في زمن الحرب الإسرائيلية على غزة، يقول قرّاء عرب إن اللغة لم تعد تكفي لوصف أهوال الموقف ويستحضر كثيرون منهم اقتباسات لفنون الأدب الفلسطيني من شعر ونثر ورواية وقصة في محاولة لمقاربة الفواجع والبطولات على حد سواء.

ومن أبرز روائع الأدب الفلسطيني التي يستعيدها القراء بكثافة هذه الأيام، أعمال غسان كنفاني (1936-1972)، ومنها روايته الشهيرة "أم سعد" (1969)؛ فمع كل يوم من أيام الحرب، تبزغ شخصية الأم الفلسطينية -في الرواية وفي الواقع- التي تجابه البؤس بهمة عالية، لعلها في يوم ما، تفتح صرَّة أمتعتها لتستلّ مفتاح العودة إلى بيتها القديم.

فمن تكون "أم سعد"، ولمَ تم استحضارها في الظرف الراهن؟

"مدرسة يومية"

"أم سعد امرأة حقيقية، أعرفها جيدا، وما زلت أراها دائما، وأحادثها، وأتعلم منها، وتربطني بها قرابة ما. ومع ذلك فلم يكن هذا بالضبط ما جعلها مدرسة يومية، فالقرابة التي تربطني بها واهية إذا ما هي قيست بالقرابة التي تربطها بتلك الطبقة الباسلة المسحوقة والفقيرة والمرمية في مخيمات البؤس، والتي عشت فيها ومعها، ولست أدري كم عشت لها".

بهذه الكلمات يقدم غسان كنفاني شخصية أم سعد في مدخل الرواية كشخصية حقيقية تنحدر من الطبقة الكادحة المسحوقة، تعيش في مخيمات البؤس في لبنان وتأتي صباح كل ثلاثاء للعمل في منزل الراوي الذي يعيش خارج المخيم، وتحكي له عن ابنها الذي اعتقل أثناء محاولته الالتحاق بصفوف المقاومة بفلسطين، ثم تخبره لاحقا -وهي تتوهج بسعادة غامضة- بأنه غادر السجن وأن محاولاته، أخيرا، قد تكللت بالنجاح.

"قلت لجارتي هذا الصباح: أود لو عندي مثله عشرة. أنا متعبة يا ابن عمي. اهترأ عمري في ذلك المخيم. كل مساء أقول يا رب! وكل صباح أقول يا رب!. وها قد مرت 20 سنة، وإذا لم يذهب سعد، فمن سيذهب؟".

رائحة الأرض

أم سعد التي كتب عنها غسان كنفاني ببراعة، هي نموذج للأم الفلسطينية التي تؤمن بأنها جزء من صناعة التغيير، تقف تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة، امرأة تفتخر بأنها تلد الأولاد ليصيروا فدائيين من أجل فلسطين، هي التي هُجّرت من أرضها فأدركت أن الرصاص هو طريق العودة الأوحد، وأن جرح الوطن غائر أكثر مما نتصور؛ لكن أمل استرجاع ما ضاع قائم بالنسبة للذين أدركوا بأن فلسطين ليست فقط استعادة ذكريات، بل هي صناعة للمستقبل.

وفي تناولها للرواية، كتبت الروائية الكويتية بثينة العيسى على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك "يعرفُ أكثرنا (عائد إلى حيفا) و(رجال في الشمس) أكثر مما يعرف (أم سعد). لكنني في هذه الأيّام أفكّر في أم سعد، أستحضرها في خيالي وأشمُّ فيها رائحة الريف، لأنها حيثما تذهب تكون مضمّخة بالأرض وحاملة في صرّتها الفقيرة عِرق دالية يابس".

وتضيف العيسى أن "أم سعد ليست شخصا متخيلا، ومع ذلك فإن هذه الرواية التي كُتبت عنها تمثل بيان غسان كنفاني ضد اليأس والعبث واللا جدوى؛ لأنها لا تكف عن زرع الدوالي في المخيّم وعلى إيقاع الهزائم، بل بعدها مباشرة".

وتتابع العيسى حديثها بالقول إن أم سعد "تغرسُ عرق الدالية على الباب وتقول "في أعوامٍ قليلة تأكلُ عنبًا". تفعل ذلك لأنَّ الدالية شجرة معطاءة لا تحتاج إلى كثير من الماء.. إنها تأخذ ماءها من رطوبة التراب ورطوبة الهواء، ثم تعطي دون حساب".

رسالة ضد اليأس

من اللافت للانتباه أن هذه الرواية التي كتبها كنفاني بعد نكسة 1967 بسنتين، كانت رسالة ضد اليأس ووصية لتضافر الجهود وإعادة ترتيب أوراق المقاومة بدل الهجرة؛ فكل قضية عادلة تحتاج أمثال أم سعد، امرأة تنهض كل مرة من الهزيمة وهي تؤمن بأن العود الناشف يمكن أن ينبت عنبا ولو بعد حين؛ وتدافع عن ابنها الذي رفض أن يشارك في عملية إزاحة الوحل عن المخيم، وفضّل بدل ذلك أن يكافح للقضاء على أسباب وجود المخيم ذاته. إنها امرأة تجيد التقاط أسباب الأمل مهما كان كبيرا ما تعانيه من بؤس.

هكذا يجسد غسان كنفاني صورة شريحة واسعة تملك وعيا سياسيا وتناضل من موقعها، بأغلى ما تملك، يفعل ذلك ليصورها كمحرك رئيسي للمقاومة ومدافع صلب عن القضية العادلة، ويرسل بذلك رسالة ضمنية بأن المقاومة هي الحل، وهو الذي كان يقول "لا يمكن الاعتماد على الدول العربية لتحارب من أجل عودة الفلسطينيين إلى بلادهم"، وكتب في روايته:

"قال لها: تصبحين على وطن.
فقالت أم سعد: ما فش حد بنام بصحى بلاقي وطن بستناه".

الكلمة لا تموت

من جانبه، يلفت الكاتب المصري محمد سمير ندا لعبقريّة غسان كنفاني التي يمكن استخلاصها في روايته القصيرة "أم سعد"، من خلال توحيده بين الأرض والأم، ومزاوجته بين التراب والجسد في شخصية روايته الرئيسية، مشيرا لأن "أم سعد وسعيد – تلك المرأة/الأرض التي لم تعرف السعادة- ليست سوى جسد ينبت ألف فدائي كل صباح، بعدما توارى في مساءاتها ألف شهيد، من دون أن ترتدي يومًا ثوب الحداد".

ويضيف صاحب رواية "بوح الجدران" -الذي ولد في العراق وتشكل جزء من طفولته على إيقاعات الحرب العراقية الإيرانية- أن "الأم الفلسطينية، شأنها في ذلك شأن حقول فلسطين، تلد الرجال وفي يدهم بندقية، ترضعهم بأسها، هناك حيث لا يبكي الرضع، ولا يتأخرون في المشي، ولا يعرفون الزحف إلى الوراء، فإن سقط منهم شهيد، ردته إلى رحمها الذي لا يشيخ ولا تنضب خصوبته، لكي تلده من جديد".

ويعتبر سمير ندا -في حديثه للجزيرة نت- أن "ملامح أم سعد تشبه أمهاتنا وجدّاتنا، تعيش بين ركام المخيّمات، بقيم الاعتزاز بالحق، والاعتداد بالفدائي الذي أرضعت، وكل هذه القوة والصلابة والإيثار".

ويتابع "تثبت أم سعد، في هذه السرديّة الخالدة، أن هذه الأرض لن تُفقد طالما بقي أبناؤها قيد الثبات، وأن وطنا كفلسطين، لن يغيب عن خارطة العالم، طالما بقي أسفل حطامه، وفي مخيّماته، وفي مستشفياته ومدارسه، وفي ما بقي من دوره منتصبًا، أمهاتٌ يعيدون تدوير الأمل، ويمنحون الميت ولادة جديدة، ويلقمون البأس لأطفالهم، ثم يبعثون الهمّة في أجيال أشهرت رايات اليأس…".

وإذ تتباهى بعض بلدان العالم بذهبها وعتادها، فإن فلسطين -حسب سمير ندا- هي "أغنى دولة في الأرض؛ بأرحام نسائها، فكل الثروات إلى نضوب، إلا رحم الأم الفلسطينية وصدرها العامر بالبأس والأمل، وثباتها أمام العروش والنعوش".

ويؤكد الكاتب المصري في ختام حديثه أن الاحتلال استهدف غسان كنفاني من أجل كلمات ومعانٍ كهذه، "فقصف أقلامه واعتقد أنه أسكته، لكن أسلحة العالم كلها، وحتى أعتى قنابلها، لن تقدر على إخضاع الأم الفلسطينيّة، تمامًا كما لم تقدر على إسكات غسان بعد مرور نصف قرن على التخلص من جسده.. فالكلمة لا تموت، والأمهات في فلسطين، لا يتوقفن عن ولادة الكلمات".

وصية أم سعد

أما الروائي والمترجم المغربي عبد المجيد سباطة فيقول إن نساء قطاع غزة نفذن وصية أم سعد بالحرف.

ويضيف سباطة الذي وصلت روايته للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "أياما قليلة بعد اندلاع الحرب الجديدة على قطاع غزة، برز إلى العلن مشروع "قديم – جديد" يستهدف ترحيل أبناء القطاع وإعادة توطينهم في سيناء المصرية، وربما القيام بالمثل فيما بعد مع أبناء الضفة الغربية وطردهم إلى الأردن، بما يمثل نكبة جديدة وإنهاء فعليا للقضية الفلسطينية التي يناضل شعبها منذ أزيد من 7 عقود".

وأردف -صاحب رواية "الملف 42" في حديثه للجزيرة نت- "لقد تحدث جيش الاحتلال أكثر من مرة عن رغبته في نزوح سكان شمال القطاع إلى جنوبه "الآمن"، في تجسيد متكرر للأكاذيب التي لطالما احترفها على طول سنوات وجود كيانه".

ويختم سباطة حديثه بالقول إن نساء القطاع يعملن بوصية أم سعد، سواء قرأن الرواية أو سمعن بها أم لا، فقد أعلنّ بصريح العبارة أن ما جرى عام 1948 لن يتكرر، ولن يغادرن أرضهن أبدا، وأنهن مستعدات لتقديم أبنائهن للشهادة، وبذل الغالي والنفيس في سبيل إجهاض هذا المخطط، ما دام الوطن "هو ألا يحدث هذا كله" على رأي كنفاني نفسه.

فهم غسان كنفاني شعبه جيدا، وسخر قلمه لاستنهاض همته وتشجيعه على مقاومة المحتل بكل الطرق، فأدركت إسرائيل خطره مبكرا وقتلته بانفجار سيارة مفخخة عام 1972.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الأم الفلسطینیة غسان کنفانی أم سعد

إقرأ أيضاً:

رواية جديدة لفرار الأسد.. هرب بمدرّعة روسية واصطحب معه 3 أشخاص

#سواليف

كشف تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية -نشرته اليوم الجمعة- اللحظات الأخيرة للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد قبل هروبه إلى موسكو التي منحته اللجوء الإنساني، وذلك استنادا إلى مقابلات مع 12 شخصا مطلعين على تحركات الأسرة وفرار الأسد.

وذكر التقرير أنه عشية سيطرة فصائل المعارضة على العاصمة دمشق، استقل بشار الأسد مركبة مدرعة عسكرية روسية مع ابنه الكبير حافظ تاركا أقارب وأصدقاء يبحثون “بشكل محموم عن الرجل الذي وعد بحمايتهم”، وفق وصف الصحيفة.

ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة قولها إنه في الساعة الـ11 من مساء السابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري (ليلة السقوط)، وجد رفاق بشار الأسد القدامى -أثناء مرورهم أمام منزله في حي المالكي- نقاط حراسة مهجورة ومباني فارغة، في حين كان الزي العسكري يتناثر في الشوارع.

مقالات ذات صلة عدد سكان عمّان ازداد أكثر من 100% في 25 عاما 2024/12/20

وأوضحت المصادر للصحيفة أنه بحلول منتصف الليل كان الأسد في طريقه بالفعل مع حافظ إلى قاعدة حميميم الروسية في محافظة اللاذقية الواقعة على البحر المتوسط.

كما أكدت المصادر أن الأسد لم يأمر الجيش بالاستسلام إلا بعد أن أصبح خارج دمشق، وأصدر أوامر بحرق المكاتب والوثائق.


انتظر للفجر

وقال مصدر مطلع للصحيفة إن روسيا جعلت الأسد وابنه ينتظران في قاعدة حميميم حتى الرابعة فجرا من الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري قبل أن تسمح لهما بالتوجه إلى موسكو.

كما انضمت ابنة الأسد -زين- إلى أبيها وأخيها في موسكو قادمة من الإمارات المتحدة حيث كانت تدرس في جامعة السوربون في أبو ظبي، وفق مصدر مقرب من العائلة.

وبذلك اجتمعت العائلة الهاربة مع أسماء الأسد التي كانت في موسكو لتلقي علاج السرطان مع والدتها ووالدها فواز الأخرس الذي فرضت عليه الخزانة الأميركية عقوبات.


الأولوية لثروته

ورافق الأسد في رحلة الهروب اثنين على الأقل من أتباعه الماليين الذين يحملون مفاتيح الأصول المهربة إلى الخارج، وهما يسار إبراهيم (رجل أعمال) ومنصور عزام (وزير شؤون رئاسة الجمهورية سابقا)، وفق ترجيحات مصادر مطلعة نقلت عنها فايننشال تايمز.

وقالت المصادر إن اختيار الأسد لرفاق رحلة هروبه يشير إلى أن “الأولوية كانت لثروته وليست لعائلته”، إذ هرب المقربون منه لاحقا كل بمفرده إما نحو لبنان أو العراق أو الإمارات أو البلدان الأوروبية لمن يحمل جوازات أجنبية، في حين اختبأ بعضهم في السفارة الروسية بدمشق، بعد اكتشافهم هروب الأسد الذي وعد لآخر لحظة بالانتصار.

ومن بين الذين تركهم الأسد وراءه، أخوه ماهر القائد السابق للفرقة الرابعة، الذي فر نحو العراق بعد اكتشاف فرار أخيه، بحسب مصادر مطلعة نقلت عنها الصحيفة.


“لم يقل كلمة واحدة”

وقالت المصادر إن الأسد لم يوجه كلمة واحدة للذين تعهد بحمايتهم، كما ترك العديد من أتباعه السابقين في حالة من الذهول والغضب الشديد، ولم يكلف نفسه عناء تحذير أقاربه بما في ذلك أبناء عمومته وإخوته وأبناء أخته وأخيه فضلا عن أسرة زوجته.

وقبل 4 أيام من مغادرته دمشق، أصبح الرئيس المخلوع يائسا بشكل متزايد، مما دفعه لإخبار روسيا بأنه مستعد للقاء المعارضة السياسية في جنيف لإجراء محادثات، لكن يبدو أن روسيا لم تهتم، وفق ما نقلته فايننشال تايمز عن مصادر.

ومن غير المرجح أن تسلم روسيا الرئيس السوري المخلوع ليخضع للمحاكمة بعد حكمه الدموي لسوريا، إذ من المتوقع أن يقضي حياته فارا في موسكو.

مقالات مشابهة

  • الأحد عشر رواية جديدة لـ أحمد القرملاوى عن ديوان للنشر
  • رشحتها جريدة "إندبندنت" لجائزة أفضل رواية!
  • أول صورة للمُجرم الذي دهس الدراج في بيروت.. شاهدوها
  • مأساة الكلمات الكبيرة: وحدة، حرية، اشتراكية!
  • اليوم العالمي للعبة الأمتع في العالم.. من مبتكر الكلمات المتقاطعة؟
  • المنظمات الأهلية الفلسطينية: نطالب بإرسال بعثات دولية إلى غزة لمتابعة حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها شعبنا
  • رواية جديدة لفرار الأسد.. هرب بمدرّعة روسية واصطحب معه 3 أشخاص
  • آيتان على سقف قصر السيسي ومُلْك فرعون الذي لا يفنى.. صورة الرئيس المصري تشعل مواقع التواصل
  • «كانت أسوأ سنة».. رانيا محمود ياسين تودع 2024 بهذه الكلمات (صورة)
  • جامعة الفيوم تفتح باب التقدم لمسابقة الأم المثالية