نبض المجتمع : مستقبل المقاطعة
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
شكَّلت أحداث غزَّة دليلًا على أنَّ العرب والمُسلِمين بصورة عامَّة لَمْ ولَنْ ينسوا قضيَّتهم الأزليَّة، والَّتي رغم أنَّنا في فترة من الفترات ظنَّنا أنَّ أجيالًا منَّا قَدْ نسيَتِ القضيَّة نتيجة أساليب التغريب الَّتي مورست ضدَّها وبطُرق ممنهجة، إلَّا أنَّ الواقع أثبت عكس ذلك. فالجيل الَّذي كُنَّا نصفُه بجيل الببجي أثبتَ أنَّه جيل لا يقلُّ وعيًا وإدراكًا بأهمِّية هذه القضيَّة عن غيره من الأجيال السَّابقة، فوجدنا الجميع يحاول بكُلِّ الطُّرق أن يقدِّمَ ما يستطيع لخدمة القضيَّة وفق إمكاناته وخبراته ووضعه.
لقَدْ كان سلاح المقاطعة أحد أبرز الرهانات الَّتي عمل عَلَيْها الجميع، ذلك أنَّه السِّلاح الَّذي يستطيعون استخدامه بسهولة ودُونَ عناءٍ، وكذلك حجم تأثيره على العدوِّ وبصورة مباشرة وسريعة في نَفْس الوقت مع أشخاص ودوَل لا همَّ لَهُمْ في هذه الحياة سوى المال. من هنا بدأت الأمور تأخذ مسارها الصحيح، حيث هو السِّلاح النَّاجع بالفعل والَّذي لا يكلف أدنى شيء، ولكنَّه سلاح مُهمٌّ ورادع في نَفْس الوقت. لقَدْ كانت القضيَّة هي محور المقاطعة هنا، فلا محرِّك غيرها، والهدف واضح ولا لبس فيه، والمثبِّطون لا يُمكِنهم ممارسة هوايتهم المعهودة، فالأمْرُ لا يحتاج لمزيدٍ من الشرح والتوضيح والتفسير، فانبرى الجميع في وقفة رجُل واحد للقيام بهذا الأمْرِ وتنفيذ الخطَّة إدراكًا مِنْهم بأهمِّية ما يقومون به ومدى تأثيره.
لقَدْ أثبتت الأيام فاعليَّة هذا السِّلاح الَّذي يستطيع كُلٌّ مِنَّا أن يمارسَه، وشاهدنا الجميع على اختلاف الأجيال يذكِّر كُلٌّ مِنْهما الآخر بضرورة الاستمرار، وشاهدنا الإعلانات المُحذِّرة من مسألة التراخي والفتور في هذا الجانب، وقَدْ أثبتت التجربة نجاعة الأمْرِ.
ورغم معرفتنا المسبقة بأهمِّية المقاطعة، خصوصًا في الجانب الاقتصادي ولدَيْنا ممارسات سابقة أكثر نجاحًا، سواء على المستوى المحلِّي أو الدولي. ففي كثير من الدوَل عِندما يرتفع سعر سلعة ما، يكُونُ الحلُّ في المقاطعة فتعيد هذه المقاطعة الوضع إلى طبيعته والأمثلة كثيرة ومُتعدِّدة، إلَّا أنَّ السؤال الَّذي نطرحه هنا: هل لا بُدَّ من وجود قضيَّة وأحداث دمويَّة لكَيْ نمارسَ المقاطعة الاقتصاديَّة؟ أمَّا أنَّنا بعد ما شاهدنا بأنْفُسنا أهمِّية ذلك ومدى نجاحه فيُمكِننا أن نستخدمَ هذا السِّلاح لكبح جماح جشع الكثير من التجَّار والَّذين لا همَّ لَهُمْ سوى تحقيق أرباح فلكيَّة مقابل نهب جيوب المستهلكين، وهنا أتحدَّث عن سلع يبالغ أصحابها في رفع أسعارها ولا همَّ لَهُمْ سوى زيادة نسبة أرباحهم بصورة غير منطقيَّة، فهل لنَا القدرة على ذلك؟
لقَدْ أثبتت هذه الأحداث وما نتج عَنْها في ما يخصُّ موضوع المقاطعة أنَّنا كمُجتمع قادرون على إحداث التغيير وتوجيه البوصلة كيفما نريد، كما أنَّنا أيضًا بحاجة لجمعيَّات تحمي المستهلك وتوجِّه مسارات الشِّراء عِنده وفق قاعدة لا ضرر ولا ضرار. فأيُّ مُجتمع يريد أن يستخدمَ هذا السِّلاح لا بُدَّ أن يكُونَ منظمًا من مختلف الجوانب بحيث لا تكُونُ الأضرار منصبَّة على المستهلكين فقط ولا على التجَّار، بل يتمُّ تقاسمها في نَفْس الوقت، وقَدْ كتبتُ منذ حوالي خمس عشرة سنةً مقالًا يوضِّح أهمِّية وجود هذه الجهة الَّتي تُمثِّل المستهلكين بحيث تضْمن حقوقهم كما هو الحال في بقيَّة بعض دوَل العالَم.
وإذا كانت المقاطعة الحاليَّة تحرِّكها العاطفة فإنَّ المقاطعة الَّتي أقصدها يحرِّكها المنطق والعقل. فهنالك سلع من الضروري أن يُعادَ تقييم أسعارها في ظلِّ الوضع الاقتصادي المتأزم عالَميًّا ومحليًّا. وعِندما أقول يُعاد فأنا لا أقصد أنَّ التاجر يبيع سلعته بسعر يعرِّضه للخسارة، ولكن بسعر يناسب مستوى المعيشة ويُحقِّق له الربح المناسب. ففي مقارنة لكثير من السِّلع وبنَفْس العلامات مع دوَل قريبة مِنَّا وبمستوى معيشي أفضل نجدها في سعر أقلَّ وعروض أفضل، وإذا كان المُبرِّر أنَّنا نستوردها من مصدر آخر غير مصدرها الأصلي فما الَّذي يمنعُنا من استيرادها مباشرة وتخفيض سعرها، أم أنَّنا ننتظر مقاطعة جديدة؟
د. خصيب بن عبدالله القريني
[email protected]
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
سلطنة عُمان.. علاقات دبلوماسية متوازنة وثقة صلبة من الجميع
محمد المعتصم **
في منطقة تمتلئ بالتوترات والتحالفات التي تتبدل بحسب توافقات ومصالح، برزت سلطنة عُمان كاستثناء لافت؛ بعد أن اختارت منذ عقود سياسة الحياد الإيجابي، مع مزيج من الدبلوماسية المتوازنة والوساطة الصامتة. هذا المسار جعل من العاصمة مسقط مركزًا دبلوماسيًا يُمكن أن «يُهمس فيه» مع الجميع ويستمع إليه الجميع، وهم يدركون أنهم يتحدثون مع دولة أمينة في الطرح وفي التدخل، الولايات المتحدة، إيران، الدول الخليجية، وحتى القوى الدولية الكبرى يدركون أهمية هذا الدور الذي جعل السلطنة تحظى باحترام واسع، وثقة متجددة، وقدرة على لعب دور محوري عندما تشتد الأزمات.
تعود جذور سياسة الحياد العُماني إلى فهم واقعي لطبيعة المنطقة، عُمان رأت في عدم الانحياز إلى أحد الأطراف مخرجًا للحفاظ على استقرارها الداخلي وعلى مصالحها الاقتصادية أولًا.
الحياد العُماني ليس مجرد موقف مرحلي؛ بل هو جزء من هوية دبلوماسية: «الحياد الإيجابي» كما تصفه الدوائر الرسمية. نهج يعتمد على احترام سيادة الدول، عدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، الالتزام بالقانون الدولي، والعمل الدبلوماسي الهادئ بعيدًا عن التصعيد.
هذا التوجه ساعد عُمان على تجنب الانخراط في النزاعات الإقليمية، وفتح لها باب الوساطة حين تتصاعد الأزمات.
وقد حافظت السلطنة على الحياد عبر أدواتها الدبلوماسية المتوازنة، مكنتها من بناء علاقات خارجية متعددة الأبعاد، حيث حافظت السلطنة على علاقات مفتوحة مع طيف واسع من الدول: من دول الخليج، إلى إيران، إلى الغرب (أوروبا، الولايات المتحدة)، بل وحتى الدول الناشئة. هذا «التوازن» يمنحها موضع ثقة من الأطراف المتناقضة.
أضف إلى ذلك هو اعتمادها على الوساطة خلف الكواليس، فبدلًا من التصريحات النارية والإدانات العلنية، تختار مسقط «القناة المغلقة» للحوار. في كثير من القضايا - من النووي الإيراني إلى أوضاع اليمن - وغيرها من القضايا التي تتحرك فيها بصمت بعيدًا عن الضجيج وبعيدًا عن المزايدات، حيث تعتمد على السرية والحيطة؛ فالدخول في التفاصيل علانية قد يُفسد الوساطة.
مبدأ «الحياد الصامت» منح عُمان مصداقية لدى الجميع... عُمان لا تدخل في نزاع عسكري أو تحالف مسلح. اقتصادها ما يزال يعتمد بنحو 70% على النفط والغاز، لكنها منذ سنوات بدأت خطوات فاعلة ومؤثرة لتنويع الاقتصاد. وهذا النهج العُماني الأصيل منحها مساحةً للمناورة الدبلوماسية بعيدًا عن التحزبات والتحالفات العسكرية.
الوساطة في الملف النووي الإيراني من أبرز الملفات التي أدرك فيها العالم حجم الدبلوماسية العُمانية، مارست عُمان دورًا محوريًا في وساطة سرية بين إيران والغرب. وفي 2025، أعلنت عُمان أنها عرضت عناصر من مقترح أمريكي على الجانب الإيراني خلال زيارات دبلوماسية قصيرة، في إطار جهود لإنهاء الجمود حول الملف النووي.
هذا الدور يعكس ثقة الطرفين بمسقط، الولايات المتحدة، لإيصال رسائلها إلى طهران. طهران، لكونها ترى في مسقط قناة آمنة وموثوقة تفتح لها أفق تفاهم بديل عن المواجهة.
ثاني الأزمات التي تدخلت فيها السلطنة كانت أثناء الأزمة اليمنية وتصاعد التوتر في البحر الأحمر وباب المندب، تدخلت عُمان كوسيط لطرح هدنة وقبول التفاوض بين الأطراف، وفي مايو 2025، أعلنت سلطنة عُمان أنها نجحت في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وجماعة أنصار الله في اليمن، وهو تحرك يُظهر قدرتها على التعامل باحترافية شديدة مع جبهات التوتر بلباقة.
إنَّ السياسة العُمانية لم تكن وليدة اللحظة؛ فخلال الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، حافظت مسقط على حيادها، ولم تساند أي طرف. كذلك، أثناء احتلال الكويت ثم تحريرها، اتخذت موقفًا متوازنًا، أكّد على احترام السيادة، دون الانزلاق في محاذير الانحياز.
وعندما قاطعت الدول العربية مصر بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل رفضت سلطنة عُمان المقاطعة، وبقيت على علاقات مع مصر، وهو الموقف الذي ما تزال مصر تذكره إلى الآن، واستمر صداه بدايةً من حكم الرئيس محمد أنور السادات والرئيس محمد حسني مبارك؛ وصولًا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يحمل تقديرًا خاصًا لسلطنة عُمان.
باختصارٍ.. سجل سلطنة عُمان في التعامل الهادئ مع القضايا الكبرى، جعلها أقرب لأن تكون «سويسرا الخليج»، أو كما وصفها بعض الباحثين بأنها: «دولة مؤثرة للغاية عبر ذكائها الدبلوماسي».
** كاتب صحفي مصري