الكوليرا تضاعف معاناة السودانيين وسط انهيار القطاع الصحي
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
تضاعفت معاناة السودانيين في الآونة الأخيرة، مع انتشار وباء الكوليرا بوتيرة سريعة، في وقت حُرم فيه جزء كبير من السكان من تلقي الخدمات الصحية الأساسية، بعد خروج أكثر من 100 مستشفى عن الخدمة في العاصمة والولايات المتأثرة بالحرب، بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وقال وزير الصحة المكلف هيثم إبراهيم، إن الكوليرا "هي التحدي الأول حالياً أمام النظام الصحي، فبعد أن بدأت بالانتشار في ولايات الخرطوم والقضارف والجزيرة، شهدنا انتشاراً لها خلال الأسبوع الماضي، في ولايات أخرى كالنيل الأبيض وكسلا والبحر الأحمر.
وقالت وزارة الصحة بولاية البحر الأحمر شرقي السودان، أمس السبت، إنها سجلت 249 حالة اشتباه بالكوليرا بما في ذلك 5 وفيات.
وانتهت، أمس السبت، حملة تطعيم لوباء الكوليرا في ولايتي القضارف والجزيرة، التي بدأت في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بعد أن وفرت الآلية العالمية للقضاء على الكوليرا 2.2 مليون جرعة من اللقاحات كدفعة أولى، وفق ما ذكره موقع "سودان تربيون".
والي الجزيرة يدشن حملة الإستجابة للتطعيم بلقاح الكوليرا الفموي https://t.co/gwc1riDOa7
#سونا #السودان pic.twitter.com/1f2TaGPwZz
وقالت إدارة الطوارئ ومكافحة الأوبئة بوزارة الصحة بالبحر الأحمر، إنها "سجلت 249 حالة اشتباه بالإسهالات المائية الحادة، منها 186 حالة مؤكدة، تشمل 5 وفيات".
وطالبت الإدارة بضرورة توفير فورية لكلورة مياه محلية عقيق، بينما قررت زيارة مركز الهلال الأحمر السوداني الخاص باستقبال عزل وعلاج الحالات بمدينة بورتسودان.
#الراكوبة_نيوز أطلقت هيئات ومنظمات صحية تحذيرات من خروج الوضع الصحي في السودان عن السيطرة مع انتشار الكوليرا والحميات وأمراض سوء التغذية في 12 ولاية من ولايات البلاد، في ظل استمرار تدمير المستشفيات وتدهور الأوضاع البيئية pic.twitter.com/lm5ckOh7dG
— Daily Sudan Post (@DailySudanPost) November 16, 2023وشددت على ضرورة ضبط الإمداد الدوائي لمراكز العزل وزيادة 30 عامل لفريق صحة البيئة وتوفير الاستحقاقات المالية للكوادر الطبية.
وجرى تسجيل أول إصابة بمرض الكوليرا في مدينة بورتسودان مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الفائت.
وتفشى وباء الكوليرا في ولايتي القضارف والخرطوم في سبتمبر (أيلول) الماضي، قبل أن ينتقل إلى ولايات أخرى منها الجزيرة والبحر الأحمر والنيل الأبيض، حيث يتوقع أن يصيب أكثر من ثلاث ملايين سوداني وفقاً للأمم المتحدة.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي أحداث السودان سلطان النيادي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة أحداث السودان
إقرأ أيضاً:
عن انهيار الطبقة الوسطى في السودان
في لقاء لي مطوّل مع المهندس صلاح إبراهيم أحمد، في منزله في الخرطوم، قال لي إنه سأل حسن الترابي (رحمهما الله) عقب انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 1989 عن تصوّره لكيفية التخلص من المقاومة المدنية، خصوصاً التي تعتمل دوماً في قرائح طلاب الجامعات في السودان، فقال له عبارة موجزة، لكنها بليغة الأثر في عمقها ومحتواها: حأعدّمهم الساندوتش (سيلهيهم في مسألة المعاش).
المسرحية التي أدخل بوجبها الترابي السجن والونسات والدردشات بينه وبين النخبة آنذاك، كشفتا مبكّراً عن مخطط الجبهة الإسلامية القومية، وعن طرائق تفكيرها في كيفية التغلب على المقاومة السياسية المدنية التي طالما قطعت الطريق على أطماع القيادات العسكرية في السودان وطموحها، من خلال المحاولة للتخلص كليّاً من الطبقة الوسطى التي تعتبر العمود الفقري للمجتمع المدني، كما يقول روبرت بتنام ولاري ديموند وآخرون. وإذ نجحت الجبهة الإسلامية القومية في مبتغاها، فقد أورثت السودان فشلاً سياسياً وفكرياً وأخلاقياً، جعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، تدارك المعضلات حضارياً ومدنياً، الأمر الذي بات الشعب يعاني من مغبّته ويعايش تداعياته، خصوصاً بعد اندلاع الحرب الحالية.
نجحت تلكم العصابة في مرادها ورضيت بانفرادها بالحكم ثلاثة عقود أو يزيد، لكن ذلك كان على حساب الإضرار بالنقابات والأحزاب، وإضعافها إلى درجة فقدت فيها الأخيرة الحيلة للقيام بدورها وسيطاً بين الشعب ومؤسّساته الدستورية، بين المهنيين ونقاباتهم الشرعية، بين القوات النظامية وأدوارها الوظيفية، إلى آخره. كذلك إن محاولة اقتلاع السودان من محيطه الأفريقي الصوفي والروحاني الإنساني والعزم، بل التعنت في محاولة لإلحاقه بالفضاء المشرقي الأيديولوجي والسلفي الدوغمائى قد قضى على كل روافد الثقافة التي تعتبر عماد النهضة ومرتجع الذات المفعمة بالأريحية والمحرِّضة على تتبع دروب التثاقف والتواصل مع الآخر.
ولذا عندما انفجرت ثورة ديسمبر المجيدة في 2019، لم تكن لقيادتها، خصوصاً النخب المركزية، أي موجهات فلسفية أو فكرية، مجرّد حمولات عاطفية سرعان ما تبخّرت، فيما ظل الإبحار العنيف لسفينة الثورة يواجه صعوبات جمّة، سيما أن القطبان حينها، عبد الله حمدوك، لم يستطع أن يوازن بين التطلعات والمعضلات، بين تطلعات الشباب ومعضلات الانتقال، بين طموحات العسكر وأطماع القوى الإقليمية، بين المقدّرات المؤسسية والمؤامرات التي ظل يحيكها أزلام النظام السابق.
عليه، يجب ألا ننظر إلى الحرب الراهنة في السودان على أّنها مجرّد تمرّد من فئة طامحة إلى الحكم، وإن يكن فإنّه لم يكن أول تمرّد وحتماً لن يكون الأخير، بيد أنه تمرّد من نوعية مربكة لذهنية النخب المركزية ونفسيتها، لأنه لأول مرة يحدث من المجموعة القبلية نفسها التي ظلت تستخدمها النخب المركزية لتطويع الهامش قسرياً، وتنظر إليها باعتبارها ساعداً عضلياً لزم استخدامه لقمع الطموحات المشروعة للشعوب المقهورة في الريف السوداني.
هذه الحرب، يا سادتي، هي نتيجة انهيار لمنظومة بدأت تتآكل منذ أمد بعيد، منظومة تحكّمت فيها عصابات مافيوية، وجدت ضالتها في "برنامج الإصلاح الهيكلي"، فأحالت ممتلكات القطاع العام إلى حسابها الخاص، الأمر الذي أفقد الدولة وظيفتها الأساسية التي تتعلق بتنظيم الاقتصاد، وضع ضوابط التجارة والاستثمار، ترشيد الصرف، ضمان الأمن الغذائي للمواطنين، تأهيل البنية التحتية، إلى آخره. لا غرو، فالحروب العبثيّة التي أشعلتها جبهة الإنقاذ، وما زالت توقد أوارها، قد أفقدت الدولة المركزية الحيلة اللازمة لتحقيق التنمية الريفية الشاملة، بالنظر إلى ما أهدر من موارد مادّية وروحية، كان يمكن أن تساعد في تحقيق التماسك الوجداني للشعب السوداني.
ما إن اشتعل فتيل الحرب، حتى هرع البرجوازي الصغير وجزع متباكياً على بيته، عربته، وذهب امرأته، من دون أن يكلف نفسه النظر في دواعي الغبن الاجتماعي الذي جعل العاصمة نهباً من أطرافها ومقصداً للمحرومين مع جهاتها الأربع. ليت الأمر توقف عند حد الازدراء، لكنه تعدّى ذلك إلى الافتراء، ووصف هؤلاء المستضعفين المُستَغَلين بأنهم غرباء.
من هُجّروا نتيجة الحروب التي قادتها "الإنقاذ" في الريف السوداني، وما تلا ذلك من حرب إبادة جماعية في دارفور وجبال النوبة وجنوب كردفان، قد أحال العاصمة إلى كانتونات عرقية (فأحياء من مثل جبرونا وطردونا وزقلونا والعزبة ورأس الشيطان تُنبئ مسمّياتها عن غبن ساكنيها وغضبهم المكتتم)، وأخرى كالتي حفِلت بها قرى الجزيرة فيما سمّي الكنابي، قد افتقدت لعقود مضت إلى أبسط الخدمات أو المقومات الحياتية، وهم اليوم يُقَتّلون ويذبّحون، حتى كاد رفاتهم المتراكم أن يغلق منفذ الترعة، من دون أن يسترعي ذلك اهتمام العسكر أو يستدعي رأفة من قلوبهم التي جُبِلت على استضعاف البؤساء والنساء وأصحاب السحنات السوداء.
يجب ألا ننسى الألغام الاجتماعية والقبلية، بخاصة التي زرعتها ذات المجموعة المتنفذة، الاستخبارات العسكرية بالتحديد، التي دأبت على إدارة الشأن الأمني بعقلية تآمريه، فانفجرت في دار مساليت، مضحّية بحياة حاكم الإقليم ومتسبّبة في مقتل آلاف من شعوب دار مساليت ونزوحهم. أمّا من بقي من شعوب دارفور، فتطاوله طائرات النظام الغاشم بوتيرة شبه يومية بالبراميل المتفجّرة التي تترصد المدنيين، في محاولة لكسر إرادتهم وهزيمة كبريائهم التي صانتها الحادثات وأيدته السنن الراتبات.
بما أن محور النقاش في هذه الورقة هو الاقتصاد السياسي، فيلزم التحدّث عن رؤية وطنية تتجاوز الحيف الذي ظلت تمارسه النخب المركزية التي لم تراعِ الميزات الاستراتيجية للأقاليم السودانية المختلفة، بل ظلت تعوّل على البندقية وسيلة لتطويع الهامش قسرياً، بعد أن فشلت حيلتها الأيديولوجية وتكشف عوار مكرها السياسي والأمني. ففي وقتٍ كانت دارفور تئن فيه من الجراح، كانت النخب "الإنقاذية" تتلهى ببناء سد مروي الذي تضاعفت تكلفته، وتناقصت سعته الإنتاجية نسبةً إلى ما اعتور النظم الإدارية من فساد ومحسوبية وغياب للشفافية.
الانتصار الحقيقي للشعب السوداني، بما فيها مجموعات السودان الشمالي النيل وسطى، هو بالانعتاق مع سطوة المليشيات العسكرية ومن سيطرة الرأسمالية النهبوية التي ما برحت تتدثّر بدثار القومية والمؤسّسية فانفضح زيفها، ما أحال البلاد إلى رماد والشعب إلى شتات. تفكيك هذا الجيش الذي أصبح بمثابة مليشيا تتناسل منها كل المليشيات القبيلة والعقائدية بات ضرورياً، سيما أنه قد أصبح مرفأً للمجموعات الإرهابية والداعشية التي باتت تهدّد الأمن القومي، وتقلق السلام الإقليمي والدولي. يجب أن يُعاد بناء الجيش على أسس احترافية ومهنية، تراعي أسس التكافؤ بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
ختاماً، التعويل في المرحلة المقبلة يجب أن يعتمد بدءاً على إبرام تسوية وطنية شاملة، علّها تفضي إلى توافق يساعد في استقطاب كل المؤمنين بأهداف ثورة ديسمبر المجيدة. وإذا كانت الحرب قد كشفت كثيراً من العورات الثقافية والسياسية للمجتمع السوداني، فإنها قد بيّنت أهمية "الحوار" وسيلة لتقويم العملية التي رافقت المسيرة الوطنية. لا بد من "الاعتراف" بالمظالم التاريخية التي طاولت المهمّشين في أنحاء البلاد كافة، ومن ثمّ السعي لإنصافهم من خلال المعالجة للاختلالات الوظيفية والهيكلية التي لازمت تكوين الدولة السودانية منذ 1821.
الوعظ والمناشدات الأخلاقية لا تكفي وحدها لمعالجة أمراض العنصرية والقبلية، فلا بد من وضع إصلاحاتٍ دستوريةٍ وفرض ضوابط قانونية تدرأ خطر التدميرية البشرية. لا أدرى حقيقة إن كان السودانيون قد تجاوزوا مرحلة التشافي، بالنظر إلى ما ارتكبوه من جرائم ضد بعضهم، بيد أنهم لا يملكون غير العمل معاً لتجنيب بلدهم حالات الانقسام أو الانفصال المحتمل. وإذا حدث ذلك، لا قدر الله، فإن النخب المركزية، الأيديولوجية منها خصوصاً، تتحمل العبء الأكبر في سَوق البلاد سَوقاً نحو هذا السيناريو المشؤوم، وذلك بإصرارها على فرض نظام "الكليبتوقراطية" (حكم اللصوص) من دون طائل، علماً أن الشعوب قد انعتقت من الخرافة، ولم يعد بمقدور أحدٍ إرجاعها إلى الحظيرة، وإذا شئت إلزامها بيت الطاعة.
نقلا عن العربي الجديد