حل المسألة السودانية في النظر إلى المعطيات
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
مقدمة:
هنالك تشابه في بعض الأوجه بين علوم: الرياضيات ، الفيزيآء و الطب ، حيث أن التعامل مع التمارين الرياضية و الفيزيآئية و تشخيص و علاج العلل يرتكز إلى دراسة و تحليل المعطيات و تحديد العوامل المشتركة بينها ثم إختيار القواعد/القوانين الفيزيآئية/الرياضية/الطبية المناسبة التي تقود إلى إيجاد الحلول و الإستنتاجات المنطقية و العلاجات الصحيحة ، و تجدر الإشارة هنا إلى أن القيم قد تلغي بعضها البعض في مسآئل الرياضيات و الفيزيآء فيكون الناتج صفراً ، و قد يكون البتر الجراحي هو العلاج الطبي الوحيد المتاح.
و المسألة/العلة:
هي الأزمة/الكارثة التي حلت ببلاد السودان و أقامت ، و التي اكتوت بنيرانها جميع الشعوب السودانية و آخرين ، و كان من نتآئجها الدمار و الخراب و الموت الذي أصاب المدن و الممتلكات و ألاف الأنفس ، و قد تمددت آثار الكارثة نزوحاً و لجوءً و زَوَغَان/فرار إلى دول الجوار في القارة الأفريقية و شبه الجزيرة الأعرابية و ساحل عمان و قارات: آسيا و أوروبا و أستراليا و الأمريكتين...
و المعطيات:
هي كل ما هو متواجد في الساحة السودانية ، كان ذلك التواجد فعلاً مؤثراً ، أو لعباً و عبثاً أو فُرجَةً ، و المتواجدون هم:
١- القوات المسلحة السودانية و الأجهزة النظامية الأخرى
٢- الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان)
٣- مليشيات الدعم السريع
٤- الحركات المسلحة
٥- الأحزاب السياسية و التجمعات المهنية
٦- الدوآئر الأجنبية
٧- الشعوب السودانية
و إذا ما أسقطنا الفقرة أعلاه على الأزمة السودانية الراهنة فإن الأمر يبدو في ظاهره بسيطاً ، فالمعطيات/المسببات معروفة و إذا كان الأمر كذلك فالمنطق أن يَسهَل الحل و العلاج ، لكن الحقيقة على خلاف ذلك فهنالك تباين و عدم إنتظام في المعطيات ، مما يجعل إختيار و تطبيق القواعد/القوانين الفيزيآئية/الرياضية/الطبية المناسبة التي تقود إلى الحلول و الإستنتاج و التشخيص و العلاج لا يخلو من الصعوبة ، و الدليل على ذلك الوفرة المفرطة في منابر المفاوضات و الوسطآء و المقترحات و الإعلانات و المبادرات التي لم تثمر حلاً أو إنفراجاً ، و لهذا فليس هنالك ضمان أن يفضي تناول و تحليل المعطيات السودانية إلى حلول أو إستنتاجات أو علاجات مرضية/مقنعة...
١- القوات المسلحة السودانية و الأجهزة النظامية الأخرى:
يعتقد كثيرون أن القوات المسلحة السودانية الحالية ما هي إلا مليشيات حكومية منظمة تابعة لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين (الكيزان) ، و يستدلون بعمليات الإستقطاب و ذرع خلايا الجماعة داخل القوات التي بدأت قبل إستيلآء الكيزان على السلطة في صبيحة الثلاثين (٣٠) من يونيو ١٩٨٩ ميلادية (إنقلاب الإنقاذ) ، و كيف أن الجماعة باشرت فور توليها السلطة في التفكيك الفعلي للقوات المسلحة و النظامية الأخرى و مرافق و أجهزة الدولة عن طريق برنامج التمكين ، حيث تم الإستغنآء من الكفآءات العسكرية و النظامية و المدنية المؤهلة ذات الخبرات بحجة الصالح العام و إحلال كوادر الجماعة التي ينقصها التأهيل و الكفآءة و الخبرة...
و معلومٌ أن من يقود القوات المسلحة و الأجهزة الأمنية و الممسك بجميع زمام السلطة و إدارة مرافق الدولة السودانية حالياً هي اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) أو ما يسمى المجلس السيادي العسكري ، و كل المؤشرات تأكد أن هذه اللجنة/المجلس و القوات المسلحة و تنظيم الجماعة هم لب الأزمة السودانية الحالية و المزمنة بتدخلاتهم المتعددة الغير موفقة في أمور السياسة و السلطة و الإقتصاد و ممارسة الفساد ، و الفشل/العجز التآم عن القيام بالمهام الأساسية المتمثلة في حفظ الأمن و الدفاع عن مصالح الوطن و المواطن ، مما أورث بلاد السودان الإحتراب و فظاعات الدمار و الخراب و الفقر و الفوضى...
٢- الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان):
و على الرغم من خلع الرئيس البشير و مهزلة محاكمته بتهمة الفساد المالي ، و على الرغم من بدء المحاكمة الصورية/الهزيلة/المهزلة لمدبري و منفذي إنقلاب الثلاثين (٣٠) من يونيو ١٩٨٩ ميلادية ، إلا أن الجماعة (الكيزان) ما زالت ممسكة بزمام السلطة و أركان الحكم ، و قد إجتهدت الجماعة كثيراً في إعاقة مسيرة ثورة ديسمبر ٢٠١٨ ميلادية و كللت جهودها بإشعال الحرب...
و المنطق يشير إلى أنه لا يوجد حل يرتجى لدى جماعة فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة بلاد السودان بعد إنفراد كامل بالسلطة و الموارد الهآئلة و لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان ، فقد إنشغلت الجماعة بالتأمين عن التنمية ، و مارست أصناف غير مسبوقة من القمع و الفساد أدت إلى الموت و النزوح و تدمير الإقتصاد و إنهيار مرافق الدولة...
٣- مليشيات الدعم السريع:
و ما هي إلا عصابات قطاع الطرق المعروفة بإسم جماعة الجَنجَوِيد التي نشطت في غرب السودان ، و مارست الترويع و القتل الجماعي و التطهير العرقي و السلب و النهب و حرق القرى و تسببت في الفوضى و فرار/نزوح السكان ، و قد أضافت الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) إلى تلك العصابات الكثيرين من كوادرها ، و أمدتهم بالعتاد و التسليح ، و شرعت لهم القوانين ، و أطلقت عليهم المسميات: حرس الحدود ثم الدعم السريع ، و أسبغت عليهم الرتب العسكرية ، و استخدمت قدراتهم التدميرية الإستثنآئية في البطش بالخصوم من الجماعات المسلحة المتمردة في أطراف بلاد السودان و المعارضين المحتجين في المدن السودانية ، كما وظفتهم في حروب الإرتزاق في اليمن و دول الجوار...
و قد سلكت مليشيات الجنجويد و قآئدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) طرق حربآئية من أجل السيطرة على السلطة و تجميل القبح ، و كانت البداية في الظهور في معية الرئيس البشير المخلوع في المنصة و حديث الإحتياطي المركزي من الرجال و حميدتي حمايتي ، ثم كان الإنقلاب على ولي النعمة و ركوب موجة ثورة ديسمبر ٢٠١٨ ميلادية ، ثم المرحلة الربانية و مجزرة القيادة العامة و ذلك في تزامن مع مرحلة حميدتي رجل العشآئر و الإدارات الأهلية و الطرق الصوفية ، ثم مراحل حميدتي بطل سلام جوبا و إنقلاب الموز و ناصر الدولة المدنية وصولاً إلى محاولة الإستيلآء على السلطة بالقوة فمرحلة البرزخ و الذكآء الإصطناعي و الأحاديث الثورية عن إزالة دولة ستة و خمسين (٥٦) و قهر الكيزان و إقامة دولة العدل...
٤- الحركات المسلحة:
و قد إتخذت الحركات المسلحة العديد من المسميات التحريرية ، و تتباين زوايا النظر إلى هذه الحركات و تقييمها ، و تتراوح ما بين الكفاح/النضال المسلح و التمرد و الخروج على الدولة إعتماداً على أمزجة و منطلقات المراقبين/المُقَيِّمِين ، و يغلب على طبيعة تكوين أغلب الحركات المسلحة التعصب إلى العنصر و العرق و الجهة أكثر من التحيز إلى نصرة قضايا الشعوب السودانية الأساسية المتمثلة في الحرية و السلام و العدالة و الحكم الرشيد...
و قد دلت التجارب و الشواهد في السودان أن بعضاً/كثيراً من قادة و أفراد الحركات المسلحة ”التحريرية“ تنقصهم الملكات الضرورية التي تأهلهم للإنخراط في الكفاح/النضال الجماهيري التحرري ، و أن بعضاً/كثيراً من هذه الحركات قد فشلت في تأمين و حماية قواعدها/مجتمعاتها ، بل أن هنالك إتهامات أن بعضاً منها قد مارس الإنتهاكات و الفظآئع ضدها و تسببوا في الفوضى و الإفقار و النزوح ، و أن بعضاً/كثيراً منها و في سبيل الحصول على السلاح و التمويل المالي قد مارس الإرتزاق...
شواهد الأحوال و المعطيات تشير إلى أن ضيق الأفق و الطموحات الذاتية عند بعض/كثير من قادة و منسوبي الحركات المسلحة قد حولت قضايا: إزالة الظلم و تحقيق الأمن و السلام و العدالة و التنمية إلى كروت ضغط في مفاوضات المحاصصات حول الحقآئب الوزارية و الوظآئف الحكومية و الإمتيازات الشخصية...
٥- الأحزاب السياسية و التجمعات المهنية:
و الشاهد أن بعض/أغلب الأحزاب السياسية و التجمعات المهنية ينقصها التنظيم و تسودها الفوضى الإدارية ، و لا تخلو معظم الأحزاب السياسية من الديناصورات و جماعات المتسلقين من: السواقط و الأرزقية و الإنتهازية و الطفيلية و الفواقد التربوية و المجتمعية ، و هنالك الكثير من المروي المتناقل و المكتوب الموثق عن إنشغال قيادات و كوادر بعض/كثير من الأحزاب بخدمة المصالح الذاتية...
و قد دلت التجربة الإنتقالية الأخيرة و ما سبقها من تجارب الحكم المدني الفاشلة التي تعاقبت على بلاد السودان منذ الإستقلال مدى عوار هذه الأحزاب و إفلاسها الفكري و التنظيمي و عدم أهليتها/مقدرتها على ممارسة السياسة و تولي السلطة و الحكم و إدارة الدولة بصورة ناجحة و رشيدة...
٦- الدوآئر الأجنبية:
و تشمل منظمات إقليمية و أممية و دول و ما يتبع من أجهزة مخابراتية و عملآء محليين و ما يدور في فلكهم من منظمات العون الإنساني و حقوق الإنسان و جماعات النشطآء ، و لقد تكاثرت و تمددت هذه المنظمات و الجماعات في بلاد السودان خلال السنين الأخيرة من عهد الرئيس المخلوع و إبان الفترة الإنتقالية و بصورة مقلقة حتى بلغ تعدادها و نشاطاتها و تدخلها في الشأن السوداني مرحلة الفوضى و العبث و اللامعقول...
تَدَخُل/تورط الدول و الدوآئر الأجنبية في الشأن السوداني ، في دور الوسيط أو أي دور آخر ، يكون من بوابة خدمة المصالح ، و لا يمكن لأحد أن يعيب على تلك الدول/الدوآئر خدمة مصالحها ، فذلك أمر مشروع ، و لكن العيب في العملآء المحليين الذين يبيعون مصالح الأوطان مقابل مكاسب شخصية...
التدخل الأجنبي ليس هو الحل ، و القوى الأجنبية لا تملك عصا الحلول السحرية ، فقد أكدت التجارب العالمية أن التدخلات الأجنبية لا تعني بالضرورة العدالة و السلام و الإستقرار و التنمية ، بل أنها غالباً ما تقود إلى الفشل و الإحتراب و الفوضى ، و الحل يملكه السودانيون وحدهم...
٧- الشعوب السودانية:
و قد تراوحت أدوار الشعوب السودانية ما بين المشارك و المؤيد و الساكت عن الحق (الأخرس) بينما قبعت الأغلبية في خانة المراقب البَرُوز ، و البَرُوز هي مرتبة المشاهدين الغير مكلفين ، و البروز المقصودون هنا هم أولئك الذين أُلغِيت/نزعت حقوقهم في حرية التعبير و التنظيم و المشاركة في إختيار الحكم المدني الذي يلبي طموحاتهم و تطلعاتهم في العيش الكريم و الرفاه ، و الذين قُمِعَت/صُودِرَت إراداتهم في إحداث التغيير ، و حُجِبَت عنهم أدوات و أليات البحث عن الحاضر السعيد و الغد الأفضل...
و قد مُورِسَ القمع و الإضطهاد و الحبس و التعذيب و القتل و جميع أنواع الإنتهاكات و الفظاعات على جميع الشعوب السودانية على مدى عقود طويلة من الزمان ، و قد صحب ذلك غياب التنمية و تدهور في الأوضاع المعيشية و تصاعد في وتيرة الفقر و النزوح و الهجرة ، و غاب الأمن و حل الخوف و الجهل و المرض و ملحقاتهم ، و في تلك الأجوآء إختلطت الأمور و السبل على قطاعات عريضة من الشعوب السودانية ، و قد نتج عن ذلك إرتباك و فوضى في التفكير و السلوك فارقت في بعض/كثير من الأحيان الدين و العرف و كريم المعتقدات و مكارم الأخلاق...
الخلاصة:
تداخلت عناصر المعطيات و تشابكت كثيراً و تعقدت ، لكن على الرغم من ذلك جمعت بينها فآءات: الفساد ، الفظاعات ، الفشل و الفقر و الفرار و الفوضى...
في الختام:
و كما توقفت حروب البسوس و داحس و الغبرآء فلا بد أن تتوقف الحرب السودانية ، و سوف يحدث ذلك عندما تبلغ الأطراف المتحاربة مرحلة الإنهاك و الإفلاس القتالي و العجز/الفشل في تحقيق الأهداف و عندما يمل/يضجر الكفيل و تضمحل/تخمد رغبته في المساعدة/المشاركة ، و حينها سوف تأتي الحلول/العلاجات التي من المنطق/المفترض أن تتضمن إلى جانب أشيآء أخرى:
١- إعادة تشكيل و تكوين ما تبقى من القوات المسلحة السودانية و النظامية الأخرى على أسس جديدة تعكس التنوع السوداني و تضمن الإحترافية
٢- محاكمة: قادة نظام الثلاثين (٣٠) من يونيو ١٩٨٩ ميلادية من العسكريين و أعضآء اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) (المجلس السيادي العسكري) و كل من تآمر/تعاون معهم
٣- حل حزب المؤتمر الوطني و تفكيك نظام الثلاثين (٣٠) من يونيو ١٩٨٩ ميلادية و كل منظمات الجماعة ، و مصادرة الممتلكات و الأصول و الأموال ، و محاكمة كل من فسد و أفسد و أثرى من قادة الجماعة و أعضآء التنظيم و الحاشية/الأذناب
٤- حل و تفكيك مليشيات الجنجويد و مصادرة أسلحتها و جميع أصولها و ممتلكاتها و مؤسساتها الإقتصادية ، و كذلك محاكمة كل من خالف و ارتكب القتل و المجازر و الإنتهاكات من قياداتها و أفرادها...
٥- إيجاد الحلول لمسببات ظلم و ”تهميش“ الشعوب السودانية و ذلك عن طريق التوافق على نظام جديد للحكم يضمن العدل و دولة القانون و المؤسسات
٦- إصدار قانون الأحزاب و النقابات
٧- إعادة النظر في علاقات السودان الخارجية
٨- إعادة تأهيل الشعوب السودانية (الفَرمَتَة)
و من المأمل أن تقود هذه الحلول إلى إنتفآء مبررات تشكيل الحركات المسلحة و التمرد/الإنقلاب على الدولة ، و لو إلى حين!!!...
و الحمدلله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوات المسلحة السودانیة الأحزاب السیاسیة الحرکات المسلحة أن بعض
إقرأ أيضاً:
توقعات ما بعد الحرب والاتفاق السياسي في السودان: فرص التحوُّل ومخاطر الانكفاء
لحظة فارقة في مسار الدولة السودانية
يقف السودان اليوم على مفترق التاريخ؛ فمع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية دولية وانتقالياً عبر مؤتمر لندن، لم يعد الحديث مجرّد نهاية للصراع المسلّح، بل هو اختبار جوهري لإمكانات إقامة دولة مدنية ديمقراطية تحتضن التنوع الإثني والثقافي بدلاً من الانكفاء في منطق الاستقطاب العسكري. إن التحدّي المركزي يكمن في ترجمة التزامات الورق إلى واقع ملموس نابض بالحقوق والحريات، وسط لعب إقليمي ودولي متضارب المصالح.
بناء السلطة الانتقالية: هشاشة في التوازن
تشتمل الصيغة المقترحة على مجلس رئاسي متعدد الأقطاب يجمع بين تمثيل المكوّن المدني من قوى الثورة وقوى التغيير وبقايا النظام السابق وأجنحة الحركات المسلحة الكبرى، مع آلية تصويت توافقي تتيح استخدام “الفيتو الجزئي” في القضايا الاستراتيجية لضمان التوازن وتقاسم المسؤوليات. أما الحقائب الوزارية، فستحافظ على السيادية منها لدى مدنيين مستقلين أو تكنوقراط، في حين تُسند الوزارات الأمنية لمن لهم خلفيات عسكرية تحت رقابة مدنية تُشرف عليها بعثة حفظ السلام الدولية. على صعيد الدستور الانتقالي، يتعيّن اعتماد مبادئ اللامركزية الإدارية لتوسيع صلاحيات الأقاليم المهمشة كدارفور والنيل الأزرق، مع تمثيل النساء والشباب بما لا يقل عن أربعين في المئة داخل لجنة دستورية تحت إشراف أممي، تُنهي مسودة الدستور خلال تسعة أشهر.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية: ثقة تحت الاختبار
يتطلب دمج ميليشيات الحركات المسلحة ضمن الجيش النظامي إدماج نحو ثلاثين في المئة من مقاتليها وترك الباب مفتوحاً أمام برامج DDR التي تشمل نزع السلاح وتسريح المقاتلين عبر حوافز اقتصادية كتدريب مهني وقروض صغيرة، في سبيل تقليل مخاطر تحول هؤلاء إلى عصابات مسلحة. أما على صعيد الضمانات الأمنية، فستُنشَر قوات حفظ سلام إفريقية في المناطق الساخنة مع دوريات مراقبة دولية لرصد أي خروقات لحقوق الإنسان، إلى جانب آلية تحقيق مشتركة تضم خبراء أمميين ومحليين لجمع الأدلة تمهيداً لإحالتها إلى محكمة يقررها مجلس الأمن.
الحركات المسلحة كفاعلين سياسيين: الإمكانات والمحاذير
تملك الحركة الشعبية اليسارية بقيادة ياسر عرمان رصيداً جماهيرياً في الريف والحضر، وتطرح نفسها حارساً للأجندة المدنية، إلا أن نجاح تحولها إلى حزب سياسي منظم مرهون بقدرتها على ترجمة شعارات المواطنة والعدالة الاجتماعية إلى سياسات تنموية فعلية. أما حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، فتعتمد على دعم شعبي قوي في دارفور، ولكن عليها تجاوز الانقسامات الداخلية وتبنّي خطاب تنموي يخاطب الشريحة الشبابية ويؤسس لحوكمة محلية فعّالة، إذ إن الثغرات التنظيمية والانقسامات الإثنية قد تحول دون بناء حزب متماسك قادر على المنافسة الانتخابية.
التوازنات الإقليمية والدولية: لعبة النفوذ
تسعى القاهرة وأبوظبي أولاً إلى ضمان أمن منابع النيل واستقرار الحدود الغربية، فتدعم جهود الاستقرار شريطة عدم الإضرار بمصالحهما الاستراتيجية. وفي المقابل، تستخدم واشنطن وبروكسل ورقة المساعدات—التي تجاوزت عشرة مليارات دولار—ورفع العقوبات كحافز لتمرير الإصلاحات الاقتصادية والشفافية، مع ربط الدعم بمؤشرات عمل مؤسسي رشيد. أما موسكو وبكين فكلاهما يسعى لتأمين استثمارات نفطية وبنى تحتية عبر دعم غير مباشر للفصائل العسكرية، ما قد يعقّد مسيرة التحوّل المدني ويعيد ترتيب الأوزان داخل السلطة الجديدة.
القنبلة الاقتصادية: تحرير أم استدامة؟
لا بدّ من تعويم الجنيه السوداني لوقف انهياره، رغم مخاطره في إطلاق موجة تضخم قد تُشعل احتجاجات شعبية. وفي الوقت نفسه، يطرح تفعيل مبادرة “الهيبك” لإعادة هيكلة الديون الخارجية التي تجاوزت ثلاثين مليار دولار أملاً بتخفيف الضغط المالي، شريطة تنفيذ إصلاحات جذرية في الحوكمة والإفصاح المالي.
سيناريوهات ما بعد الاتفاق: ما بين التفاؤل والحذر
يمكن رسم خريطة مستقبلية للسودان بوقوعه بين تفاؤل متحفظ ومخاوف متعاظمة. فمن ناحية، تنضج إمكانية نجاح التحالف المدني في فرض أجندة إصلاحية حقيقية، وإجراء انتخابات نزيهة في عام 2025 تؤسس لمرحلة انتقالية توافقية. ومن ناحية أخرى، يتهيأ سيناريو عسكرة الدولة مجدداً إذا فشل دمج المليشيات، مع تجدد الاحتجاجات وتدخل إقليمي مباشر يجرّ البلاد إلى دوامة عنف جديدة. وقد يستقر الوضع هشاً في منتصف الطريق مع تأجيل الانتخابات واستمرار السلطة الانتقالية لسنوات تحت وصاية دولية، ما يقتصر دوره على إدارة احتياجات مؤقتة دون تحقيق قفزة نوعية.
رهان المصير
ترتبط فرص السودان التاريخية بثلاثية مترابطة: تحوّل رأس المال العسكري من موقع الحَكَم إلى خادِم للعملية الديمقراطية، واتحاد القوى المدنية خلف مشروع وطني يتجاوز الانقسامات الإثنية والدينية، وضغوط دولية ذكية تربط الدعم المالي بمعايير شفافة دون وصاية مفرطة تغذي النزعات الشعبوية. إذا نجحت هذه المعادلة، فسيكون السودان نموذجاً للتغيير السلمي في القرن الإفريقي، وإن أخفقت، فقد يتحول إلى مثالٍ صارخ للدولة الفاشلة مع تداعيات تتخطى حدوده إلى شبحٍ يُثقل كاهل استقرار المنطقة والعالم.
zuhair.osman@aol.com