صالح الرزوق في قصته الطويلة “الستار الشفاف”* (يقول عنها رواية جيب) يعود قصي الشيخ عسكر للعزف على نغمة إنسان التكنولوجيا، ويكتب عن تلقيح بويضات  بحيامن قوية ينتخبها من نفس الأب. وبالنتيجة ينشأ جيل  جديد من أب واحد وأمهات مختلفات، ويعيش الجميع داخل جزيرة في المحيط، تذكرنا بمستعمرة العقوبات (لهنري شاريير)، أو معسكر المجذومين (لبرهان الخطيب وغراهام غرين)، مع فرق واحد، أن العزل في قصة الشيخ عسكر لضمان استقرار التجربة، بينما هو لدى البقية لعدة أسباب، بينها الوقاية من العدوى، وبينها العقاب.

وفي كل الأحوال نحن أمام حالة عزل قسري، مهما تعددت الدواعي. ثم سرعان ما تنفضح الحيلة ويواجه الشباب مشكلة أنهم جميعا أخوة، وأنهم يتناسلون رغم الشبهة المشينة بزنا المحارم. ولا أعلم ماذا يرمي الشيخ عسكر من هذه الحبكة. هل هي إشارة لانحرافات سلوكية وأخلاقية، أم أنها إحياء لأسطورة الخلق،  وأن ما كان مقبولا في الجنة لم يعد كذلك على الأرض؟. غير أن المضمون كما هو واضح من قصته ليس العقوبة الإلهية، ولكن الأكل من الشجرة المحرمة. وإذا استحق أبو وأم البشر الطرد من الجنة بسبب تفاحة، ما هي عقوبة أجيال كلها تنهش من نفس التفاحة الفاسدة والممنوعة؟. تحاول القصة أن تغلف هذه الحبكة بتفاصيل علمية، ومع ذلك فهي برأيي ليست قصة خيال علمي، ولكنها متابعة في الملف الأسود لتطور العلوم وما تسبب به من تبديل لقناعاتنا وأساليب حياتنا. وأعتقد أن ما يصدق على رواية “الطريق” لنجيب محفوظ يصدق أيضا على “الستار الشفاف”. فالاثنان يسدلان ستارا من التعمية على هوية الأب، وهو عند محفوظ غير معروف، وبعد وفاة الأم ينطلق الابن للبحث عنه.  ولكن عند الشيخ عسكر الأبناء يعرفون أمهاتهم، غير أن أحدا لا يعرف شيئا عن الأب الأول. وإذا كان من غير المستحب قراءة هذا الأب على أنه رب رمزي (كما فعل جورج طرابيشي)  لكن كل الإشارات تسمح لنا بذلك. ورمزية الرب في هذا المجال لا تعني أنه الله تعالى حرفيا، وإنما قوة متعالية بطريركية في رواية محفوظ، لتكن السلطة مثلا، وبمزيد من التوضيح لتكن مجتمع ثورة يوليو الذي وقف منه محفوظ موقفا غامضا ومترددا، فقد شبه أبناء جيل الثورة بأنهم أولاد سفاح أو هم نتاج خطيئة سياسية وحضارية. وتوجد لديه عدة إشارات تدل على قلقه من انقلاب يوليو وحكومة العسكر.  ولم يرفع صوته ضد ثورة عام 1952 إلا في روايته الضعيفة “الكرنك”، ثم على نحو أقوى في إحدى أهم أعماله وهي “ثرثرة فوق النيل”. وفي جميع هذه النماذج رسم تصورا أوديبا لابن مهزوز يعيش على المسكنات وتفترسه الفوضى والإحساس المستمر بالهزيمة – رهاب الخصاء – مع صورة غامضة لأب مفقود أو ميت.  وأعتقد أنه كان يغطي على هذا الخلل بالاختباء بين أبناء الطبقة الوسطى، والابتعاد عن النخبة. لذلك وضع شخصياته فيما يشبه الإقامة الجبرية في حواري القاهرة ومقاهيها. أما مقاربة الشيخ عسكر فهي مختلفة من أكثر من ناحية. فهو يضع نتائج ما بعد الثورة الصناعية تحت المجهر. وسبق له أن فعل ذلك في روايته القصيرة “آدم الجديد”، مع أنها كانت عن إنسان جماعي، وهو حكما إنسان أممي، وبريء من الخطايا، ويحمل في صدره قلبا عالميا، وهو ما تسبب له بأزمة في الهوية والذاكرة، أو بلغة أوضح في الإنتماء: لأي معسكر وأي حضارة عليه أن ينتمي. إنما لم تكن المشكلة في “الستار الشفاف” مع واحد بل مع أجيال. وهؤلاء يحملون صفات ومورثات الأب الأول القوي لكن لا ينعمون بأخلاقه ومنطقه. وكما يبدو شجرة العائلة واحدة غير أن الخلاف كان في الحضانة والإمكانيات – أو التربية والاقتصاد. من المؤكد أن القصة تضع الأصل الأبوي بطرف والتربية الأمومية بطرف مقابل، كما لو أنها تريد أن توحي أن الثابت – أو الله هو الذكورة، وأن المتحول والذي يؤثر به التاريخ هو الأنوثة. وهذه سابقة: أن التاريخ أمومي لكن الدهر من صفات الأب.  وقد تخلل الحبكة الدرامية نقطة شعور أو نقطة تنوير باللغة الفنية، ورمز بها قصي العسكر للخطيئة الأصلية. وأعتقد أن الخوف من تكرار هذا الخطأ هو الذي منح الشخصيات مضمونا دراميا ووعيا. ويتفرع عن هذه النقطة عدة مسائل. أولا لا يمكن لأحد أن يغسل عار أول خطيئة لأنها جزء من وجوده. ويترتب واقع الحضارات الاستعمارية الراهنة على وعيها بهذه المشكلة، وهو ماضيها الدموي. ويبقى الحل بالتكفير أو دفع الغفارة. ولكن القصة لم تقدم لنا أي اقتراح بهذا المعنى، بعكس رواية ألمانية حديثة هي “اذهب، رحل، غاب” لجيني إيربينبيك (مترجمة بعنوان “وطن محمول”). وتفترض أن الغفارة تكون باستضافة لاجئين من المستعمرات السابقة. ثانيا التعايش مع أزمة زنا المحارم. وهي مشكلة بنيوية قد تتشابه مع العلاقة ببن الجنسين خارج مؤسسة الزواج. ناهيك عن تعدد العلاقات، وهي القضية التي توقف عندها حنيف قريشي في “بوذا الضواحي”، حيث تابع المعنى الحضاري للأخلاق الاستعمارية، وسياسة نقل العمالة من المستعمرات وتوظيفها بالمجان لاستكمال بناء الميتروبول. وكأنه يريد أن يكتب أهجية لمجتمع مذنب بخطيئتين – عرقية وطبقية. حتى أنه يصور أبناء الضواحي مثل أبناء سفاح أنتجهم أب واحد كلي القدرة، وأمهات ضعيفات كل واحدة ترمز لإحدى المستعمرات. ثالثا وأخيرا. يبقى المستوى الفردي. ولا تخلو شخصية في القصة من مشكلة هوياتية، أو مشكلة ذاكرة مفقودة، بسبب عدم التأكد من المصادر. وأعتقد أن المضمون الدراماتيكي للشخصيات يعيد إحياء أزمة راسكولينكوف بطل “الجريمة والعقاب”. فهو مذنب جنائيا ولكنه بريء اجتماعيا، وكان يصحح خللا في السياسة الاجتماعية، لكنه وقع بخطأ آخر في أسلوب التصحيح. وكذلك بالنسبة لقصي العسكر. بناء جيل قليل الشرور كلفه إخفاء نصف حقيقة المجتمع – أو نصف أصوله وذاكرته.  وهذا ما دفع زعيمة المعارضة لأن تقول في آخر مشهد: النوايا الحسنة وحدها لا تكفي. *** في الختام لا يجوز إغفال الناحية الفنية في القصة. فهي تبني ما هو غير واقعي على افتراضات ممكنة.  وقد اتبعت أسلوب نعومي ألديرمان في روايتها الهامة “القوة” The Power. فهي لم تدخل في تفاصيل علمية، واعتمدت على عيوب العلم، وبقراءة ثانية على عيوب الفضيلة. وغني عن الذكر أن القصة وازنت بين إيجابيات التكنولوجيا وعيوبها. فهي من جهة تفيد الإنسان، ومن جهة تدمر الطبيعة. وكان ثمن إنتاج جيل يؤمن بالفضيلة زيادة مستوى الإشعاع ورفع حرارة الأرض. وعبرت عن هذه المسائل بأسلوب تمثيلي، بعيدا عن الجدل والحوار واختلاف – أو تمايز الشخصيات. وأستطيع القول مع سيزا قاسم تعبر قصة الشيخ عسكر عن انحراف في تسجيل التفاصيل،  وتعيد إحياء بنية القصة العائلية. فتضع الأب في مركز الأحداث دون أن نراه،  وبذلك تعطيه قيمة أسطورية وملحمية متعالية. *الستار الشفاف. رواية جيب. قصي الشيخ عسكر. 2023. المصدر مراسلات شخصية.

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

عاجل - هزة أرضية بقوة 4.25 تضرب منطقة قريبة من شرم الشيخ

رصدت محطات الشبكة القومية لرصد الزلازل التابعة للمعهد القومي للبحوث الفلكية صباح اليوم الخميس هزة أرضية بلغت قوتها 4.25 درجة على مقياس ريختر. وقعت الهزة على بعد نحو 12 كيلومتر شمال شرق مدينة شرم الشيخ في تمام الساعة 7:34:57 صباحًا بالتوقيت المحلي. وقد أفاد العديد من سكان المناطق القريبة بشعورهم بالهزة، إلا أنه لم ترد تقارير عن أي أضرار حتى الآن.

بيانات الهزة الأرضية


جاءت تفاصيل الهزة كما سجلتها الشبكة القومية لرصد الزلازل على النحو التالي:

قوة الزلزال: 4.25 درجة على مقياس ريختر
خط العرض: 27.8977 شمالًا
خط الطول: 34.4398 شرقًا
عمق الهزة: 8.5 كيلومتر
الشبكة القومية للزلازل: تكنولوجيا متقدمة ترصد الزلازل بدقة
تعتبر الشبكة القومية للزلازل في مصر واحدة من أكثر الشبكات تطورًا في العالم، حيث تعمل بأكثر من 70 محطة موزعة بعناية في مختلف أنحاء الجمهورية، وجرى اختيار مواقعها بناءً على دراسة التاريخ الزلزالي لمصر. يتيح هذا الانتشار الواسع قدرة فائقة على رصد أي زلزال في أي بقعة من مصر، بغض النظر عن قوة الزلزال، حتى وإن كانت أقل من الصفر.

تتميز هذه الشبكة بالدقة العالية والسرعة في تسجيل البيانات المتعلقة بالزلازل، ما يسهم في توفير معلومات دقيقة. 

تتميز هذه الشبكة بالدقة العالية والسرعة في تسجيل البيانات المتعلقة بالزلازل، ما يسهم في توفير معلومات دقيقة وفورية تساعد الجهات المعنية على تقييم الوضع واتخاذ الإجراءات اللازمة، خاصة أن مصر تاريخيًا ليست ضمن المناطق ذات الأحزمة الزلزالية العالية، ما يجعلها أكثر أمانًا نسبيًا من الدول الأخرى.

 

مصر وتاريخ الزلازل: ثقل حضاري ومعرفي


تعد مصر من الدول الرائدة في مجال رصد الزلازل، حيث يعود تاريخ الشبكة القومية للزلازل إلى أكثر من 150 عامًا، ما يمنح مصر أقدم قاعدة بيانات زلزالية في العالم. ورغم أن الرصد الحديث للزلازل بدأ في أوائل القرن العشرين، إلا أن قدماء المصريين كانوا يسجلون الظواهر الطبيعية، ومنها الزلازل، التي وثقت في كتب التاريخ المصري القديم، ما يثبت أن مصر لديها سجل زلزالي يعود إلى 5 آلاف سنة مضت.

يعتبر هذا السجل التاريخي من الزلازل مصدرًا هامًا للتعرف على الظواهر الطبيعية والتعامل معها، ويجعل مصر من الدول التي تمتلك ثقلًا معرفيًا كبيرًا في هذا المجال. هذا التاريخ المتراكم يعزز من قدرة مصر على التعامل مع مثل هذه الظواهر بمرونة عالية، ويؤكد قوة مصر في مجابهة الكوارث الطبيعية والتخفيف من آثارها.

مصر بعيدة عن الأحزمة الزلزالية العالمية
على الصعيد الجغرافي، تقع مصر بعيدًا عن الأحزمة الزلزالية السبعة المعروفة عالميًا، ما يجعلها من الدول الأقل عرضة للزلازل المدمرة. ومع ذلك، فإن قربها من مناطق نشطة زلزاليًا مثل خليج العقبة، خليج السويس، والبحر الأحمر يجعلها تتأثر أحيانًا بالزلازل متوسطة القوة. ولكن بفضل مرونة المجتمع المصري وقدرته على الاستجابة السريعة، يمكن تقليل الأضرار الناجمة عن هذه الزلازل إلى حد كبير.

وتأتي الزلازل في تلك المناطق كجزء من النشاط الطبيعي للصفائح التكتونية المحيطة، حيث يُعتبر خليج العقبة والبحر الأحمر امتدادًا لفالق البحر الأحمر، وهو خط تكتوني نشط ينشأ عنه زلازل بين الحين والآخر.

دور الشبكة القومية للزلازل في دعم استقرار المجتمع


يعد وجود شبكة رصد قوية وفعالة في مصر من العوامل الرئيسية التي تسهم في تحقيق الاستقرار عند وقوع الهزات الأرضية. تعمل الشبكة على تزويد المعهد القومي للبحوث الفلكية بالمعلومات الفورية والمفصلة حول أي هزة أرضية، ما يمكن الجهات المختصة من متابعة تطورات الأحداث بدقة واتخاذ التدابير اللازمة في وقت مبكر، الأمر الذي يعزز من قدرة الدولة على التعامل مع الكوارث الطبيعية بشكل فعال.

الوقاية والتوعية


تساهم البيانات التي توفرها الشبكة القومية للزلازل في تعزيز الوعي العام بأهمية الاستعداد لمواجهة الزلازل، وتوجه الإرشادات للمواطنين حول كيفية التصرف خلال الهزات الأرضية، مما يساهم في تقليل احتمالات وقوع إصابات أو خسائر.

المجتمع المصري ومواجهة الكوارث الطبيعية


في إطار توعية المواطنين وتعزيز ثقافة الاستعداد للكوارث الطبيعية، يتلقى المجتمع المصري العديد من التدريبات والإرشادات حول كيفية التعامل مع الزلازل والهزات الأرضية. هذا الوعي المجتمعي يلعب دورًا هامًا في تقليل حجم الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية، ويعتبر عاملًا حاكمًا في مرونة المجتمع المصري للتأقلم مع هذه الظواهر وتقليل الصدمات المحتملة.

ويواصل المعهد القومي للبحوث الفلكية بالتعاون مع الجهات المعنية، نشر التوعية بين المواطنين حول كيفية التصرف بأمان عند حدوث الهزات الأرضية، ما يساعد على تجنب الخسائر البشرية والمادية على حد سواء.

مصر في مواجهة الطبيعة


على الرغم من أن مصر تُصنف كدولة بعيدة عن الأحزمة الزلزالية النشطة، إلا أن تواجدها بالقرب من المناطق الزلزالية المحيطة يجعلها في مرمى الزلازل المتوسطة. وهذا ما يدعو المعنيين إلى التأكيد على أهمية التكيف مع الظروف المحيطة والاستفادة من الموارد التكنولوجية المتاحة. ويظل وجود شبكة قومية لرصد الزلازل ومراقبتها أمرًا حاسمًا لضمان سلامة المجتمع، خاصة في ظل التغيرات المناخية والنشاطات الطبيعية التي تؤثر على الكرة الأرضية ككل.

يؤكد رصد الهزات الأرضية دور التكنولوجيا الحديثة في مراقبة الزلازل وتعزيز الاستقرار، حيث أصبح بإمكان الجهات المعنية اتخاذ الإجراءات المناسبة بسرعة وفعالية. وتبرز الشبكة القومية للزلازل كركيزة أساسية في حماية المجتمع المصري، مما يعزز من مكانة مصر الإقليمية والعالمية في مواجهة الكوارث الطبيعية، ويدعم الجهود الرامية لتوفير بيئة آمنة ومستقرة لجميع المواطنين.

 

ك

 

مقالات مشابهة

  • محمد بن راشد مستذكراً الشيخ زايد: رحم الله الأب القائد والزعيم الخالد
  • منة شلبي وأبطال “الهوى سلطان” يحتفلون بالعرض الخاص بهذا الموعد
  • تدهورت حالته بعد تسمم في الدم.. القصة الكاملة لمرض صالح العويل
  • المستشار “صالح” يرحب بتصويت مجلس الأمن على تمديد مهمة البعثة الأممية في ليبيا
  • “الصحة” تطلق حملة وطنية للتحصين بجرعة داعمة ضد مرض الحصبة
  • جامعة كفر الشيخ تنظم البرنامج التثقيفي القوافل الدعوية
  • هل يجوز أداء عمرتين في اليوم نفسه؟.. الشيخ “عبدالله المنيع” يوضح
  • عاجل - هزة أرضية بقوة 4.25 تضرب منطقة قريبة من شرم الشيخ
  • “جمعية أصدقاء” و ” احسان” توزعان كسوة الشتاء على اللاعبين السابقين وأسرهم
  • مناقشة رواية "ثلاث ملكات من مصر" لـ منى زكى بمكتبة القاهرة