدير العام لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).

خدمة بروجيكت سنديكيت

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: منظمة التحریر الفلسطینیة الضفة الغربیة القدس الشرقیة حل الدولتین

إقرأ أيضاً:

رئيس المركزي للإحصاء: مسح سوق العمل التتبعي خطوة نحو تحسين السياسات الاقتصادية

في حدث مهم يعكس التطور الكبير في العمل الإحصائي بمصر، أُطلق في الفترة من 24-25 نوفمبر 2024، بيانات مسح سوق العمل التتبعي لعام 2023 في حفل شهد حضور عدد من الشخصيات البارزة. 

الحفل تم تنظيمه تحت رعاية الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، إلى جانب الدكتور علي عباس، رئيس جهاز الإحصاء في السودان، والدكتور إبراهيم البدوي، المدير التنفيذي لمنتدى البحوث الاقتصادية.

وفي كلمته الافتتاحية، عبر اللواء خيرت بركات رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن امتنانه للحضور، مثمناً التعاون المشترك بين وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، منتدى البحوث الاقتصادية، والجهاز في إطلاق هذا المسح الذي يعد الأول من نوعه في مصر. وأكد أن نتائج هذا المسح جاءت في وقت حرج تشهد فيه البلاد تحولاً رقميًا واسعًا، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على سوق العمل ومتطلباته.

وأشار رئيس الجهاز إلى أن المسح يبرز العلاقة الوثيقة بين النمو الاقتصادي والتشغيل، حيث يؤكد على أهمية النمو المرتفع في توفير فرص العمل وتقليل البطالة، كما أضاف أن نتائج المسح ستسهم في تطوير سياسات سوق العمل بما يتناسب مع التحديات الجديدة التي فرضتها الجائحة العالمية وحرب أوكرانيا، مما يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد المصري وسوق العمل.

تحليل مستفيض للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية

وأشار رئيس الجهاز إلى أن هذا المسح يركز على دراسة مجموعة من العوامل الحيوية التي تؤثر على سوق العمل، مثل الخصائص الديموغرافية، العمالة، والبطالة، ويعكف المسح أيضًا على دراسة المشاريع الأسرية وتأثير القطاع غير الرسمي على الاقتصاد المصري، وهو قطاع يساهم بشكل كبير في الدورة الاقتصادية ولكن يفتقر غالبًا إلى البيانات التفصيلية. 

ويُعد هذا المسح من المسوح الوحيدة التي تتابع نفس الأسر على مدار الزمن، مما يوفر رؤى معمقة حول التنقلات في سوق العمل، الهجرة، وديناميكيات الزواج.

وتم التطرق في هذا المسح، الذي يُعد النسخة الخامسة من سلسلة مسوح سوق العمل، إلى تأثير التغيرات الاقتصادية على الفئات المختلفة، خاصة النساء في سوق العمل، وهو جانب حيوي يستدعي الاهتمام في ضوء التحديات المتزايدة.

تضمن المسح هذا العام أسئلة جديدة حول "الوظائف الخضراء" و"العمل عبر المنصات الإلكترونية"، وهي مجالات بدأت تأخذ حيزًا متزايدًا في ظل التحولات العالمية نحو الاستدامة والتحول الرقمي، كما أظهرت نتائج المسح تحسنًا ملحوظًا في سوق العمل المصري خلال السنوات الأخيرة، حيث شهدت مصر انخفاضًا في معدلات البطالة وارتفاعًا في معدلات التشغيل، مما يعكس تحسنًا في بيئة الأعمال.

وأشار رئيس الجهاز أيضًا إلى التعاون الوثيق مع منتدى البحوث الاقتصادية، الذي قام بإجراء تحليلات شاملة للبيانات الجديدة، والتي تشمل تطور عدم المساواة في الدخل، فجوة الأجور بين الجنسين، وأنماط الهجرة، إضافة إلى دور المرأة في رعاية الأسرة. هذه الدراسات ستحلل التغيرات التي طرأت على الاقتصاد المصري منذ عام 2018، بما يعزز قدرة الحكومة على صياغة سياسات عمل قائمة على البيانات الدقيقة.

دور الجهاز المركزي في تعزيز التنمية الوطنية

في ختام كلمته، أكد رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء على الدور الحيوي للجهاز في توفير البيانات الإحصائية الدقيقة التي تسهم في صنع قرارات استراتيجية تسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. 

وأضاف أن المسح يقدم رؤى شاملة تمكّن الحكومة وصناع السياسات من تقييم الوضع الحالي لسوق العمل واتخاذ القرارات اللازمة لتوجيه السياسات بما يتماشى مع احتياجات المجتمع.

كما توجه رئيس الجهاز بالشكر إلى جميع الشركاء في هذا المشروع، سواء وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، أو منتدى البحوث الاقتصادية، وفريق العمل في الجهاز، معربًا عن أمله في أن تساهم نتائج هذا المسح في تحسين استراتيجيات العمل والتنمية في مصر بما يتناسب مع المتغيرات المحلية والدولية.

ختامًا، يبقى أن مسح سوق العمل التتبعي لعام 2023 يُعد أداة حيوية في توجيه سياسات سوق العمل المصري نحو مزيد من التطور والنجاح، ويشكل خطوة هامة نحو تعزيز قدرة الاقتصاد المصري على مواجهة التحديات المستقبلية.

مقالات مشابهة

  • رئيس وكالة التعاون الكورية: مصر تمكنت من التغلب على التحديات الاقتصادية
  • المجلس الرئاسي يناقش الأوضاع الاقتصادية وتداعيات انهيار العملة
  • مجلس القيادة الرئاسي يناقش تطورات الأزمة الاقتصادية ويراجع قراراته السابقة
  • ميار الببلاوي تحتفي بحكم المحكمة الاقتصادية في نزاعها مع الشيخ محمد أبو بكر
  • رئيس المركزي للإحصاء: مسح سوق العمل التتبعي خطوة نحو تحسين السياسات الاقتصادية
  • برلماني: توجيهات القيادة السياسية بتحسين مناخ الاستثمار تُبلور خارطة مصر الاقتصادية للمستقبل
  • التخطيط: التعداد يحدد الخصائص الاقتصادية والاجتماعية لكل فرد عراقي
  • السيسي يوجه بمواصلة تحسين مناخ الاستثمار ومعالجة التحديات الهيكلية التي تؤثر على الاقتصاد المصري
  • موراليس : الولايات المتحدة فقدت قوتها الاقتصادية
  • اليابان تعتمد 250 مليار دولار لمواجهة التحديات الاقتصادية