الثقافة والهرج: لماذا يخمل ذكر حرب السودان في العالمين؟ (1-2)
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
يتفق كثير من المعلقين أن حرب السودان خاملة الذكر في العالمين. ويرد بعضهم هذا الخمول من جهة السياق لتواتر الحروب من حولها في أوكرانيا وغزة. ويعزي آخرون هذا الخمول إلى ارتكاب قوى عالمية وإقليمية لهذه الحرب وإن بحسن نية جهلاً بحقائق السودان. وانصب أكثر هذا النقد على أميركا ودورها في الفترة الانتقالية للديمقراطية العاقبة لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 حتى رماها الصحافي إدوارد وونق وآخرون بـ"السذاجة" في "نيويورك تايمز".
وقال ألكس دي وال، من "الجهة الأخرى"، بأنها لم تعرف لمسألة السودان صرفاً ولا عدلاً. وأخذ عليها جستن لينش من "نيويورك تايمز" أن مساعيها المرتبكة في دمج "الدعم السريع" في القوات المسلحة، التي أوكلتها لوسطاء في الدرك الأسفل من الدبلوماسية، هي التي قادت للحرب. فلم تفشل مساعي أميركا وأوروبا في إحلال الديمقراطية في السودان فحسب، في قوله، بل ساقت إلى انهيار السودان أيضاً.
والأمر مع ذلك أعقد، صح اتهام العالم بإشعال هذه الحرب إهمالاً أم لم يصح. فالحرب في قول ويليامسون، مؤلف كتاب "الاستراتيجية والفاعلية العسكرية"، مسعى بالغ التعقيد. وليس مثلها من يلحف في استدعاء الفكر والأخلاقية لبلوغ مرماه. وهذا ما قال به فون كلوسويتز قبل قرنين عن حاجة الحرب، ككل مهمة معقدة، إلى عقول مستطيعة تحتفظ، في الساعة الأشد حلكة، بشيء من بارق نور داخلي يضيء الطريق إلى الحقيقة، ومن ثم الشجاعة لمتابعة هذا الضوء الضئيل إلى حيث يهديك سبيلاً.
وبعبارة بسيطة فالحرب ثقافة في غير حومة الوغى كما في حومتها، وهنا مقتل حرب السودان. فمغازي الحرب المهلكة هذه غائبة عنا وعن العالم لأن صفوة الرأي السودانية في شغل عنها بحرب أطرافها في اليمين واليسار. وكان أول هذه الحرب الصفوية هو الاتهامات المتبادلة حول من الذي بدأ منهما، لا الجيشين، هذه الحرب. وخاضا، ولا يزالان، في حربهما من حول الحرب في الميدان على الوسائط مع أن زعم أي منهما ببدء الحرب فوق أجر أي منهما كما تقول العبارة الإنجليزية.
ولإثبات جريرة الحرب واحدهما على الآخر تحاكما بأدلة ظرفية في أحسن أحوالها إن لم تكن من باب فش الغبينة التاريخية بين هذين الوعلين اللذين جعلا من نزاعهما منذ عهد الطلب مطلب السياسة السودانية ونهاية أربها. وهذا الدور الهامشي للصفوة من حرب الميدان ثمرة مرة لتطاول الحرب في السودان منذ استقلاله عام 1956. فأفدح ما ترتب على تطاولها أن صارت الصفوة المدنية فاقداً سياسياً كبيراً. فلم يخرج منا المثقف ذو النظر المحيط الذي، في تعريف إدوارد سعيد، يصدع بالحق ويأخذ سائر أهل الشوكة بغير رحمة، فقد فرضت الحرب وتجفيف المجتمع المدني وضعاً صار به المثقف عالة على أطراف المعركة العسكريين.
وهذا هو الوضع المُشاهد ليومنا. فتلقي قوى الحرية والتغيير (قحت) بلائمة الحرب على الإسلاميين (الكيزان) مما يقوي، أرادت أو لم ترد، حجة قوات "الدعم السريع" بأنها الطرف الذي اعتدى عليه الجيش، في حين يرمي "الكيزان" "قحت" بتهمة بدء الحرب لتعزيز حجة الجيش بأنه ضحية عدوان "الدعم السريع". وبلغا من هذا الاشتباك الكثيف ببعضهما بعضاً حداً مؤسفاً، إذ أعد كل منهما قائمة بأسماء من الطرف الآخر لتنال جزاءها المستحق يوم النصر.
وجردت هذه المعارك الصفوية الحرب من المغزى حتى بدت للعالم نزاعاً فادحاً بين "جنرالين" متعطشين للسلطة. فلم تجد المسائل التي رمت الحرب بتحدياتها للوجود السوداني مكاناً في الخطاب الصفوي عندنا. فلم تنتج مواقف الاصطفاف ضد أو مع جيش من الجيشين (أو حتى الحياد) معرفة تحيط بهذه التحديات نستضيء في عتمتها بها. وهي تحديات عن صورتنا لما تكون عليه الدولة القومية الحديثة، والجيش المهني فيها الذي قال صموئيل هنتنغتون إنه متخصص بـ"إدارة العنف" عنها. كما اتصلت هذه التحديات بالدولة الوطنية لما بعد الاستعمار وتداول السلطة والثروة فيها. وطالت النطاق الإقليمي من تضعضع بيئاته والهجرات عنه التي لا تعرف "جواز سفر" في أغنية سودانية شهيرة.
وتحايل خطاب الصفوة من دون التعاطي مع أمهات المسائل في الحرب مثل منزلة الجيش في الدولة الوطنية الحديثة. فلا ترى "قحت" من جيشنا ما يجعلها تستدعي له تلك المنزلة وهي "إدارة العنف" في مثل هذه الدولة. ولـ"قحت" في تجريد الجيش عن منزلته تلك في السودان حجتان، أولاهما أنه مجرد ميليشيات كيزانية وقف الإسلاميون على تحولها إلى هذه الصفة خلال حكم دولة الإنقاذ لثلاثة عقود. أما الحجة الأخرى فهي أنه جاء اليوم للجيش ليشرب من كأس سقاها مع "الدعم السريع" لطوائف من الشعب قبل سقوط نظام الإنقاذ. فلا بواكي لقاتل نفسه كما تقول العبارة في السودان.
نواصل
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع فی السودان هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
لماذا يتهم رواد مواقع التواصل الجنود الأوكرانيين بفبركة مشاهد الحرب؟
انتشرت مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي سلسلة من المقاطع المصورة، تزعم أنها تُظهر جنودًا أوكرانيين يضعون المكياج ويدّعون أنهم ذاهبون للقتال، في محاولة منهم للحصول على تمويل من الولايات المتحدة.
وقد نشر حساب يحمل اسم "Liberal Tear Creator" ثلاثة مقاطع فيديو، زاعمًا أن الجنود الأوكرانيين "يدّعون أنهم في معركة" ليظهروا وكأن الحرب أنهكتهم حتى يحصلوا على تمويل من واشنطن. ورغم أن هذه المقاطع لم يتم التلاعب بها، إلا أنها أُخرجت من سياقها الأصلي بشكل مضلّل.
بعد البحث على تيك توك عن اسم المستخدم "vitsikkkk" الظاهر في أحد المقاطع، تبيّن أنه يعود إلى مسعف عسكري أوكراني اسمه فيتسيك، ولديه حساب يضم نحو 300 ألف متابع على المنصة، وله أيضا قناة خاصة على يوتيوب بقرابة 15 ألف مشترك.
وكشف التدقيق في المعلومات أن هذه المشاهد مأخوذة من كواليس تصوير فيديو موسيقي بعنوان "الإخوة" (Brothers)، الذي نشره فيتسيك على قناته في فبراير/ شباط 2025، بمناسبة الذكرى الثالثة للغزو الروسي لأوكرانيا.
في الفيديو، ظهرت امرأة زعم بعض المستخدمين على الإنترنت أنها "تضع مكياجًا مزيفًا" لمحاكاة الإصابات في الحرب. إلا أن الحقيقة مختلفة تمامًا، فهذه المرأة هي مارينا تشيتشيليوك، جندية أوكرانية أُسرت على يد القوات الروسية خلال معركة الدفاع عن مصنع الصلب آزوفستال في ماريوبول في أبريل/ نيسان 2022.، تم الإفراج عنها في مايو/ أيار 2024، بعد قضاء 25 شهرًا في الأسر.
وعبرت تشيتشيليوك عن استغرابها من المزاعم التي انتشرت حول الفيديو، حيث كتبت: "لا أعرف ماذا أقول... الفيديو الموسيقي كان يهدف إلى تجسيد معاناة الجنود الأوكرانيين الذين يفقدون أحبّتهم كل يوم، ولرفقاء السلاح الذين أصبحوا هم عائلتهم خلال الحرب".
ولم يكن الفيديو الموسيقي الذي أعدّه فيتسيك مجرد عمل فني، بل كان شهادة حية على معاناة الجنود الأوكرانيين، حيث شارك فيه أيضًا ثلاثة جنود آخرين ممن وقعوا في الأسر أثناء دفاعهم عن مصنع آزوفستال. وفي حديثه لـيورونيوز، أوضح فيتسيك أن الموسيقى تمثل له وسيلة للتعبير عن الألم الذي خلفته الحرب، قائلًا: "أنا جندي مبدع، الموسيقى والأغاني هي الدواء الذي يخفف ألمي جراء فقدان أصدقائي المقربين".
Relatedبعد معارك عنيفة.. أوكرانيا تؤكد انسحاب قواتها من سودجا الروسيةالمملكة المتحدة تعقد اجتماع "تحالف الراغبين" لمناقشة الوضع في أوكرانيابعد خسارة بلدة سودجا.. لم تعد أوكرانيا تسيطر إلا على 10% من الأراضي الروسيةوفي معرض دفاعه عن الفيديو،قال فيتسيك "إن كل كلمة في عملنا الإبداعي مكتوبة بالدم. كل بكسل، وكل زي عسكري، وكل سترة واقية وكل خوذة، عاشت الكثير من التجارب الحقيقية". وأضاف: "نحن لسنا ممثلين" وأقول لكل من يعتقد أن الحرب في أوكرانيا هي مجرد فيلم، تعال وزرْ البلد".
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية هل كان دونالد ترامب فعلا عميلا للمخابرات السوفياتية تحت اسم "كراسنوف"؟ في ظل التقارب بين واشنطن وموسكو.. وزراء دفاع أوروبا يناقشون استراتيجية جديدة لدعم أوكرانيا باريس تضخ 195 مليون يورو إضافية لدعم أوكرانيا من الأصول الروسية المجمدة أوكرانياموسيقىأخبار مزيفةكييف