الكاتب دافيدي بيكاردو: الإيطاليون يقفون مع فلسطين رغم انحيازات النخب
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
"ليس إماما ولكن يتمتع بتأثير كبير بين مسلمي إيطاليا، اسمه دافيدي بيكاردو وهو القائل أن حماس حركة مقاومة".
هكذا وصفه الصحفيان الإيطاليان كلاوديو أنطونيللي وسلفاتوري دراغو بعيد إعلانه عن دعمه الكامل لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في وقفة تنكر كل "أصدقاء فلسطين" في إيطاليا لحق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة.
هو ابن مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإيطالية روبيرتو حمزة بيكاردو، والرئيس السابق لتنسيقية الجمعيات الإسلامية في ميلانو.
يدير دافيدي بيكاردو حاليا مجلة "لا لوتشي" وقد انفرد مؤخرا بمحاورة القيادي بحماس، باسم نعيم، وذلك في ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة والتحريض على المقاومة الفلسطينية في وسائل الإعلام الإيطالية، واستضافته الجزيرة نت حول قضايا فلسطين والعلاقة بين العالمين العربي والأوروبي:
أنت الصحفي الوحيد في إيطاليا الذي حاور قياديا في حماس منذ بدء العدوان على غزة بالرغم من الحظر غير المعلن على وجوه الحركة في الإعلام الغربي عامة، بل ذهبت لاعتبار حماس حركة مقاومة تحررية. ألم تقلق من أن تتهم بالترويج لـ"إرهابيين" خصوصا بعد التنديد الواسع الذي قوبلت به حماس في إيطاليا بعد عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول سواء من الأوساط اليسارية أو اليمينية، وقبل كل هذا وذاك تصنيف الحركة رسميا من طرف الاتحاد الأوروبي بأنها منظمة إرهابية؟صحيح أن النقاش السياسي والإعلامي في إيطاليا ليس حرا -عكس كل الادعاءات- وهو ما خلق شرخا بين النخب والشعب الإيطالي الذي يقف مع الفلسطينيين بالرغم من الانحياز الإعلامي الكامل لصالح إسرائيل.
النقاش السياسي والإعلامي في إيطاليا ليس حرا -عكس كل الادعاءات- وهو ما خلق شرخا بين النخب والشعب الإيطالي الذي يقف مع الفلسطينيين بالرغم من الانحياز الإعلامي الكامل لصالح إسرائيل
ونحن في مجلة "لا لوتشي" اخترنا صف الشعوب وصف الإعلام الحر، فإن كان هناك صراع في مكان ما فلا معنى من التعتيم على أحد طرفي الصراع. شيطنة حماس، ومحاولة خلع إنسانيتها من خلال سياسة التعتيم تعني أن هناك من يخشى إيصال صوت طرف من شأنه أن يؤثر على الرأي العام بطرحه العقلاني الذي قد يحطم منطق الإبادة التي تتعرض لها غزة المسكونة بوحوش تهدد وجود الغرب نفسه، بحسب إعلام "التيار السائد". في حين أننا أمام شعب يدافع عن نفسه من احتلال غاشم.
الحوار الذي أجريناه كان سبقا إعلاميا لم تجرؤ أي وسيلة إعلامية كبرى في إيطاليا على إعادة نشره. أما عن تهمة الترويج للإرهاب، فقرار الاتحاد الأوروبي سياسي وليس له أي سند قانوني.
إن اعتبرنا المقاومة المسلحة ضد الاحتلال إرهابا، علينا إذن أن نندد بأثر رجعي بجميع حركات التحرر الوطنية التي عرفها التاريخ.
وأما إن اعتبرنا المقاومة المسلحة ضد الاحتلال إرهابا، علينا إذن أن نندد بأثر رجعي بجميع حركات التحرر الوطنية التي عرفها التاريخ. والحقيقة أن الإرهاب الفعلي كما يرى اليوم العالم أجمع هو ما تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، وليس ما تقوم به حماس.
لاحظنا أن إيطاليا، بالرغم من كل شيء لم تتبن التدابير الاستثنائية التي اتخذتها فرنسا أو ألمانيا وبريطانيا في التعامل مع المتظاهرين أو المتعاطفين مع حماس. ما الذي يجعل إيطاليا معتدلة سياسيا إلى حد كبير في موقفها من الشأن الفلسطيني؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى موقف حزب "إخوة إيطاليا" الحاكم -الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني- و"فورزا إيطاليا" -الذي أسسه رئيس الوزراء الراحل سيلفيو بيرلوسكوني، ويرأسه حاليا وزير الخارجية أنطونيو تاياني- وقد رفض الحزبان الانضمام للمظاهرة "الكبرى" التي دعا لها الوزير اليميني ماتيو سالفيني في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري لدعم إسرائيل وهو شريكهما في الائتلاف الحكومي (عن حزب "رابطة الشمال"). هل يوجد جذور ثقافية لهذا الموقف؟إيطاليا لها تقاليد راسخة في العلاقات مع العالم العربي والإسلامي. فهذا بلد السياسي الراحل إنريكو ماتي الذي وقف مع ثورة التحرير الجزائرية وساند جبهة التحرير الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وقد كلفه ذلك في وقت لاحق حياته.
إنها بلد السياسي والبرلماني بيتينو كراكسي صديق عرفات الشخصي الذي دافع عن حق الفلسطينيين للجوء للمقاومة المسلحة. إنها بلد الرئيس الأسبق ساندرو بيتريني الذي ندد بمجازر صبرا وشاتيلا بأقسى العبارات، كما أنها أيضا بلد السياسيين المخضرمين ألدو مورو وجوليو أندريوتي اللذين تمكنا من الحفاظ على علاقات متوازنة مع العالم العربي.
في الجمهورية الثانية عرفت إيطاليا أيضا زعيمين سياسيين كبيرين أحدهما من اليمين والآخر من اليسار، سيلفيو بيرلوسكوني وماسيمو داليما وكلاهما عرف كيف يبقي على علاقات مميزة مع العالم العربي. هذا التاريخ صنع شيئا يشبه البصمة الوراثية لإيطاليا في علاقاتها مع الدول العربية، بالإضافة إلى عامل القرب الجغرافي، فإيطاليا حريصة على أن تكون جسرا على المتوسط بين العالم العربي وأوروبا.
بالرغم من مواقف ميلوني المنبطحة للولايات المتحدة في تحديد سياساتها الخارجية كما اتضح في أكثر من مناسبة، فإنها لا يمكن أن تتجاهل التاريخ والجغرافيا ولا حتى الديموغرافيا في صياغة موقفها من العالم العربي والإسلامي.
وبالرغم من مواقف ميلوني المنبطحة للولايات المتحدة في تحديد سياساتها الخارجية كما اتضح في أكثر من مناسبة، فإنها لا يمكن أن تتجاهل التاريخ والجغرافيا ولا حتى الديموغرافيا في صياغة موقفها من العالم العربي والإسلامي. ففي مظاهرة 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري التي أشرت إليها، لم يلب نداء الوزير اليميني سالفيني سوى 500 شخص أغلبهم من المسنين، بينما كانت ميلانو تحصي في الوقت نفسه 30 ألف شخص يتظاهرون نصرة لفلسطين أغلبهم من الشبيبة الإيطالية المسلمة. هذه كلها معطيات لا تغفل عنها الجهات المختصة عند تحديد الموقف الجيوسياسي للبلاد.
الافتتاحية التي كتبتها بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في "لا لوتشي" أتت تحت عنوان: "أعداء فلسطين وأصدقاؤها المزيفون: جبهتا البروبغندا الإيطالية". من أعداء فلسطين وأصدقاؤها المزيفون؟ ولماذا اعتبرت أن خطر الأصدقاء الزائفين لا يقل عن خطر الأعداء؟الأعداء الصريحون لفلسطين هم ممثلو ذلك "اليمين المؤسساتي" الذي يعتقد أن إسرائيل تخوض حربها نيابة عنه وعن الغرب كله في إطار نظرية "صدام الحضارات"، لذلك نجدهم يمنحون تأييدهم التام لـرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في هذه "الحرب الصليبية التي لا دين فيها".
الأعداء الصريحون لفلسطين هم ممثلو ذلك "اليمين المؤسساتي" الذي يعتقد أن إسرائيل تخوض حربها نيابة عنه وعن الغرب كله في إطار نظرية "صدام الحضارات".
واللافت هنا هو نجاح إسرائيل في طرح نفسها كجزء من العالم الغربي، بالرغم من أنها دولة عرقية قائمة على رؤية دينية وهي العناصر ذاتها التي يعيبها الغرب على العالم الإسلامي.
في المقابل نجد اليسار الإيطالي الذي كان يقف في وقت من الأوقات في صف الشعوب المضطهدة ويؤيد حركات التحرر من الاستعمار أصبح الآن لا يدعم الشعب الفلسطيني سوى على نحو "مجرد" لا يفضي إلى أي شيء ملموس، كأن يستخدم الأسطوانة المشروخة "حل الدولتين"، وذلك لإراحة ضميره وإقفال أفواه الفلسطينيين الذين يطالبونه بتسجيل موقف ما.
اليسار الإيطالي الذي كان يقف في وقت من الأوقات في صف الشعوب المضطهدة ويؤيد حركات التحرر من الاستعمار أصبح الآن لا يدعم الشعب الفلسطيني سوى على نحو "مجرد" لا يفضي إلى أي شيء ملموس.
شخصيا أرى أن موقف اليمين أشرف منه؛ لأنه يدعم بصدق طرفا واحدا، بينما اليسار لا يزال يلوك عبارة "حل الدولتين" مع أنه يعلم جيدا أن إسرائيل لن تعطي للفلسطينيين دولة.
الفلسطينيون الذين تخلى عنهم العالم أجمع، ما الذي بيدهم فعله أمام كل المظالم التي يتعرضون لها؟ ألا يحق لهم المقاومة؟ "لا، لا يحق لهم". هذا هو ببساطة جواب اليسار وهكذا سقط عنه القناع خلال هذا العدوان. ذلك أنه إن كان هناك حق، فلا بد من آلية عملية لإنفاذه.
خطورة اليسار الإيطالي اليوم على القضية الفلسطينية لا تكمن في أنه اختار بيع الكلام لفلسطين فحسب، بل رفضه المقاومة الحقة للفلسطينيين، خصوصا إن كانوا مسلمين. وهذا ملمح خطير آخر من سلوك اليسار الذي لا يريد فلسطينيين سوى على شاكلته، يريد "علمانيين، نسويين، ولم لا أيضا متحولين جنسيا".
لكن خطورة اليسار الإيطالي اليوم على القضية الفلسطينية لا تكمن في أنه اختار بيع الكلام لفلسطين فحسب، بل رفضه المقاومة الحقة للفلسطينيين، خصوصا إن كانوا مسلمين. وهذا ملمح خطير آخر من سلوك اليسار الذي لا يريد فلسطينيين سوى على شاكلته، يريد "علمانيين، نسويين، ولم لا أيضا متحولين جنسيا"، لذلك حماس لا تعجبهم.
ولا يهم في هذه الحالة إن ذهبت الديمقراطية وصناديق الانتخاب التي جلبت "حماس" إلى الجحيم. هؤلاء "الأصدقاء" يشكلون ضررا بالغا على القضية الفلسطينية لأنهم يدعون زيفا دعم نضال الشعب الفلسطيني بينما هم لا يقومون فعليا سوى بتقويضه.
الصحفي الإيطالي دافيدي بيكاردو نوه بتقاليد إيطاليا الراسخة في مجال العلاقات مع العالم العربي والإسلامي (مواقع التواصل) بما أنك أثرت موضوع "الجندر"، شاهدنا في إيطاليا وجوه إسلامية من أصول عربية مهاجرة تقف مع اليسار في الترويج لنظرية الجندر (النوع الاجتماعي). ألا يستطيع المسلم في إيطاليا والغرب عامة ممارسة السياسة دون التخلي عن عناصر أصيلة من هويته؟هذا يعيدنا إلى معضلة اليسار الحالي الذي تخلى عن هموم الشعب الحقيقية وحاضنته الأساسية وانحاز لأجندات النخب المعولمة. هذه ظاهرة تنبأ بها بالمناسبة شاعر إيطاليا اليساري الكبير بيير باولو بازوليني قبل 40 سنة. أضيفي إليها الادعاء الاستعراضي الزائف بالترحيب بالثقافات للإيهام بالتعددية وتقبل الآخر الذي لا يخرج عن تقبل وصفات طبخ المهاجرين لكن ليس رؤيتهم للعالم.
المقاربة الفولكلورية اليسارية لموضوع الهجرة تريد مسلمين ينخرطون في السياسة لاستغلالهم إعلاميا فقط بأسمائهم العربية والحجاب على رأسهم، لكن ليس قبل أن يتجردوا من تقاليدهم المحافظة، وكل ما يتعارض مع أيديولوجيا الجندر.
وهنا تحضرني مقولة لماكس فريش "طلبنا سواعد للعمل، فأتونا بشرا" وهكذا فإن المقاربة الفولكلورية اليسارية لموضوع الهجرة تريد مسلمين ينخرطون في السياسة لاستغلالهم إعلاميا فقط بأسمائهم العربية والحجاب على رأسهم، لكن ليس قبل أن يتجردوا من تقاليدهم المحافظة، وكل ما يتعارض مع أيديولوجيا الجندر. مسلمو إيطاليا لن يرضوا بهذه الانحرافات مجددا، وأنا أؤكد أن الأمور في صدد التغيير.
لذلك نحن نتوجه للحوار مع من يدافع عن القيم التي نؤمن بها على اليمين. صحيح أن الأمر غدا صعبا ضمن الاصطفافات السياسية الأخيرة التي تلت الحرب على غزة، ولكننا سنحدد التشكيلات التي تستحق أن نفتح معها حوارا فاعلا.
بالحديث عن الأسماء "العربية" التي يستغلها اليسار كما تقول للإيهام بحالة من التنوع الثقافي وتقبل الآخر في مؤسساته، تنتشر في المقابل في كواليس الجامعات الإيطالية أحاديث عن تمييز يتعرض له أساتذة مسلمون (إيطاليو الأصل) ضمن تخصصات إنسانية محددة تدفع البعض لإخفاء ديانته حتى لا تتم عرقلة مسيرته المهنية. بما أنك من أبرز الناشطين المسلمين في إيطاليا -وأكثرهم نفوذا بتوصيف جريدة "لافيريتا"- ألا تفكرون في إنشاء مرصد للإسلاموفوبيا في إيطاليا من أجل الوقوف على مثل هذه الحالات خصوصا أنها تمس عادة المسلمين الجدد، وهم إيطاليون أبا عن جد بأسماء إيطالية وليسوا مهاجرين؟بالفعل، هذه ظاهرة خطيرة للغاية، خصوصا أن الأمر يتعلق بالجامعة وهي قطاع استراتيجي ينتج المعرفة وبالتالي يشرعن للسلطة.
وقد شهدنا بعد أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول تبني سردية معادية للإسلام اصطفت معها على نحو ما الجامعة لتغدو بوقا أيديولوجيا آخر، إلى جانب الصحافة، بالرغم من أن الأمر يتعلق بحقل لا بد أن يكون فضاء حرا لإنتاج الأفكار وأن يلتزم الموضوعية والصرامة العلمية.
انحياز كهذا بالتأكيد من شأنه أن يؤثر على سمعة البحث العلمي في إيطاليا لا سيما في أقسام الدراسات الاستعرابية والإسلامية، وهذا طبعا لا يعني أن الجامعة الإيطالية تخلو من أسماء نقدية حرة، لكن مؤخرا رحل بالفعل عن عالمنا أكاديميان كبيران كانا مضطرين لإخفاء إسلامهما طيلة حياتهما وذلك بسبب الخشية من الاضطهاد المهني الذي كان من شأنهما أن يتعرضا له في حال إعلان إسلامهما.
للأسف في الوقت الحالي لا نملك الأدوات اللازمة للتصدي لهذه الظاهرة خصوصا أن الحقوق الأساسية التي تكفل حرية المعتقد غير موجودة، لذا أمامنا الكثير لفعله.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العالم العربی والإسلامی مع العالم العربی الإیطالی الذی فی إیطالیا بالرغم من سوى على إن کان
إقرأ أيضاً:
مراكز البحوث والدكتور النور حمد والإنسانية التاريخية
في هذا المقال سوف أتناول ثلاثة محاور لمفكريين إنطلقوا صوب حقول فكرهم قبل قرن من الزمن بالتمام و الكمال و الغريب الثلاث محاور تنطلق من منصات مختلفة و تتفق في هدف واحد و هذا الهدف لم تصبه جهود النخب السودانية على الإطلاق بل ضلّت منه ضلال بعيد لأسباب تخص إنكفاء النخب السودانية و عجزها عن إدراك مآلات الإنسانية التاريخية.
من الأسباب التي حالت بيننا و بين إدراك كيفية الإنفكاك من فلسفة التاريخ التقليدية إلتواء النخب السودانية و إنكفاءها على تاريخ محلي يخص مناشط النخب السودانية و هي قد نالت قدر قليل من التعليم الذي يأهلها أن تدير رتب دنيا لمساعدة المستعمر الإنجليزي و الغريب حتى اللحظة الراهنة لم تنتبه النخب السودانية أن زمن المستعمر الإنجليزي و تعليم النخب السودانية على أيدي الإنجليز كانت علوم ترتكز على فلسفة التاريخ التقليدية.
و كانت الدول الإستعمارية الأوروبية نفسها تمر بتحول هائل على صعد السياسة و الإجتماع و الإقتصاد و كان فلاسفتها و علماء الإجتماع و الإقتصاديين و الشعراء في إنشغال تام بما يتخلق ليولد من جديد في أوروبا و المولود المنتظر في أوروبا هو لحظة إنقلاب الزمان و أصبح خط تقسيم المياة بين نهرين متعاكسين في إتجاه الجريان.
نهر أوربا الفكري جرى بمياه صافية تعكس أفكار فلسفة التاريخ الحديثة و نهر النخب السودانية التي تعلمت أيام المستعمر و بسبب قلة تحصيلها أصبحت محصورة في فلسفة التاريخ التقليدية الى يومنا هذا بل صارت متوارثة في السودان جيل عبر جيل محبوسين في تاريخ السودان المحلي و تاريخ قارته و محاولة تحليله بفلسفة تاريخ تقليدية محبوسة في إحداثيات الوثوقيات و اليقينيات و الحتميات بل ما زالت آفاق النخب السودانية السودانية عالقة في أفق المؤالفة بين العلمانية و الدين لنخب توارثت الترقيع و لم تنتج أدبياتها غير توفيق كاذب يتبدى في ضلالها عن فكرة النيوكانطية و زوال سحر العالم أي أن الخطاب الديني لم يعد له دور بينيوي على صعد السياسة و الإجتماع و الإقتصاد.
لهذا السبب ما زالت النخب السودانية تعيش خيبة آمالها رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود لإنهيار حائط برلين و زوال المنظمومة الإشتراكية و الآن قد خباء بريق الخطاب الديني المنغلق و ها هو ولي العهد السعودي يسدل الستار على إبعاد رجال الدين المزعجين و يقول أن أفكارهم ضد التنمية و ضد الحداثة إلا أن كثر من النخب السودانية تظن أن هناك إمكانية مؤالفة بين الإشتراكية و الرأسمالية كما يظن الدكتور النور حمد و هو يظن أن الإسلام و قيمه تصالح بين الرأسمالية و الإشتراكية و هذا ناتج من ضعف منهج الدكتور النور حمد فيما يتعلق بتطور الفكر الليبرالي في القرنيين الأخريين بشقيه السياسي و الإقتصادي و بالمناسبة غياب مراكز بحوث سودانية تتابع تطور الفكر الليبرالي في العالم هو ما يجعل كثر من النخب السودانية رغم إنتشار فكرهم ضعيفي الوعي فيما يتعلق بتحليل ظاهرة المجتمع البشري كما يتبدى ذلك في جرءة الدكتور النور حمد في طرحه في كتاب حرره الدكتور صديق الزيلعي و كتب الدكتور حمد في حهده فيه بأن هناك إمكانية المؤالفة بين الإشتراكية و الرأسمالية و كما كتب النور في لقاء نيروبي عن المؤالفة بين العلمانية و الدين .
أما في أوروبا فقد أدركت النخب الأوروبية بأن تاريخ الإنسانية و لأول مرة قد أصبح تاريخ واحد و مشترك للإنسانية كافة بفضل نجاح الثورة الصناعية منذ عام 1776 و أصبحت مسيرة الإنسانية التاريخية واضحة المعالم بل أصبح الإنسان التاريخي في حكم المؤكد على ضؤ فلسفة التاريخ الحديثة المنتصرة للفرد و العقل و الحرية و الحرية.
نضرب مثل كيف أن أوروبا و دولها كدول مستعمرة داخل أوروبا كانت تلاحظ بأنها تدخل على تجارب ليست مسبوقة بعهد؟ و تحتاج لفلاسفة و علماء إجتماع و إقتصاديين يواجهون أزماتها السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و بالتالي كانت النخب السودانية التي نالت تعليم متدني أيام الإستعمار لا يسمح لهم وعيهم المتدني برؤية جديدة للعالم الذي يتخلق ليولد من جديد بعد نهاية فلسفة التاريخ التقليدية في أوروبا.
و على بعد خطوات تنتظر أوروبا ميلاد فلسفة تاريخ حديثة و أصبح التفاوت يزداد و هذه التطورات في أوروبا كانت تتخلق و هي مستعمرة للدول مثلما كانت بريطانيا مستعمرة للسودان و لكن كان فلاسفة أوروبا على وعي بأن السياسة قد أصبحت شرط إنساني لتحقيق مفهوم المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و لا تتحقق إلا بفكرة التدخل الحكومي و هذا هو البعد الغائب عند النخب السودانية منذ أجيال النخب التي نالت تعليم متدني أيام الإستعمار ونتج عنه وعي متدني لا يسمح لهم بتحليل ظاهرة المجتمع البشري و للأسف إستمر تدني الوعي جيل عبر جيل في السودان و حتى راهننا الآن لم تدرك النخب السودانية مفهوم الدولة الحديثة التي ترسخ للمسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و بالتالي تصبح السياسة هي شرط إنساني يجسد فكرة العيش المشترك.
هذا التفاوت في مستوى الوعي جعل النخب السودانية متدنية الوعي مقارنة بالمستعمر الذي كانت بلدانه تتحسس لحظات ميلاد فلسفة تاريخ حديثة ظهرت مع ظهور مؤتمر الخريجيين في السودان و لكن شتان ما بين وعي أتباع مؤتمر الخريجيين و أتباع فلسفة التاريخ الحديثة في أوروبا و بالمناسبة هناك قادة من أتباع الحضارات التقليدية إنتبهوا لهذا التحول من فلسفة التاريخ التقليدية الى فلسفة التاريخ الحديثة نذكر منهم المهاتما غاندي و نهرو لذلك ها هي الهند الآن تصبح من أكبر الديمقراطيات في العالم و بمعدل نمو إقتصادي عالي جدا مقارنة بكساد النخب السودانية في ثمانية عقود الأخيرة.
نعود للدكتور النور حمد في مقاله الأخير في سودانايل بعنوان معضله الشر المحتمي بجهل العامة و فيه يقول الدكتور النور حمد " ولو كان الوعي البشري مستحصدا بحق لما عاش النظام الرأسمالي الى يومنا هذا رغم أن جهود فضح إنسانيته قد تكاملت منذ القرن التاسع عشر" ما هذا يا دكتور النور حمد؟ ما كتبه الدكتور النور حمد في هذا المقال يصلح كدليل على أن أغلب النخب السودانية تجهل فلسفة التاريخ الحديثة التي تتوشح النيوكانطية في فكر ماكس فيبر و هو يتحدث عن عقلانية الرأسمالية في الفكر البروتستانتي و قد فتحت على قيم الجمهورية و مواثيق حقوق الإنسان.
عكس ما يتحدث عنه الدكتور النور حمد بتشنيعه للرأسمالية و هو تشنيع صادر من جهل دكتور النور حمد بأدبيات الرأسمالية في النظريات الإقتصادية و إبداعات تاريخ الفكر الإقتصادي على أقل تقدير في القرنيين الأخرين و يتضح من مقال النور حمد جهله بعقلانية الرأسمالية التي تحدث عنها ماكس فيبر و قال أن الرأسمالية عقلانية و الدليل على عقلانية الرأسمالية لأنها لم تظهر بعد في المجتمعات التقليدية كمجتمعنا السوداني و من هنا ننبه القارئ للبون الشاسع بين وعي دكتور النور حمد و أفكار ماكس فيبر عن عقلانية الرأسمالية و على هذا قس مآسينا مع التنويه أن ماكس فيبر كان عالم إجتماع و إقتصادي و قانوني و مؤرخ و لنترك للدكتور النور حمد أن يختار ألقابه.
على عكس تشنيع الدكتور النور حمد بالرأسمالية نجد إشراقات الدكتور منصور خالد و يظهر أن الدكتور منصور خالد في مراجعاته لمناهجه لم يكن يوما عدمي عدو الإشراق و الوضوح بل كان متجدد الفكر و له الشجاعة النادرة أن يقول أنه كان على خطاء شنيع ليس هو لوحده بل كل نخب العالم الثالث و مجايلي الدكتور منصور خالد عندما إستبد بهم الخطاء في أن طريق الإشتراكية و الحزب الواحد هو الأقرب لتحقيق التنمية و قد تراجع عن ذلك رجل بعظمة منصور خالد بل زاد على ذلك و أعلن عن أسفه و ندمه في مهاجمته لأحمد لطفي السيد و وصفه له بأنه خائن لأنه رفض طلب أن يكون قائد للحكومة في زمن عبد الناصر و احمد لطفي السيد معروف بأنه أب للفكر الليبرالي في مصر و من تلاميذه عميد الأدب العربي طه حسين و الكاتب الكبير نجيب محفوظ و عليه نقول لدكتور النور حمد أنه على بعد ما لا يقاس بما يفصله عن مراجعات منصور خالد لمنهجه و تجدد تدفقاته الفكرية.
على أي حال لم تفاجئني أفكار الدكتور النور حمد في مقاله الأخير و حديثه غير الناضج عن تطور الفكر الرأسمالي و به يعتدي على ميراث العقد الإجتماعي عند كل من جون لوك أب الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي و يهجم بشراسة على العقد الإجتماعي في علم إجتماع منتسكيو و يتجاهل فكرة الديمقراطية عند توكفيل و يخرج لسانه ساخر من نظرية العدالة عند جون راولز و فوق كل ذلك يتخطى الدكتور النور حمد مشروع كانط النقدي في أنثروبولوجيا الليبرالية بعد أن إستفاد من فلسفة كل من ادم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية و فلسفة ديفيد هيوم التي أيقظت كانط من ثباته الدوغمائي العميق لأن كانط قبل إطلاعه على فلسفة ديفيد هيوم و ادم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية كان أقرب للأصولي المتزمت و هذا هو حال الدكتور النور حمد الآن في ايمانه بالمؤالفة بين العلمانية و الدين.
و يشجع الدكتور النور حمد على هجومه غير المبرر على أدبيات الرأسمالية و هو لم يستوعبها من الأساس حتى يزعم أنه يدعو لتجاوزها زعمه كأنه قد هضم الكينزية في مزجها لفكرة اليد الخفية مع نظرية المشاعر الاخلاقية لتخرج لنا بتجاوزها لنظرية ساي العرض يخلق الطلب و تتجاوزها بكيفيه خلق الطلب عبر الإنفاق الحكومي و قد خرجت به الرأسمالية ظافرة من الكساد الإقتصادي العظيم عام 1929.
مقال الدكتور النور حمد للقارئ الذي يعرف القليل عن تاريخ الفكر الإقتصادي و نظريات النمو الإقتصادي مقال محيّر لأنه يقول لك بأن الدكتور النور حمد يقتحم مجال بحث هو خالي الوفاض من علومه ليخرج لنا بأن الرأسمالية قد ماتت منذ القرن التاسع عشر و هذا خبر محزن و مضحك لأن بعد تاريخه الذي حدده لموت الرأسمالية نجد جهود جون ماينرد كينز في النظرية العامة و علم إجتماع ماكس فيبر و هو يتحدث عن زوال سحر العالم أي أن الخطاب الديني الذي يريد النور مؤالفته مع العلمانية قد أبعده ماكس فيبر منتصرا للفكر الرأسمالي في عقلانيته بعيدا عن دولة الإرادة الإلهية.
و يقدم ماكس فيبر بدلا عنها الفعل الإجتماعي وفقا لقدرات عقلنا البشري في معادلة الحرية و العدالة و بعيدا عن مؤالفة النور حمد بين العلمانية و الدين أو مؤالفته بين الإشتراكية و الرأسمالية كما يزعم و نجد كذلك بعد خبر النور حمد بموت الرأسمالية ديالكتيك ريموند أرون و هو ينتصر فيه على من ذهبوا للحزب قبل الذهاب للكتب ليعلن لنا ريموند أرون أن ماركسية ماركس لا تخدع غير المثقف المنخدع الذي يعتقد كما يعتقد النور بأن هناك إمكانية مؤالفة بين الراسمالية و الإشتراكية و هيهات.
و بحديثي عن كينز و ريموند أرون و ماكس فيبر أكون قد عدت للمحاور الثلاث للمفكريين و قد تحدثت عن منطلقاتهم في بداية المقال و هم كينز و ماكس فيبر و ريموند أرون و أعيد الكرة لكي أقول أن مثل فكر الدكتور النور حمد في مقاله الأخير الذي تناولناه هنا في مقالنا يدخل في إطار فلسفة التاريخ التقليدية و دعوتنا له بأن ينفتح على فلسفة التاريخ الحديثة و هي ما يحتاجه أفق مفكرينا في السودان و قد غابت أي فلسفة التاريخ الحديثة عن أفق الفكر السوداني طيلة القرن الأخير و بغير إدخال فلسفة التاريخ الحديثة على حقول الفكر السوداني سيظل مشهد الفكر السوداني محشود بفكر المثقف التقليدي و المفكر التقليدي و المؤرخ التقليدي و سيظل مشهد الفكر في السودان يدور في حلقة مفرغة و محكمة الإغلاق و كسرها و الشب عن طوقها لا يكون بغير إدراك فلسفة التاريخ الحديثة.
بالمناسبة أفكار ماكس فيبر بعد نشرها إحتجت لما يقارب الثلاث عقود حتى تتحقق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و أفكار كينز و نظريته العامة قد أحتاجت لعقد لكي تسود بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و إستمرت لثلاثة عقود أخرجت أوروبا من ظلال الليبرالية التقليدية و فلسفة التاريخ التقليدية و كذلك أفكار ريموند أرون إحتاجت لثلاث عقود لكي ينتصر فيها توكفيل على ماركس و ريموند أرون على سارتر و من بعده قد خرجت فرنسا بفكرها من ظلال الماركسية و أصبحت توكفيلية.
taheromer86@yahoo.com