وعي الشعوب العاجزة
أيقظت غزة من حيث لا تدري ظمأ الشعوب الدفين إلى الانتصار والتحرر وتحقيق شروط الكرامة.
أسقطت غزة عن النظام الإقليمي آخر مساحيقه كمجرّد حارس لحدود المحتل ووكيل إقليمي مكلّف بقمع كل حركة شعبية قد تفسد عليه أجواء الإبادة الكبرى.
لم يتكالب الغرب ووكلاؤه العرب على غزة ولم تتوحش آلة القتل الصهيونية إلا لأنهم أدركوا جميعا خطورة منوال المقاومة الفلسطينية على وعي الأمة الجمعي.
إذا تحولت غزة إلى درس عربي إسلامي يحتذى طريقا وحيدا إلى الحرية والتحرر فإن ذلك يعني حتما نهاية الاحتلال وتفكك شروطه وأولها النظام الرسمي العربي نفسه.
نجحت أذرع النظام الإقليمي في تصفية الثورات وتحويل وهجها لحالة يأس وإحباط عميقة ولعبت جماعة العنف المسلح المرتبطة بأجهزة القمع دورا محوريا في الجريمة.
أبرز مظاهر العجز الوعي بزيف التعويل على الخارج الذي أبان عنصرية مقيتة وإجرام رسمي مما يعيد الصراع لساحته الحقيقية في الداخل القادر وحده على حسم معركة التحرر.
لم تتحرر غزة وتصمد بوجه حرب صليبية متوحشة إلا يوم تخلصت من الاستبداد العربي ممثلا بالسلطة العميلة وآمنت بأن طريق الحرية والنصر معبّدة بالشهداء ودماء الأحرار.
* * *
لن نخوض في جرائم الاحتلال ولا في تواطؤ المجتمع الدولي وتخاذل الأنظمة العربية فلا جديد في ذلك وهو أمر منتظر وطبيعي وفق طبيعة النظام الدولي والإقليمي اليوم. لكنّ أهم الأسئلة التي تطرح الآن في الشارع العربي صراحة أو تلميحا أو استبطانا إنما تتعلق بهذا الشعور الجمعي المريع بالعجز عن الحركة وردّ الفعل تجاه ما حدث ويحدث في غزة.
لعلها المرة الأولى في تاريخ الصراع مع المحتل التي تصل فيها أخبار المجازر والمذابح صوتا وصورة فور وقوعها. ولعلها المرة الأولى التي تتمايز فيها المواقف دون رتوش أو مساحيق في المشرق والمغرب ولعلها أيضا المرة الأولى التي تقف فيها الشعوب العربية واعية بعجزها جثة جامدة مخدّرة لا تقوى على الحركة.
أين ذهب ملايين العرب؟ وأين اختفى مليارا مسلم؟ ولماذا عجزت الشعوب عن الحراك والتظاهر والتضامن كما حدث من قبل؟ لماذا عجزنا عن إيقاف المذبحة الكبرى؟
عجزُ الشعوب وقودُ الاحتلال
من المحيط إلى الخليج دون استثناء يذكر وقفت الشعوب والحكومات والدول عاجزة عن إدخال قارورة ماء إلى القطاع المحاصر في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الصهيونية والأمريكية والبريطانية تقصفه يوميا بأطنان القنابل والأسلحة المحرّمة. تحولت غزة إلى بركة من الدماء وساحة للجثث والأشلاء الممزقة فلا المدارس ولا المستشفيات ولا دور العبادة سلمت من القصف الهمجي.
لم تكن حرب الإبادة هذه ممكنة لولا يقين المحتل بأنْ لا أحد من دول الجوار سيتحرك للدفاع عن أهل غزة وإيقاف المذبحة. كان المحتل على يقين بأن الشعوب العربية تقع خارج معادلة الصراع بعد أن نجح النظام الدولي عبر وكلائه الإقليميين في تدجين الجماهير وإخضاعها بأدوات القوة الصلبة والناعمة.
لم نكن ننتظر جموعا زاحفة على القطاع لفك طوق الحرب عن الأطفال المحاصرين ولا كنا نحلم بالشعوب الغاضبة وهي تجبر حكوماتها على إدخال المساعدات إلى المحتاجين أو السماح بعبور الجرحى والمصابين بل كنا نأمل في حالة غضب شعبي قادرة على تهديد عواصم التطبيع والتنسيق الأمني.
كُنا نأمل في وحدة الصف الشعبي أمام المجزرة وتهديد الحكومات والأنظمة المطبعة والصامتة بأنّ السكوت عن الجريمة قد يكلفها بقاءها في الحكم لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. لقد اكتفينا جميعا ببعض الوقفات الخجولة هنا أو هناك أو حملات السخط والغضب على مواقع التواصل الاجتماعي لكن على أرض الواقع كانت طائرات العدو تبيد سكان غزة إبادة لا مثيل لها.
كل النخب العربية تقريبا والأحزاب والجمعيات والهيئات غير الحكومية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني والأجسام الوظيفية من محامين وأطباء ومهندسين وجامعيين ورياضيين.. آثروا الصمت باستثناءات قليلة جدا. لم تحدث أية حركة جماعية معبّرة عن رفض المذبحة ولم تتشكل أية جبهة شعبية أو حزبية أو حقوقية أو برلمانية أو غيرها للضغط على الشارع والسلطة.
الطريق إلى العجز
كيف حدث كل هذا؟ وكيف وصلت أمة يفوق تعدادها نصف مليار من المحيط إلى الخليج إلى هذا المستوى من انعدام الحركة وردة الفعل؟
الداء قديم لكنه تضاعف في العقود الأخيرة بعد أن أحكمت أدوات النظام الرسمي العربي قبضتها على كل المفاصل المحركّة للوعي الشعبي. إن القمع الدموي الذي ووجهت به الثورات الأخيرة والتي لا تزال فصولها متعاقبة في سوريا يمثل واحدا من أنصع الأمثلة على حرب الإبادة التي تعرّض لها الوعي الجمعي المقاوم من قبل السلطة العربية وحلفائها في الإقليم.
كان الربيع العربي فرصة تاريخية للتحرر من النظام الإقليمي القمعي وتفكيك أدواته وتصفية أذرعه الباطشة في السياسة والثقافة والإعلام والاقتصاد والعقيدة لكنّ النخب العربية لم تكن على قدر المسؤولية والحزم والشجاعة.
نجحت أذرع النظام الإقليمي في تصفية الثورات وتحويل الوهج الثوري إلى حالة عميقة من اليأس والإحباط ولعبت جماعة العنف المسلح المرتبطة بأجهزة القمع دورا محوريا في هذه الجريمة.
ترسخت ثقافة الهزيمة مرة أخرى بعد نشوة انتصار عابرة وعادت حالة القمع أشد من ذي قبل وخيمت على المنطقة حالة من الخوف والقبول بالأمر الواقع وسط أنهار من الدماء. على جبهة أخرى نجحت الأذرع الإعلامية والفكرية للاستبداد في إقناع الجماهير بأن التغيير والثورة وطلب الحرية ليست إلا مؤامرة صهيونية أطلسية هدفها تخريب الأوطان وتهديد الأمن والأمان وضرب الدولة الوطنية وتهديد مسيرة البناء والتشييد.
دروس العجز
لكنّ مذبحة غزة الأخيرة شكلت صفعة مريعة لشعارات الوطنية الكاذبة وعصفت في أيام معدودة بأسطورة التضامن العربي والتعاون الإسلامي ومحور المقاومة والممانعة. لقد أحييت غزة من حيث لا تدري ضمأ الشعوب الدفين إلى الانتصار والتحرر وتحقيق شروط الكرامة. أسقطت غزة عن النظام الإقليمي آخر مساحيقه بعد أن انكشف مجرّد حارس لحدود المحتل ووكيل إقليمي مكلّف بقمع كل حركة شعبية قد تفسد عليه أجواء الإبادة الكبرى.
أدركت الشعوب اليوم أكثر من أي وقت مضى أنها مكبّلة مستعبدة وأنها واقعة تحت واحد من أبشع أنواع الاحتلال الداخلي وأن الدور قادم عليها يوما ما. أيقنت الشعوب كذلك زيف شعارات دول "المقاومة والممانعة" التي لم تطلق رصاصة واحدة في اتجاه العدو بل ابدعت في مسرحيات الدقائق الأخيرة عبر الحدود أو في عرض البحر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
إن أخطر ما يمكن حدوثة بعد المذبحة هو أن تعود الجماهير والنخب والمنظمات والأحزاب إلى الحالة التي كانت عليها قبلها دون أن تقوم بنقد ذاتي يهدف إلى منع تجدد حالات العجز والصمت القاتل.
إن الصراع مع أنظمة الاستبداد العربي لم يعد يمثل خيارا شعبيا أو نخبويا بل صار مسألة وجودية حاسمة لأن بقاء النظام الإقليمي قائما كما هو يعني ذهاب المنطقة وشعوبها إلى حالة التحلل والفناء لا سمح الله.
إن تفكيك الاستبداد العربي يستوجب أولا تفكيك الحالة الثقافية والذهنية المرتبطة به والتي تعبّر عنها أذرعه الفكرية والسياسية والإعلامية والثقافية العقائدية. ولا يمكن تفكيك هذه الحالة دون الوعي الفاعل بأن الخوف الجماعي التي يسيطر على الجماهير وعلى الفواعل الاجتماعية إنما هو شكل مرضي قاتل ووهم فتاك يقود صاحبه إلى الانتحار البطيء.
إن أبرز دروس العجز إنما يتمثل في الوعي بزيف التعويل على الخارج الذي أبان عن عنصرية مقيتة وإجرام رسمي لا غبار عليه وهو ما يعيد الصراع إلى ساحته الحقيقية وهي ساحة الداخل القادر وحده على حسم معركة التحرر.
لم تتحرر غزة ولم تصمد في وجه حرب صليبية متوحشة إلا يوم تخلصت من قيود الاستبداد العربي ممثلا في السلطة العميلة ويوم آمنت بأن طريق الحرية والنصر معبّدة بجثامين الشهداء مخضّبة بدماء الأحرار.
لم يتكالب الغرب ووكلاؤه العرب على غزة ولم تتوحش آلة القتل والإجرام الصهيونية إلا لأنهم أدركوا جميعا خطورة منوال المقاومة الفلسطينية على وعي الأمة الجمعي.
إذا تحولت غزة إلى درس عربي إسلامي يحتذى طريقا وحيدا إلى الحرية والتحرر فإن ذلك يعني حتما نهاية الاحتلال وتفكك شروطه وأولها النظام الرسمي العربي نفسه.
*د. محمد هنيد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة السوربون، باريس
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الغرب الاحتلال العجز فلسطين غزة المقاومة وعي الأمة الاستبداد العربي الاستبداد العربی النظام الإقلیمی
إقرأ أيضاً:
مدير إدارة الوطن العربي بالخارجية السورية: الدول العربية دعت لرفع العقوبات عن سوريا للتخفيف عن الشعب
أكد مدير إدارة الوطن العربي في الخارجية السورية ، أن هناك مجموعة من المعايير التي ستحدد موقف المجتمع الدولي من التغيرات الأخيرة في سوريا، وفقا لما ذكرته فضائية “القاهرة الإخبارية” في نبأ عاجل.
بشار الأسد يكشف كواليس خروجه من سوريا بشار الأسد: لم أغادر سوريا بشكل مخطط
وتابع مدير إدارة الوطن العربي، أن هناك تركيز دولي كبير على ضرورة تقديم المساعدات الإنسانية للشعب السوري.
وأضاف أن :"الدول العربية دعت لرفع العقوبات عن سوريا للتخفيف عن الشعب السوري".
فاينانشيال تايمز: بشار الأسد نقل 250 مليون دولار من المركزي السوري إلى موسكو
وفي إطار آخر، قالت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، إن مصرف سوريا المركزي نقل مبالغ نقدية تقدر بنحو 250 مليون دولار عبر رحلات جوية إلى روسيا خلال عامين، عندما كان الرئيس السابق بشار الأسد الذي فر إلى موسكو قبل أسبوع، مديناً للكرملين، مقابل الدعم العسكري، فيما كان أقاربه يشترون أصولاً "بشكل سري" في موسكو.
وسيطرت فصائل المعارضة السورية المسلحة على العاصمة دمشق، الأسبوع الماضي، إثر تقدم خاطف دفع الأسد للفرار إلى روسيا بعد حرب استمرت 13 عاماً، وإنهاء أكثر من 5 عقود من حكم عائلته.
وأكدت الصحيفة، في تقرير، إنها اطلعت على سجلات تُظهر أن نظام الأسد، الذي كان يعاني من نقص حاد في العملة الأجنبية، نقل عملات نقدية تزن ما يقرب من طنين من فئة 100 دولار و500 يورو إلى مطار فنوكوفو في موسكو، ليتم إيداعها في بنوك روسية خاضعة للعقوبات الغربية خلال عامي 2018 و2019.
تركيا ترسل فريق بحث إلى سجن صيدنايا للتحقق من وجود معتقلين داخل الأقسام السرية
أعلنت رئاسة الطوارئ والكوارث التركية (آفاد)، أنها سترسل اليوم الاثنين فريقاً مختصاً للبحث والإنقاذ إلى سجن صيدنايا العسكري، بعد ورود أنباء عن احتمال وجود معتقلين داخل الأقسام السرية للسجن، الذي كان يُستخدم كمقر لتعذيب المعارضين في عهد نظام بشار الأسد.
وأوضحت آفاد في بيان لها أن هذه الخطوة تأتي في إطار الجهود الإنسانية المبذولة للكشف عن مصير المفقودين والمعتقلين الذين يُعتقد أنهم كانوا محتجزين في السجن، الذي اشتهر بكونه أحد أبرز رموز القمع خلال سنوات حكم النظام السابق.
وأكد البيان أن الفريق المرسل إلى سجن صيدنايا سيتكون من 80 شخصاً مدربين على عمليات الإنقاذ في الظروف المعقدة، وسيعملون باستخدام أجهزة وتقنيات متطورة للكشف عن أي دلائل تشير إلى وجود ناجين أو جثامين داخل الأقسام السرية للسجن.
ومن المقرر أن يبدأ الفريق عمله فور وصوله إلى السجن، الذي يقع على بعد نحو 30 كيلومتراً شمال العاصمة دمشق. وأشارت “آفاد” إلى أن العملية تهدف إلى تقديم المساعدة في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، وضمان عدم ترك أي معتقلين محتملين داخل هذا السجن المعروف بسمعته السيئة.