العمانيون والبحر خطان متلازمان، سارا معاً وشكلا جزءاً كبيراً من التاريخ العماني، وأسهما في الأحداث على المستوى العالمي. لقد لُقب العمانيون بأسياد البحار، لخبرتهم الطويلة في ارتيادها، وفي صناعة السفن؛ التي كانت قوة عمان العسكرية والاقتصادية عبر التاريخ. إذا تتبعنا التاريخ البحري العماني مع الحضارات المجاورة سنجد أن عمان لعبت دوراً بارزاً وشغلت مساحة كبيرة من تاريخهم البحري.
سفينة كَدم.. هي الحلقة الثالثة من السلسلة التي أكتبها حول النقوش الصخرية في مدينة كدم. يحاول هذا المقال تحليل رسم سفينة كدم الذي أعدّه من أكثر الرموز غموضاً في مدينة كدم، ومحاولة ربطه بكونه وثيقة جاءتنا من عمق الحضارة العمانية وبين التاريخ البحري التي تحلت به سلطنة عُمان على مر التاريخ. الرمز أدى إلى تساؤلات عدة؛ أهمها عن السبب وراء وجود هذا الرمز في منطقة بقلب سلطنة عمان؟ إذ تبعد مدينة كدم عن البحر بحوالي 200 كيلومتر. فما الرسالة التي يريد الراسم أن يعبر عنها لحظة تدوين هذا النقش؟ في مقالي السابق "الرمز T و12 ألف عام" المنشور في جريدة عمان، بتاريخ: 29 مايو 2023م، قسمت الرمز الصخرية إلى نموذجين رئيسيين: الأول.. الرموز الدينية، والتي تشكل الجانب الأكبر من العالم القديم، ومن أمثلتها: رمز الثعبان، ورمز الإله آب، ورمز القرابين. الثاني.. الرموز الاقتصادية؛ وهي تعبر عن الجانب المعيشي في حياة الإنسان القديم، ومثالها: رمز السفينة، ورمز النخيل، ورمز الصيد. هذان النموذجان انبثق منهما فرع جديد مركب، أطلقت عليه "الرموز المركبة"، وهي بمثابة اللغة الحضارية الأولى لدى البشرية.
جغرافياً.. يقع رمز السفينة في وسط المنطقة الدينية بمدينة كدم، التي يحدها من الشرق جبل قرن كدم، الذي نسبت إليه اسم المدينة. ومن الجنوب المنطقة الإدارية لمدينة كدم، وهي منطقة غنية بالنقوش والآثار التي تعود إلى حقب زمنية متباعدة. ونحن بصدد إنجاز عمل توثيقي قمنا به في تلك المنطقة لموسمين متتاليين، في كتاب يمكن للباحثين والمختصين الاستفادة منه، كونه يحوي على اكتشافات جديدة من نوعها. ومن الغرب تحدها بلدتا: غمر وبلاد سيت، ومن الوسط يشق المنطقة الدينية الوادي الكبير المتجمع من أودية الحمراء والمتجه نحو بهلا. يقسم الوادي المنطقة الدينية قسمين: الأول يقع محاذياً لجبل كدم، ويضم "معبد ني صلت" و"كهوف أضاحي القرابين" التابعة لذات المعبد. والثاني هو قلب المدينة الدينية، وهي المنطقة الأكثر ثراءً في المدينة بما تحويه من آثار ونقوش كثيرة لحقب زمنية متعاقبة، بعضها يعود إلى حقب بائدة من الزمن، وبحسب الدكتور المتخصص في علم الحضارة عبدالمنعم المحجوب أثناء زيارته لنا في مدينة كدم واطلع على الآثار الموجودة فيها، يذهب بأن بعض النقوش تعود إلى 10 ألف سنة قبل الميلاد.
بتتبعي رمز السفينة وجدت أنه موجود في عدة أماكن بسلطنة عمان وخارجها، مع اختلاف في دقة رسم الرمز. في سلطنة عمان، يوجد رمز السفينة في مدينة كدم ما بين الحمراء وبهلا، وفي جبل السروج بولاية منح، ووادي ضم بولاية عبري، وواديَي بني عوف والسحتن في الرستاق. وقد قام العالم الإيطالي المتخصص في الفن الصخري أنجيلو فوساتي بدراسة الرسوم الصخرية في سلطنة عمان، بما في ذلك رمز السفينة. يرى فوساتي أن هذه الرموز ذات أهمية بالغة، ويرجع سبب وجودها أساساً إلى الموقع الجغرافي لعمان ودورها التجاري مع محيطها، مشيراً إلى أن بعض هذه الرسومات تعود إلى الألفيتين الخامسة والسادسة قبل الميلاد.
خارج سلطنة عمان، تعد النقوش الموجودة في منطقة الجساسية بقطر من الأشهر على سواحل الخليج العربي، حيث يقسمها المختصون في قطر إلى فئتين استناداً إلى طريقة نقش السفن والتقنية المستخدمة. هناك نقوش تصور السفن من الأعلى، وأخرى تصور مشاهد جانبية للسفن. ويعتقد المختصون أن هذه السفن تعكس تطابق وجود الرمز مع الموقع الجغرافي وطبيعة الاقتصاد القطري في الماضي.
رمز السفينة يعكس أهمية العلاقة العميقة بين الإنسان والبحر، وما دار من رحلات واكتشافات، بعضها كان له الأثر في تغيير مسار العالم، وهنا أضع عدة أسباب لوجود رمز السفينة في مدينة كدم:
أولاً: أهمية المكان، يذهب والدي في مقاله "كدم.. أقدم مدينة عمانية وأول تقرير عن توثيقها" المنشور في جريدة "عمان"، بتاريخ:24 يناير 2021م، إلى بيان أهمية المكانة التي عاشتها مدينة كدم عبر التاريخ. ولذلك، ألخص المقال بأن مدينة كدم، التي يحيطها سور يمتد لحوالي 25 كيلومتراً ومعبدها "ني صلت" الذي يرجح أنه يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، والرسومات الضخمة الموجودة في المنطقة الإدارية والآثار المتوزعة في المدينة، تجعل من كدم موقعاً ذا أهمية في التاريخ الحضاري العماني. وهذا غير مستبعد، فالمدن المحيطة بكدم مثل: بهلا ونزوى وإزكي كانت عواصم لعمان مدداً طويلة، وكانت تُدار منها شؤون عمان. لذا، فإن رمز السفينة في كدم يأتي ليعكس نفس الفكرة، وهي الهيمنة وبسط النفوذ على الساحل والداخل في عمان.
ثانياً.. الدور الديني، الدين هو المحرك الأكبر للجموع البشرية عبر التاريخ. فالطقوس والممارسات الدينية التي مارسها الإنسان في الحضارات القديمة، يمكن مشاهدة آثارها في مدينة كدم. فمعبد "ني صلت"، وكهوف الأضاحي، ورسومات الأبقار الضخمة، ورمز الثعبان، ورمز T، جميعها تدل على ظواهر دينية كانت تُمارس في كدم. ومن المرجح أن تكون المنطقة مكاناً كان يُحج إليه الناس من أصقاع مختلفة ورمز السفينة هو لتخليد رحلة المتعبدين الذين يحجون إلى مدينة كدم أو هي التي تذهب بهم إلى عالم الخلود.
ثالثاً: تأثير الأسطورة، تُشكّل الأسطورة جزءاً كبيراً من العالم القديم، فلا تخلو حضارة من الأساطير، حتى تلك التي يعتبرها العالم متقدمة في زمانها، تكون الأسطورة مكوناً بارزاً في مجتمعاتها البشرية. وتتداخل الأسطورة مع السفينة، إذ كانت السفينة الوسيلة الأكثر تقدماً لنقل الناس في ذلك الزمان، مما يحرك الخيال ويجعله خصباً في خلق الأساطير. ومن الأساطير الحضارية التي تُظهر السفينة كوسيلة خارقة تلك التي ذكرت الإله رع، معبود المصريين القدماء، وهو يعرج إلى السماء نهاراً، ويسري إلى العالم السفلي ليلاً. وكذلك الأسطورة المذكورة في ملحمة جلجامش، حيث قام البطل الأسطوري أوراك ببناء سفينة استطاع من خلالها النجاة من الطوفان العظيم. كان للأسطورة في العالم القديم أثر بالغ على نفوس الناس، إذ إنني لا أستبعد من أن راسم رمز السفينة في مدينة كدم كان يُعبر عن حدث أسطوري يريد تخليد ذكراه.
تحتاج الرموز الصخرية إلى وقفة علمية جادة من قبل المختصين، وجهد مضاعف في دراستها. وإن العمل على دراسة الحضارات القديمة يتطلب تراكماً معرفياً ضخماً ومؤسسات بحثية تستقطب باحثين مختصين لإنتاج دراسات محكمة، وتشكيل فرق ميدانية لاستخراج الكنوز التي خلفها الإنسان القديم. وليس من السهل إنجاز دراسة حضارية تعود إلى آلاف السنين وجعلها متاحة للباحثين والقراء من دون توفر أدوات البحث والمواد العلمية الكافية. بالإضافة أن العمل في البحث الحضاري هو عمل دؤوب، يحتاج إلى صبر من الإنسان، ويعلمه معنى التواضع، ويكسبه حصيلة علمية وافرة. كما يكشف كيف كان الإنسان وكيف تطور، والعقبات التي واجهها وتجاوزها. اليوم أصبح العمل في التاريخ الحضاري لبعض الدول من أولوياتها الوطنية لأنها تجلب ثروات معرفية واقتصادية كبيرة لها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قبل المیلاد سلطنة عمان تعود إلى التی ت
إقرأ أيضاً:
الصين تطلق أول سفينة إنزال في العالم.. ما موصفاتها؟
في خطوة تهدف إلى تعزيز القدرات القتالية لأسطولها البحري، أطلقت الصين، “سفينة الإنزال “سيتشوان” التي تم تزويدها بتقنيات تمكن المقاتلات من الهبوط على سطحها والإقلاع منها”.
وبحسب وكالة “شنيخوا” الصينية، “ستزيد تلك السفينة إلى حد بعيد من إمكانات سلاح البحرية الصيني في البحار البعيدة، وتعتبر “سيتشوان” أول سفينة من مشروع 076، وهي أضخم سفينة في فئة سفن الإنزال في الصين، وبلغت إزاحتها 30000 طن، ومزودة بمنجنيق كهرومغناطيسي يسمح للمقاتلات بالإقلاع من سطحها مباشرة”.
ووفق الوكالة، “تخصص السفينة لإنزال مشاة البحرية ودعمهم من الجو. وإضافة إلى المنجنيق الكهرومغناطيسي هناك تقنيات من شأنها إخماد سرعة الطائرات الحربية عند هبوطها. وتم تطوير تلك التقنيات من قبل المتخصصين الصينيين”.
مواصفات سفينة “سيتشوان”
ستصبح السفينة أكبر سفينة هجومية برمائية في العالم طول سطح الطيران: حوالي 260 مترًا عرض سطح الطيران: 52 مترًا مساحة سطح الطيران: حوالي 13500 متر مربع تحمل السفينة البرمائية الهجومية “سيتشوان” العشرات من الطائرات ومركبات الإنزال البرمائية وأكثر من 1000 من مشاة البحرية تم تزويد السفينة بتقنيات تكنولوجية متطورة إضافية، حيث ستحتوي على المنجنيق الكهرومغناطيسي الذي يُتيح إطلاق الطائرات المقاتلة (المروحية والمسيرة) مباشرة من سطحها العملاق يبلغ طول خندق المنجنيق نحو 130 متراً، وهو أطول من المنجنيق على حاملة الطائرات الصينية “فوجيان”، الذي يبلغ طوله 108 أمتار يتميز تصميم “سيتشوان” بمنصة بئر قابلة للغمر لإطلاق المركبات مثل مركبات الإنزال ذات الوسائد الهوائية من الطراز 726.يذكر أن أول سفينة إنزال من مشروع 075 تم إنزالها في البحر عام 2019.
آخر تحديث: 2 يناير 2025 - 19:26