جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-19@14:01:08 GMT

صناعة الأثر

تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT

صناعة الأثر

 

د. صالح الفهدي

قال أحدهم: "قد لا يكون لدينا تصورًا واضحًا للمستقبل، لكننا نحرصُ على اتخاذ القرارات الصحيحة بقدر ما نستطيع في حاضرنا"، وهذه في نظري هي الخطوة الأهم في صناعة الأثر؛ أي أن يتخذ القرارات الصحيحة بقدر ما يتصوّرُ أنها صحيحة، وعلى إِثر ذلك يتحدّد المستقبل، وترتسم صورته، فالذي يتجّهُ إلى مكانٍ وهو لا يعرفُ الطريق إليه، فإِن أوّل ما يفعلهُ هو أن ينظر موقعه في الخارطة ثم يبحثُ عن أمثلِ وأفضل الطرق المؤدِّية إليه، بعد ذلك ينطلقُ متوجِّهًا نحوه، ولا يحيدُ عنهُ، ولهذا يُقالُ: "من جدّ وجد، ومن سار على الدربِ وصل" أي وصل إلى مبتغاهُ طالما حدّد لنفسه الطريق الصحيح.

تتساوقُ إلى ذهني وجوهُ بعض الناس الذين عرفتُ فيهم الرشد لكنّهم صنعوا لأنفسهم أثرًا غير حميد، لأنّهم قرروا في لحظةٍ من اللحظات أن يتّجهوا نحو غايةٍ طرح لأجلها الطمع أنفسهم فأرداها، وأعمى قلوبها، وأصمّ آذانها، ورسم لهم أنفسهم وهم في غنىً فاحش، ورفاهيةٍ طافحةٍ، ووجاهةٍ نافذةٍ، لكنّهم- وهم في الطريقِ لتلك الغاية- وقعوا في حفرةٍ كلّفتهم أثمانًا باهظةً، فألقوا وراء القضبانِ، وصار الأثرُ الذي كانوا يحلمون بصنعهِ لأجل مجدهم وبالًا على سمعتهم، وخيبةً على آمالهم، وخزيًا على أُسرهم، ونكالًا على أنفسهم، ولو أنهم "اتخذوا القرارات الصحيحة" قبل أن يخطو خطاهم الأُولى، لتمثّلت لهم كل هذه الصور القاتمة المُرعبة، ورأوا الأثر الوخيم الذي سلكوه وراءهم، والحفر التي يمكنُ أن يقعوا فيها، لكنّ غيّهم غلب رشدهم، وهواهم غشى على نظرهم، وطمعهم تحكّم في عقلهم.

والنّاسُ بين ثلاثة: صانعُ أثرٍ إيجابي من أجل الخير، وصانعُ أثرٍ سلبيِّ من أجل الشهرة الزائفة، وثالث حيادي لا أثر له، وكأن وجوده عدم، أمّا الأوّل فهو الذي ترى أثره في المجتمعِ بيِّنًا، جليًّا، في أعمالِ البرِّ التي يفعلها، أو يدعو لها، أو تراهُ نشطًا في مجالِ التّطوِّعِ يسخِّرُ جهودهُ، وطاقته من أجل مساعدةِ النّاس، والأخذِ بأياديهم، أو تجدهُ مجتهدًا في الإِصلاحِ بما يملكُ من موهبةٍ وقدرةٍ على إيصال الكلمة الطيبة، والنصيحة السديدة، أو تنظرُ إليه وقد أفاد الناس من علمه الذي رزقهُ الله إياه، أو من مهنته التي تميّز فيها، أو ساعد النّاس من مالٍ استخلفهُ اللهُ عليه.

هذا النموذج المشرِّف لصانع الأثر الإيجابي الحميد يُبرزُ نفسه، ويسعى إلى غايته بذاته، ولديّ في ذلك أمثلةٌ أذكرُ منها أنّ طبيب أسنانٍ تواصل معي ليطلب مني أن أوصلهُ بجمعية خيرية تهتم بالمسنِّين لأنه يريدُ أن يساعد في علاجهم دون مقابل هو وفريقه من الأطباء والممرضين، وهكذا تم له الأمر، وآخر يطلبُ مني أن أُوصل إليه كل من كان في حاجةٍ مالية ليساعده ولو بالنزر القليل، وآخر أفادني بأنه يسعى إلى كلِّ من حاد عن منهجِ اللهِ فألحد ليعيد إليه رشده، ويبشرني بالأعداد التي منّ الله هديهم على يديه، يقول الشاعر عروة بن الورد:

أحاديث تبقى والفتى غيرُ خالِدٍ

إِذا هُو أمسى هامةً فوق صُيّرِ

أما النوع الثاني من الناس وهو صانع الأثر السلبي الذي يسعى وراء شهرةٍ زائفة، فهذا ينتمي إلى "المروِّجين"، و"المسوِّقين" لفسادِ الأخلاق بتخليهم عن الحشمةِ، والعفّةِ، وحفظ العِرضِ بغية فقاعات الشهرة المغشوشة التي ظنوا أنّ انسلاخهم الأخلاقي يجعلهم من صنّاع الأثر، دون أن يعنيهم نوع الأثر، حتى ارتدُّت عليهم أفعالهم خزيًا وضياعًا وفسادًا.

أما الثالث الذي لا أثر له في حياته فهو ذلك السّبهلل الذي لا ظلّ لهُ إن مشى، ولا أثر له إن خطا، ولا صوت له إن تكلّم، وهو الذي يقول فيه المثل الشعبي:"إن جئت غير منقود، وإن غبت غير مفقود"، يمضي كما الغبارُ الذي لا يتركُ أثرًا بعده، ويرحل كما ترحل آثار الخطى التي يكنسها موج البحر على الساحل.

صناعة الأثر لا يجدر بها إلا "المؤثرين" الذين يتميّزون في أفكارهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، فيفيدون أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم، ويصبحون قدواتٍ لها أثرها الإيجابي عند الناس. هؤلاءِ هم العظماء الذين تقدّمت بهم أوطانهم، وارتقت بهم مجتمعاتهم، وسادت بهم أُممهم، تمثّل صنّاع الأثرِ بقول أحمد شوقي:

خُذ لك زادينِ مِن سيرةٍ

 ومِن عملٍ صالِحٍ يُدّخر

وكُن في الطريقِ عفيف الخُطا

شريف السماعِ كريم النظر

وكُن رجُلًا إِن أتوا بعدهُ

 يقولون مرّ وهذا الأثر

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

عرب المقاومة وفن صناعة الهزائم

“خذ وطالب”. اقبل بالقليل للحصول على الكثير، هذه هي الفلسفة التي حاول الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة إقناع الحكام العرب والشعوب العربية بانتهاجها قبل 52 عاماً. لم نصغِ إليه سواء على المستوى الشعبي أو على مستوى القيادات، لنصل اليوم إلى وضع وجدنا فيه أنفسنا قد تخلينا عن الكثير، ولم نحرز سوى القليل.
رغم ذلك، هناك دلائل إيجابية تشير إلى أن العرب، حكومات وشعوبًا، بدأوا يدركون أهمية نصيحة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة بعد أكثر من نصف قرن، ويبدون استعدادًا، أكثر من أي وقت مضى، للأخذ والمطالبة.
ماذا فعلنا خلال 52 عامًا، حتى لا أقول قبل 77 عامًا 1948، سوى خلق الأزمات والهزائم؟ والغريب أننا في كل مرة نتعرض فيها للهزيمة، وبعد أن يتدخل العالم لإنقاذنا، نتباهى بالنصر الذي حققناه.
في عام 1973، دعا بورقيبة العرب إلى فتح قنوات للحوار مع إسرائيل، ورأى في ذلك خطوة ضرورية نحو تحقيق السلام، معتبرًا أن الحلول العسكرية لم تعد كافية. وأشار إلى ضرورة الاعتراف بوجود إسرائيل كواقع يجب التكيف معه، مع التأكيد على أن هذا الاعتراف لا يجب أن يكون على حساب الحقوق الفلسطينية.


كان بورقيبة يدرك، بحكم علاقاته وخبراته، طبيعة العلاقات التي تربط إسرائيل بالغرب، بالتحديد الولايات المتحدة، وأن أيّ حرب بين العرب وإسرائيل، هي حرب بين العرب والولايات المتحدة. ومن هنا كان انتقاده للاستمرار في الصراع المسلح.
ما أراده الحبيب بورقيبة من العرب هو أن يعملوا بقوله تعالى: “لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”، مشددًا على الحاجة إلى إستراتيجيات جديدة تركز على المفاوضات والدبلوماسية.
أليس هذا هو أقصى ما نطمح إليه اليوم؟
عضو المكتب السياسي لحركة حماس، ورئيس حركة حماس في غزة، خليل الحية، يعتقد أن حماس قد حررت القدس، غاب عنه ولم ينتبه إلى دور الرئيس الأمريكي القادم، دونالد ترامب، الذي أجبرت تهديداته إسرائيل على القبول باتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار.
رغم كلمة الحية التي جاءت بمناسبة التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وقال فيها إن “الاحتلال الإسرائيلي فشل في تحقيق أيّ من أهدافه السرية أو المعلنة،” وأن “الاحتلال حاول منذ بدء العدوان تحقيق العديد من الأهداف، أعلن بعضها وأخفى البعض الآخر” ومنها، وفق الحية، “إنهاء آثار العبور المجيد في السابع من أكتوبر(تشرين الأول) 2023.” رغم هذا الإصرار على انتصار متوهم، هناك مؤشرات إيجابية بدأت تظهر معالمها قبل الاتفاق، وقبل خطاب النصر هذا.
ولكن، ما هي المؤشرات الإيجابية، ونحن ما زلنا نرى الحوثيين يهددون أمن المنطقة، وما زال حزب الله يبحث عن طريقة يفسد فيها فرحة اللبنانيين بانتخاب رئيس جديد واختيار رئيس للحكومة، وما زال المستقبل في سوريا غامضًا، والأطراف المتقاتلة في السودان تصر على التصعيد، وفي ليبيا، بعد 14 عامًا، لا توجد أيّ إشارة واضحة على أن المتصارعين على الثروات مستعدون لتقديم أيّ تنازلات.
باختصار، المناطق المهددة بالانفجار أكثر بكثير من المناطق التي يسودها الهدوء.
لن أكرر ما قاله يومًا الشاعر ابن النحوي: “اشتدي أزمة تنفرجي”. فالأزمات تحاصر المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى وقبلها.. ماذا اختلف الآن حتى تنفرج؟
الاختلاف، دخول عاملين جديدين على الخط: العامل الأول هو الهوة الاقتصادية التي تركت دولًا يفترض أن تحيا شعوبها في وضع ميسور محاصرة بالجوع والخصاصة. والعامل الثاني هو ثورة الاتصالات والمعلومات التي أصبح احتكار الخبر فيها مستحيلًا حتى على أقوى الحكومات.
في عام 1956، شنت دول ثلاث هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عدوانًا على مصر، عرف بالعدوان الثلاثي، بهدف الإطاحة بالرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي أعلن عن تأميم قناة السويس. وجرت ضغوط على الدول المعتدية من قبل الولايات المتحدة (التي كانت تخشى من تصعيد الحرب الباردة) لسحب قواتها. بينما لم تنتصر مصر عسكريًا، إلا أن انسحاب القوات المهاجمة ساهم في تعزيز مكانة جمال عبدالناصر، واعتُبر انتصارًا سياسيًا لمصر في سياستها القومية.


عاش الشارع العربي حينها على نشوة النصر ونشوة أغنية “الله أكبر”، وتحولت الأغنية إلى نشيد وطني رسمي في ليبيا من 1 سبتمبر 1969، وحتى 23 أغسطس 2011، أي طيلة حكم العقيد الليبي الراحل معمر القذافي.
اليوم، وبفعل العاملين اللذين تم ذكرهما، لن نسمع أغنية تمجد انتصارات وهمية. الأمور ستسمى بأسمائها، حتى لو خرج علينا من يتحدث عن “العبور المجيد”.
في سوريا، لا يتحدث أحمد الشرع، رغم خلفيته الجهادية، عن انتصارات وهمية، بل يتحدث عن التسامح وعن علاقات طبيعية مع دول الجوار دون أن يستثني من ذلك إسرائيل.
أول قرار اتخذ في لبنان بعد الاتفاق مع إسرائيل وانتخاب رئيس جديد للبلاد هو إعادة التحقيق بانفجار مرفأ بيروت لكشف الحقائق ومحاسبة المسؤولين.
وفي غزة، يحلم الغزيون أن يتحول القطاع إلى هونغ كونغ جديدة حتى ولو كان ذلك بمساعدات من الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي هدد بجحيم يجتاح المنطقة إن لم يتم التوصل إلى اتفاق.
الأمر لا يختلف في العراق، وفي اليمن، وفي السودان وفي كل بقعة تشهد صراعًا وأزمات. حتى في إيران، التي فقدت أذرعها، وثبت بالتجربة أن ترسانتها العسكرية منتهية الصلاحية ولا يمكن أن تحقق بواسطتها أيّ نصر عسكري أو حتى تكفي للدفاع عن نفسها، سعي طهران اليوم لامتلاك النووي يأتي من باب التهديد بالانتحار والعمل بالقول عليّ وعلى أعدائي.

مقالات مشابهة

  • نائبة: عمليات الترميم والصيانة تواجه إشكاليات أدت إلى تدهور الأثر
  • عرب المقاومة وفن صناعة الهزائم
  • هل يأكل الشيطان من طعام الشخص الذي لم يذكر التسمية؟ صحح معلوماتك
  • مفتي الجمهورية: التكفير يعدُّ من أهم العقبات التي ابتليت بها هذه الأمة
  • مفتي الجمهورية: الملاحدة يتناقضون مع أنفسهم في إنكار وجود الله
  • كيف علّق برّي على اللقاء الذي جمعه بنواف سلام؟
  • مؤسس شركة إعمار يتحدث عن أسباب طرده لفريق التسويق: ما أبيع قهوة .. فيديو
  • إسرائيل تبلغ أهالي المختطفين بالاتفاق الذي تم التوصل إليه
  • رنا سماحة: أنا لا اتخنت ولا خنت وخلعت زوجي ولن أعود إليه.. فيديو
  • اتحاد الكرة ينفي صحة الخطاب المنسوب إليه بشأن القسم الرابع