ما بعد حرب غزة: مخاطر الردع وفرص السلام
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
ترجمة : أحمد شافعي -
يركز صناع السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط، محقين في تركيزهم، على الوجهة التي تمضي إليها أزمة غزة الراهنة. فقد أدت الأزمة الإنسانية المخيمة على المنطقة منذ هجمات حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر إلى فقدان عدد لا حصر له من الأرواح، وتمثل في الوقت الحالي تهديدا للأمن الإقليمي والعالمي.
لكن على صناع السياسات أن يفكروا في ما هو أبعد من ذلك نفسه، أي في حقيقة أن الشرق الأوسط سوف يكون من أوجه كثيرة منطقة مختلفة عندما يهدأ القتال في غزة. وثمة مسألتان مهمتان سوف تحددان هل ستكون المنطقة أكثر أم أقل أمنا من ذي قبل، وهما: كيفية إحياء الردع ومن ثم الحفاظ على الاستقرار بين لاعبي المنطقة الأساسيين، وما يمكن عمله بالتقدم الذي كان قد تحقق قبل السابع من أكتوبر على طريق التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإيران، وبين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. وتتصل هاتان المسألتان، من أوجه كثيرة، اتصالا وثيقا، فالردع الذي يتحقق من خلال التعزيزات العسكرية الكافية للتقليل من خطة العدو واتفاقيات التطبيع الناشئة من خلال الدبلوماسية تضيف طبقة طمأنينة سياسية يعجز عن توفيرها الردع العسكري المحض.
خطر الردع الفاشل
من الممكن أن يؤدي التسابق على إعادة تأسيس الردع في ما بعد حرب غزة إلى تهديد خطير لاستقرار المنطقة. قبل هجمات حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، كان قد استقر توازن متقلقل في الشرق الأوسط. وكان الاعتقاد هو أن هناك شبكة ردع تحافظ على بقاء العداوات المباشرة بين الدول بل والفاعلين من غير الدول عند حدها الأدنى، وعلى أن يدور الصراع ـ بدلا من ذلك ـ بشكل غير مباشر من خلال حروب بالوكالة داخل دول جريحة هي سوريا واليمن والعراق. وقد قدَّر القادة الإسرائيليون أن القوة العسكرية الطاغية ردعت حزب الله برغم ترسانته الهائلة من الصواريخ الموجهة إلى مدن إسرائيلية كبرى. واعتقد حزب الله أن إسرائيل بالمثل ترتدع بشبح هذه الصواريخ وخطر نشوب حرب حدودية.
تعلمت إسرائيل أيضا أن تتقبل الأخطار التي تمثلها حماس اعتقادا بأن القيادة في غزة لا تريد حربا شاملة. واعتقدت العاصمة الإسرائيلية أيضا أن ترسانتها النووية وتفوقها العسكري يمثلان ردعا لطهران، وظنت إيران أن شبكتها من المقاتلين المنتشرين في المنطقة كفيلة بإثناء الولايات المتحدة وإيران عن الهجوم. وبينما علم القادة في هذه الحالات جميعا أن أعداءهم قادرون على إلحاق أذى جسيم بهم، فقد اعتقدوا أن الردع يثبطهم عن استعمال تلك المقدرة.
وكانت هجمات السابع من أكتوبر بمثابة انهيار للردع بالنسبة لإسرائيل وربما ما هو أبعد. وعندما يتوقف القتال، سوف يكافح جميع الأطراف من أجل تعديل عقائدهم الأمنية، وإعادة تأسيس الردع، والتواصل حول وضع خطوط حمراء للأصدقاء والخصوم. وما لم يتحقق توازن ردع جديد، سوف يبقى خطر نشوب صراع إقليمي كبيرا.
ويزداد الخطر زيادة فائقة في حالة إسرائيل وإيران، في ضوء علاقات طهران بحماس. وبحسب درجة نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها في غزة، فإنها سوف تجد دوافع لمضاعفة جهودها لتحصين الردع في مواجهة إيران وحزب الله. بعد فشل إسرائيل المدوي في الكشف عن نوايا حماس أو تفسيرها قبل السابع من أكتوبر، يكمن الخطر في أن يعتقد قادة إسرائيل أنه لا يمكن ضمان الردع في مواجهة حزب الله دونما إنزال أضرار عقابية على أصول الجماعة في لبنان. ويصح هذا بصفة خاصة في حال استمرار المناوشات على الحدود اللبنانية مما اندلع عقب السابع من أكتوبر. وفي حال اعتقاد حزب الله أن إسرائيل تعتزم في ما بعد غزة أن تدير آلتها العسكرية عليه، فثمة أيضا خطر القيام بأفعال وقائية من جانبه.
يكمن الخطر في أن كلا الطرفين يعتقد أن الوقاية أقل خطرا من ضبط النفس. وقد تكون المخاوف من ازدياد عدوانية إسرائيل بسبب الغضب والرغبة في الثأر حافزا إضافيا لمضي إيران في سباق تصنيع سلاح نووي. وأيضا يمكن أن تدخل السياسات الداخلية في هذه الصورة. فالأمر لا يتطلب كثيرا من الخيال للتفكير بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قد يؤجج المزيد من التوترات الإقليمية مع إيران تشبثا في السلطة أو هربا من السجن.
ولكن حتى دون استفزاز عمدي، قد تفضي أزمة الردع الإقليمية في ما بعد غزة إلى تصعيد عرضي. فبوسع أي من الفاعلين أن يبدأ أفعالا حركية محدودة تكون بمثابة اختبارات لخطوط الخصوم الحمراء وأنظمة الردع لديهم. والخطر هنا هو أن هذه الاختبارات قد يساء فهمها أو تتجاوز دونما قصد خطوطا حمراء لفاعلين آخرين.
فرصة للدبلوماسية
يمكن التخفيف من أخطار انهيار الردع عبر مبادرات دبلوماسية كانت جارية بالفعل قبل السابع من أكتوبر، وبخاصة في ما بين إيران والمملكة العربية السعودية، وإسرائيل والمملكة العربية السعودية.
استأنفت إيران والمملكة العربية السعودية العلاقات الدبلوماسية خلال العام الحالي بعد قطيعة سبع سنوات. ولأن إيران تدعم حماس، فقد يحدث ضغط من إسرائيل والولايات المتحدة على المملكة العربية السعودية للارتداد عن عملية التطبيع مع طهران. وسيكون هذا خطأ، في ضوء أن عملية التطبيع مع الرياض قد تجبر إيران على اتخاذ قرارات صعبة بشأن اتجاهها الاستراتيجي بعد صراع غزة.
من ناحية، سوف تشعر إيران بضغط من أجل أن تحافظ على سمعتها بوصفها رأس «محور المقاومة» ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. وبرغم هزيمة حماس الكلية أو الجزئية المحتملة على يد إسرائيل بنهاية حرب غزة، يرجح أن إيران سوف تعتقد أن ما كسبته من صراع غزة هو تأكيد رسالتها المتعلقة بمحنة الفلسطينيين، ومزيد من العزلة لإسرائيل. كما أن حماس في حال تفكيكها أو إضعافها قد تحفز إيران على مضاعفة دعمها لميلشيات من مجموعتها في المنطقة من قبيل حزب الله والحوثيين وجماعات متصلة في سوريا والعراق.
ولكن بوسع تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومصر أن ينشئ ضغطا معاكسا. فسوف يكون على طهران أن تتحلى بالحذر في إدارة «محور المقاومة»، وإلا خاطرت بتقويض ما حققت من تقدم في إصلاح العلاقات مع البلدين العربيين. ودونما آفاق حقيقية لتحسين العلاقات مع واشنطن وربما مزيد من العداوة مع الولايات المتحدة وإسرائيل في ما بعد غزة، فإن تحسن العلاقات مع الرياض والقاهرة يعطي إيران بعض الطمأنينة إلى أن هذين الحليفين للولايات المتحدة سوف يعزفان عن الانصياع لأوامر واشنطن في سياق التحالف المناهض لإيران.
في ما قبل السابع من أكتوبر، كان بوسع إيران أن تكون أكثر كفاءة في إدارة التوترات بين زعامتها لـ«جبهة المقاومة» وتقاربها مع المملكة العربية السعودية ومصر، بزعم أن المسارين جزء من استراتيجية واحدة. بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة أو الصفقة النووية مع إيران في عام 2018 وفرض سياسة «الضغط الأقصى»، يمكن أن تزعم إيران أن «محور المقاومة» كان ترتيبا دفاعيا وأنه ما من تعارض بينه وبين جهود إيران لإصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومصر.
لكن هجمات السابع من أكتوبر أحدثت فجوة في فكرة أن جبهة المقاومة دفاعية. وعلى الرغم من عدم وجود دليل يشير إلى تورط طهران مباشرة في الهجمات التي استهدفت إسرائيل، فإن محور المقاومة الإيراني ـ في نظر الإسرائيليين وفريق من الأمريكيين ـ هو الذي شن الحرب على إسرائيل. والخوف من قيام إسرائيل بمهاجمة إيران أو وكلائها قد يدخل تحولا طفيفا على استراتيجية طهران لتزداد توجها إلى البناء على العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية. وسيكون من الحماقة الظن بأن إيران سوف تتخلى عن دعمها لحزب الله وحماس (في حال سلامتها) والحوثيين. وإن لم يكن منافيا للمنطق القول بأن إيران قد تعيد موازنة سياستها الخارجية، وتحافظ على وكلائها مع فرض شيء من القيود على أنشطتها وحجمها، وإعطاء الأولوية لجهود التقارب الإقليمي التي تبذلها. ولقد لمحنا شيئا من إعادة التوازن هذا خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في الحادي عشر من نوفمبر إلى المملكة العربية السعودية. فقد شكلت صورة وصول رئيسي رمزا لجهود إيران للمصالحة بين مساري نهجها. فقد شوهد وهو يصافح مسؤولين سعوديين في الرياض للمرة الأولى منذ تطبيع العلاقات مع ارتدائه الكوفية الفلسطينية رمزا للمقاومة. وأيضا برغم معارضة رئيسي للغة حل الدولتين في قمة منظمة التعاون الإسلامي بالرياض، فإنه لم يحاول إفشال القمة.
وقد تعتمد طريقة تنفيذ هذا التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإيران على الولايات المتحدة. فمعاملة التطبيع السعودي مع إيران باعتباره منافيا لمصالح الولايات المتحدة ستكون خطأ من جانب واشنطن. وإشعار إيران بأنها محصورة بين أولويتين متنافستين هما مقاومة الولايات المتحدة والتطبيع مع المملكة العربية السعودية قد يخدم مصالح الولايات المتحدة ويعزز الاستقرار الإقليمي. ولو حملت العلاقات مع الرياض حكومة طهران على محض الامتناع عن المعارضة النشطة للجهود الدبلوماسية الرامية إلى حل الدولتين فسوف يكون هذا في حد ذاته مكسبا.
اتفاقية التطبيع الأخرى التي سوف تحاول الولايات المتحدة في نهاية المطاف تنشيطها هي الاتفاقية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. لكن واشنطن في هذه المرة ينبغي أن تدعم الموقف السعودي الذي يشترط في التطبيع سلسلة تنازلات من إسرائيل لتمكين حل الدولتين في سياق انفتاح سلام عربي إسرائيلي كلي. وفي حين أن التقدم باتجاه إنشاء دولة فلسطينية بجانب إسرائيل لن يكون منطقيا من الناحيتين السياسية واللوجستية في المدى القريب، فبوسع السعودية أن تستغل نفوذها السياسي والاقتصادي الكبير لتحويل هذا إلى واقع أكبر احتمالا على مدى أبعد. ويجب أن تدعم واشنطن هذه الجهود وتشجعها.
ثمة نتيجة واضحة لقتال غزة: وهي أن عدم حل القضية الفلسطينية سوف يمزق نسيج التقدم في المنطقة. ففي حال عدم وجود أفق سياسي للفلسطينيين بعد حرب غزة، سوف تكون مبادرة التطبيع القائمة بين إيران والمملكة العربية السعودية والمحتملة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية في خطر. بوسع المملكة العربية السعودية أن تكون المحور الإقليمي لحل الدولتين. ودبلوماسية الرياض الماهرة تنطوي على إمكانية فرض ضغط على كل من إيران وإسرائيل، باستعمال النفوذ الناجم عن احتمالات مزيد من التطبيع لدفع التقدم نحو حل الدولتين. وفضلا عن المساعدة في دعم السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، قد يضمن هذا أيضا أن تحول الدبلوماسية ـ لا الردع وحده ـ دون نشوب حرب أخرى.
يجب أن تفهم واشنطن مخاطر انهيار الردع، على أن ترى أيضا الفرص المطروحة من التطبيع السعودي مع إيران والاتفاق المحتمل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. وهذان المساران التطبيعيان يمكن أن يشكلا معا الأساس لإطار عمل أمني إقليمي. وفي حين أنه ليس من الواقعية في شيء الظن بأن إسرائيل وإيران يمكن أن تنخرطا مباشرة في إطار عمل مشترك أو أن توافقا عليه من الأساس، فبوسع المملكة العربية السعودية أن تكون بمثابة جسر رابط ربطا غير رسمي بين البلدين. ووسط كل هذا الخطر والدمار الناجم عن حرب غزة، سيكون هذا إيجابيا تماما بالنسبة لواشنطن والشرق الأوسط الأوسع.
روس هاريسون زميل مخضرم في معهد الشرق الأوسط، وعضو هيئة التدريس بقسم العلوم السياسية في جامعة بيتسبرج، حيث يدرِّس دورات في سياسة الشرق الأوسط. عمل لأكثر من 15 عاما ضمن هيئة التدريس بكلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون.
عن ناشونال إنتريست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بین المملکة العربیة السعودیة مع المملکة العربیة السعودیة والمملکة العربیة السعودیة الولایات المتحدة محور المقاومة الشرق الأوسط حل الدولتین العلاقات مع إسرائیل فی فی المنطقة فی ما بعد أن إیران مع إیران حزب الله حرب غزة یمکن أن فی حال
إقرأ أيضاً:
أمير حائل يستقبل سفير الولايات المتحدة لدى المملكة
استقبل صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعد بن عبدالعزيز أمير منطقة حائل بمكتبه اليوم، سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى المملكة مايكل راتني.
واستعرض سموه أبرز الجوانب الحضارية والسياحية بالمنطقة، كما جرى تبادل الأحاديث الودية والموضوعات ذات الاهتمام المشترك.