أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «الحلقة الأخيرة»
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
ما تقوله إيلا شُحْطْ، كما أوردت في الحلقة السابقة، قد يبدو متناقضا كما، على سبيل المثال، في عَزْوها هويَّتين جَنْدَرِيَّتين، إحداهما ذكريَّة والأخرى أنثويَّة، للشَّريف علي. تؤكد شُحْط موضوع الانجذاب ِمثْلِيِّ الأيروسيَّة في الأمر، ولكن، من خلال وضع لورَنس والشَّريف علي في «الأنثوي» خلال محطات مختلفة من سرد الفيلم، فكأنها تؤكد على أن الجَنْدَر ليس مقولة مستقرَّة وثابتة.
وهكذا فإن تحديد هويَّة لورَنس بالأنثويِّ وتحديد هويَّة الشَّريف علي بالذَّكريِّ، كما في مثال مشهد الزواج الرَّمزي في الصحراء يحدث قبيل نهاية النصف الأول من الفيلم، وقبيل وقوع الأحداث العسكريَّة الكبرى في السَّرد. أما التَّماثل الإسقاطي لهويَّة الشَّريف علي بالأنثوي في اللقطة التي دَرَسَتْها شُحْطْ، والتي أوردتُّها في مكان آنف من هذه القراءة، فإنه يحدث بالقرب من نهاية الفيلم. والأمر الذي أود المحاججة به هنا هو أن الفيلم لا يُزيح ويعيد موضَعَة السِّمة الجَنْدَرِيَّة لشخصيَّاته الرَّئيسة فحسب، ولكنه يفعل ذلك فيما يخص الفضاء الذي تتحرك فيه تلك الشَّخصيَّات أيضا؛ أي الصَّحراء التي هي «البطل الثاني» للفيلم كما اقترح جون سايمن في اقتباس سابق. تظهر الصحراء أولا، وفي الأساس، باعتبارها جسمًا «طبيعيًّا»، ورائقًا، وهادئًا، وحسيًّا، ومثيرًا للإلهام. بَيْدَ أن أحداثًا سياسيَّةً وعسكريَّةً متتاليةً تعقب الظُّهور البِكْر والعُذرِيّ للصحراء. وكلما تقدَّمت تلك الأحداث في السَّرد وتمكَّنت منه فإن لورَنس يأتي في كل مرَّة كي «يكتشف» و«يعيد اكتشاف» نفسه، مُعرِّضا رغباته، من خلال ذلك، إلى الانكشاف في المكان الغرائبي. وبالتزامن مع هذا فإن الصَّحراء تفقد براءتها وحميميَّتها بالتَّدرُّج، ولذلك فإنها تكتسي بصورة متصاعدة مُحَيَّا قاتما وغير مضياف: عواصف غباريَّة، ودوَّامات رمليَّة قاتلة، وطوبوغرافيا صخريَّة خشنة. وبالتالي فإن الصَّحراء، بصورة عامَّة، لا تستحوذ إلا على اهتمام قليل من نظرة الكاميرا في النصف الثاني من الفيلم، والَّلقطات المتوسطة والكبيرة القصيرة المخصَّصة للصَّحراء إنما تؤكد على تجهُّمها فحسب (57). تُصَوَّر الصَّحراء هنا بوصفها مرآة تعكس ساردها، لورَنس، والذي في سيرورة رحلته يُعَرِّف ويعيد تعريف هويَّتها، وهو يصارع من أجل تحديد هويَّته نفسه. والَّلقطة التي تربط الشَّريف علي بالأنوثة، وهي اللقطة التي تتأمَّلها شُحْطْ في اقتباس سابق، تظهر في مشهد يحدث قرب نهاية الفيلم، حيث يرتكب لورَنس، والجيش العربي المؤتمر بإمرته، وتنفيذا لتعليماته («لا سجناء» التي تقضي بقتل الجميع) مجزرة بحق الرَّتل التُّركي المنسحب، وذلك انتقاما لتدمير قرية عربيَّة، وانتهاك وإبادة سكَّانها.
غير أن مشهد المجزرة يتضمن اللحظة الثَّانية التي ينظر فيها لورَنس إلى صورته في نصل الخنجر، وهي لحظة لا تذكرها شُحْطْ. في هذه المرَّة فإن لورَنس، والخنجر، والصَّحراء ملطَّخون جميعا بالدِّماء. ولورَنس، في اللحظة الثَّانية، ليس نفسه لورَنس الَّلعوب والجَذِل في اللحظة الأولى؛ فما بين اللحظتين سال دم، وكان هناك موت وتدمير. وفي الحقيقة لم يكن كل هذا إلا بناءً توكيديًّا وإنضاجًا عنيفين للهويَّة والرَّغبة. إننا نتذكر أن لورَنس قد انطلق إلى الصَّحراء العربيَّة بوصفه «مخلوقًا» قد تتمكن مهمَّته الشَّاقَّة هناك من أن تجعل منه «رجلا» كما تمنَّى الجنرال مَرِيْ بالحرف الواحد.
وبعد الاستيلاء المذهل على العَقَبَة إثر عمليَّة عسكريَّة جريئة يتوجه لورَنس إلى مقر القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة من أجل أن يقدِّم تقريرًا عن ذلك الانتصار الكبير إلى رؤسائه. عند هذه البرهة من الفيلم يوجِّه الجنرال أللنبي حديثه إلى لورَنس بنبرة بالغة الصِّدق والثِّقة: «أنت «رجلٌ» شائق. ليس هناك شكٌّ في ذلك». وبمعنى آخر فإن الشُّكوك التي ساورت الجنرال مَرِيْ بخصوص رجولة لورَنس، والتي بدت وجيهة لنا بالنظر إلى تصرُّفاته «غير الرُّجوليَّة» في حينه، قد دحضها الآن خليفته، الجنرال أللنبي. وقد حدث هذا التغيُّر في الموقف لأن لورَنس قد أكمل بنجاح طقوس أن يكون «رجلا» في الصَّحراء العربيَّة، وها هو الدَّم على خنجره -الرَّمز القضيبي الكلاسيكي- يثبت ذلك.
إن بدء مشهد المجزرة التي نفَّذها الجيش العربي المتقدم نحو دمشق بحق الأتراك المنسحبين تقدِّمه لنا لقطة دوران أفقي (pan) بطيئة مُرِيَةً إيَّانا أنقاض القرية العربيَّة المدمَّرة وجثث الضَّحايا الذين بينهم نساء عربيَّات قتيلات عاريات السِّيقان، ما يقترح علينا أنهن اغتُصبن قبل قتلهن. وعند هذه اللحظة بالتحديد والضبط يطلق لورَنس العنان لساديَّته الذكوريَّة وهو ممتطٍ بعيره وبالغ الانتشاء بإطلاق النار على الجنود الأتراك الجرحى. وإنه لَذو دلالة ينبغي ألا تُخطأ أن هذا المشهد يدور بعد حادثة درعا التي انتُهكَ فيها لورَنس جسديَّا كما يزعم، ولذلك فإنه مشهد مفعم بالانتقام. إن العنف العسكري الذي ارتكبه لورَنس والعرب بقيادته (القتل) والعنف الجنسي الذي ارتكبه الأتراك (الاغتصاب) قد دُمِجا معا لإنتاج مجاز (بمعنى: trope) للسَّاديَّة يختلط فيه دم الاغتصاب بدم القتل. ما هو أكثر أهميَّة من ذلك هو أن المشهد يحدث قرب نهاية الفيلم ونهاية تجربة لورَنس الصَّحراويَّة، حيث تتَّخذ الصحراء -بوصفها مجاز فضاء لرحلة عنيفة لاكتشاف الذَّات- التَّجهُّم الطوبوغرافي المناسب. وهنا ينظر لورَنس إلى نفسه -وهو مكسو بالغبار والوحل وملطَّخ بالدم- في الخنجر الدامي، وبذلك فإنه يمتلك الفضاء المُرَوِّض للآخر بصورة نهائيَّة وحاسمة باسم الرَّمز القضيبي. لقد قدَّم المشهد الأول لورَنس، وهو برفقة الدَّليل البدوي طَفَس، إلى الصحراء وهي فضاء بِكر أو صفحة بيضاء (tabula rasa) كتب عليها لورَنس قصة نضجه عبر عدة مراحل وأفعال. عندئذ تبدَّت الصحراء بوصفها أنثى، ولذلك أراد لورَنس أن يكون «بدويّا»، وفي الوقت ذاته حاز الجمهور السِّينمائي نظرة مُحَدِّقة، أيروسيَّة وكولونياليَّة معا، وهي تتبع تدفق أحداث قصَّة البحث والغزو المذهلة.
لقد عكست الصَّحراء قلق الهويَّة لدى لورَنس؛ بل، في الحقيقة، كوَّنتها ونبَّرتها، عاكسة بذلك سلسلة من الأزواج الذَّكريَّة التي شكَّلت السَّرد. كما أن السَّرد وفَّر النَّظرة الأيروسيَّة المُحَدَّقة بسخاء للجمهور الغربي الذي يلعب أفراده -ذكورا وإناثا- دور المستكشفين المُترَفين الجالسين على مقاعد وثيرة ذات مساند مريحة للأذرع في صالة العرض وهم آمنون ومُحْتَمون استراتيجيَّا في العتمة بوصفهم مشاركين راغبين في ترويض الصَّحراء العربيَّة. وباعتبارها فضاء الآخر فقد مُثِّلت تلك الصَّحراء بوصفها عالما للسِّحر والفنتازيا، ولذلك فإنها حقل لتجريب أنماط الرَّغبة وتجليَّات الهويَّة. ومع أن الفيلم قد سمح للورنس أن «يصبح امرأة»، بل شجَّعه حقا على ذلك، في برهة معيَّنة من سرده، إلا أنه أعاد إليه ذكورته من خلال فعل فَضٍّ رمزي مثَّلته نظرته المُحَدِّقة إلى نصل خنجره الدَّامي. وبذلك فإن الفيلم، وعلى الرغم من قدرته الاستراتيجيَّة ومهاراته في جذب الفُرجة من ألوان الطَّيف الجَنْدَري، فإن الرُّؤية الذكوريَّة هي ما يغذِّيه ويستحثُّه، وهي رؤية تجد إلهامها التَّاريخي في خطاب مقولة «مهمَّة الحَضْرَنَة» ( civilizing mission ) الكلاسيكيَّة الغربيَّة المُلَطَّخة بدماء «آخرين» لا عدَّ ولا حصر لهم في ذاكرة الغيريَّة.
--------------------------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(55): Kaplan, The Arabists, 54.
(56): Elizabeth Cowie, Fantasia, in The Woman in Question, ed., Parvene Adams and Elizabeth Cowie (Cambridge: MIT Press, 1990), 193-94.
(57): أتَّفق هنا مع فرضية كرِستيَن بي كندي Christian B. Kennedy الذاهبة إلى أن التغيُّرات التي تحدث في شخصيَّة لورَنس تتزامن وتتوافق مع التغيُّرات التي تحدث في الصَّحراء نفسها في نصفي الفيلم، لكني لا أتفق مع معظم بقيَّة محاججته. انظر:
Christian B. Kennedy, The Myth of Heroism: Man and Desert in Lawrence of Arabia, in Place, Power, Situation and Spectacle: A Geography of Film, ed., Stuart C. Aitken and Leo E. Zoon (London: Rowman Littlefield, 1994), 161--79.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الج ن د ر ریف علی ة التی
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي وسيلة جديدة للاحتيال المالي وسرقة العملاء
واستعرضت حلقة 2025/2/19 من برنامج "حياة ذكية" الذي يبث على منصة "الجزيرة 360" تحذيرات خبراء الأمن السيبراني من تنامي ظاهرة الاحتيال البنكي عبر مكالمات آلية مزيفة، تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقليد أنظمة الرد الصوتي التفاعلي (IVR) للبنوك وشركات الاتصالات، مما تسبب في خسائر تتجاوز المليارات سنويا.
ووفقا لمقدم الحلقة إياد حميدة فقد شهد عام 2024 زيادة ملحوظة في عمليات الاحتيال، حيث ارتفعت نسبة البلاغات بنحو 70% مقارنة بالعام السابق.
ويعتمد المحتالون على تقنيات متطورة لتزييف أرقام المتصل وتقليد الأصوات البشرية، مستخدمين تقنيات التعلم الآلي لتحليل أنماط رد الضحايا وتكييف رسائلهم وفقا لذلك.
وأوضحت الحلقة أن المحتالين يستخدمون أساليب نفسية مدروسة، تبدأ عادة بتحذير عاجل حول عملية مشبوهة أو محاولة اختراق للحساب، مستغلين حالة القلق والخوف لدفع الضحية لتقديم معلومات حساسة مثل رموز التحقق وأرقام البطاقات.
أسفلت ذاتي الصيانة
وفي فقرة أخرى تطرقت الحلقة إلى كشف مهم قام به فريق من العلماء في جامعة سوانزي وكلية كينجز في لندن يتمثل في تطوير نوع من الأسفلت قادر على إصلاح نفسه ذاتيا، في اختراق علمي قد يغير مستقبل صيانة الطرق حول العالم.
إعلانويعتمد الاختراع الجديد على دمج كبسولات مجهرية مملوءة بزيوت معاد تدويرها داخل الأسفلت، مصنوعة من نفايات عضوية، وعند ظهور أي تشققات، تقوم هذه الكبسولات بإطلاق محتواها تلقائيا، مما يسمح للسطح بالتجدد في أقل من ساعة.
وبحسب البرنامج يأتي هذا التطور في وقت تنفق فيه الدول مليارات الدولارات سنويا على صيانة الطرق، حيث تضخ الولايات المتحدة وحدها أكثر من 50 مليار دولار سنويا، بينما ينفق الاتحاد الأوروبي ما بين 30 و40 مليار يورو.
ولعب الذكاء الاصطناعي دورا محوريا في تطوير هذه التقنية من خلال محاكاة سلوك المادة على المستوى الجزيئي، مستوحيا آلية التئام الجروح الطبيعية لدى النباتات والحيوانات.
كما يجري حاليا البحث في إمكانية استخدام الطحالب البحرية وزيت الطهي المعاد تدويره في تصنيع هذا النوع من الأسفلت.
ويتوقع الخبراء -بحسب الحلقة- أن يؤدي هذا الابتكار إلى تقليل تكاليف الإصلاح بشكل كبير، وتحسين جودة الطرق، والحد من الحوادث المرتبطة بتدهور البنية التحتية، خاصة في ظل الضغوط المتزايدة التي يفرضها التحضر السريع وتغير المناخ على البنية التحتية العالمية.
19/2/2025