ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
قبل ستة وخمسين عاما، بعد انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967، دار نقاش طويل بشأن مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلتين حديثا في ذلك الوقت. وتعددت الآراء بين ضم إسرائيل للأراضي بشكل كامل، أو إعادة الضفة الغربية إلى الأردن، أو إقامة دولة فلسطينية.
والدي، عزيز شحادة، كان من أنصار الرأي الأخير، فكونه محاميا وناشطا في مجال حقوق اللاجئين، اقترح إقامة دولة فلسطينية تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل.
وفي خضم الهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزة، تحث الولايات المتحدة إسرائيل مرة أخرى على وضع خطة للمستقبل، إلا أن إسرائيل، كما كان الحال في عام 1967، تركز طموحاتها المندفعة الآن على الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الأراضي، والتخلص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين.
في عام 1967، كان السياسيون الإسرائيليون مُصَرِّينَ على الاحتفاظ بقطاع غزة المحتل، ففي وقت مبكر من 8 يونيو 1967، صرحت غولدا مائير، الأمينة العامة لحزب (ماباي) الحاكم آنذاك، في اجتماع للجنة السياسية للحزب بأنها تؤيد «التخلص من العرب». وقد نص قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي رقم 563، الصادر في 19 يونيو 1967، على أنه «بحسب الحدود الدولية، يقع قطاع غزة داخل أراضي دولة إسرائيل». ومع ذلك، ونظرا للعدد الكبير من السكان الفلسطينيين في غزة، فإن ضم الأراضي، كما حدث في القدس الشرقية، لم يكن خيارا قابلا للتطبيق.
ولم يكن الطرد الجماعي للفلسطينيين من غزة ممكنا أيضا بينما كان العالم يراقب. لذلك استخدمت استراتيجيات أخرى، كان أولها جعل الحياة لا تطاق، من خلال الحكم بقبضة من حديد وإبقاء مستوى المعيشة منخفضا للغاية. والثاني: تشجيع الهجرة وقد اعتمدت هذه الاستراتيجية، التي أشرف عليها شخصيا رئيس الوزراء ليفي إشكول، على الحوافز المالية. وبحلول منتصف عام 1968، كان عشرات الآلاف قد غادروا قطاع غزة، معظمهم إلى الأردن التي قررت لاحقا التوقف عن قبولهم، فكثفت إسرائيل محاولاتها لتعزيز هجرة الفلسطينيين إلى دول غير عربية مثل البرازيل ودول أخرى في أمريكا الجنوبية، وكذلك كندا وأستراليا، ولكن دون نجاح يذكر. وفي النهاية، لم تحقق أي من هذه الاستراتيجيات نتائج مهمة، مما دفع (إشكول) إلى الرثاء قائلا: «ما زلت لا أعرف كيف أتخلص منهم».
وبعد مرور أكثر من خمسة عقود، وحتى مع فرض حصار دام 16 عاما على القطاع، فمن الواضح أن أيا من هذه الاستراتيجيات لم ينجح، بل إنّ معظم السكان الفلسطينيين في غزة، الذين يتألفون بشكل رئيسي من لاجئي عام 1948 عند الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، بقوا هناك وازداد عددهم من 400 ألف إلى 2.2 مليون. والآن، ومع الحرب على غزة، يبدو أن إسرائيل تغتنم الفرصة لتنفيذ ما لم يكن ممكنا في كل السنوات السابقة.
في أعقاب عمليات القتل التي وقعت في السابع من أكتوبر، شنت إسرائيل ضربة موسعة ضد حماس، بدعوى تدمير قوتها العسكرية، مدعومة بدعم شعبي متعاطف. لكن كما أخبرني زميلي الناشط في مجال حقوق الإنسان (راجي الصوراني)، الذي يعيش في مدينة غزة، عبر الهاتف قبل أيام، فإن الحرب التي يعيشها ليست ضد حماس؛ فإسرائيل تقصف بالقنابل مواقع مكتظة بالسكان المدنيين.
تشير الأحداث إلى استراتيجية إسرائيلية تتمثل في إفراغ شمال غزة من سكانها الفلسطينيين. ففي ظل القصف الهائل الذي ألحق أضرارا بما لا يقل عن 222 ألف وحدة سكنية، ورفض قبول وقف إطلاق النار لمنع دخول الإمدادات الأساسية المنقذة للحياة، كل هذا يدل على الضغط الهائل الذي يتعرض له السكان الفلسطينيون للتحرك جنوبا، وبالتالي التطهير العرقي لسكان الشمال. وليس صحيحا أنّ هذه الاستراتيجية تهدف إلى إبقاء المدنيين بعيدا عن الأذى، كما أعلنت إسرائيل، أو أنّ إسرائيل ستتراجع عنها بعد انتهاء الحرب، فعندما يتوقف القتال، لن يكون هناك سوى عدد قليل من المباني في الشمال التي لا تزال قائمة ليعود إليها الناس لاستعادة منازلهم وسبل عيشهم.
اليوم، بعد ما يقرب من ستة عقود من الجهود الفاشلة التي بذلها والدي لإقناع الحكومة الإسرائيلية بصنع السلام مع الفلسطينيين على أساس تقاسم الأرض، أشعر بالعواقب المروعة لهذا الفشل. إن مقتل 11 ألف شخص على يد القوات الإسرائيلية، والهجمات التي تجري في الضفة الغربية من قبل كل من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين اليهود والتي أدت إلى مقتل 200 فلسطيني، وفشل العالم في ردع تجاوزات إسرائيل، كل هذا بث خوفا عميقا في نفسي.
إنّ صرخات ذاك الرجل الذي يحمل الجنسية الأيرلندية الفلسطينية المزدوجة، ويعيش في مخيم الشاطئ في غزة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط لا تزال ترن في أذني، إذ قال لمراسل الجزيرة: إن مخيمه يتعرض للقصف من جميع الجهات من قبل إسرائيل، وتساءل عما إذا كان سينجو، فقد كان في الظلام ولم يكن هناك سوى شعلة تضيء وجهه، وتساءل عن مقدار المعاناة التي يجب أن يتحملها قبل أن يوقف العالم هذه الحرب، ثم سأل المشاهدين بشكل مؤثر: «هل تستمتعون بهذا؟» ولا أدري إن كان قد نجا من القصف الإسرائيلي. وكان هناك رجل آخر يقول: «إنهم يقصفون المخيم بشكل مستمر، ونحن نخرج من منزلنا، وسننتقل إلى مستشفى الشفاء». ثم خاطب المراسل متوسلا: «افعلوا شيئا، قوموا بعمل ما». لقد فكرت فيه بينما كان المستشفى محاصرا من قبل الجيش الإسرائيلي.
لقد تحطم الآن كل ما كان يمنحني الأمل في أنه عندما يصل العنف إلى نقطة غير معقولة وتُرتكب انتهاكات مفرطة لحقوق الإنسان، فإن إسرائيل ستتوقف. لقد كنت أؤمن بأننا سنحظى بالحماية بموجب القانون الإنساني الدولي، أو بصرخة احتجاج من الجمهور الإسرائيلي ضد تجاوزات حكومتهم ، ولكن في هذه المرحلة لا أرى أي أمل في أي منهما. ولا يبدو أن هناك أملا في أن تستيقظ إسرائيل من وهم مفاده أن الحرب والعنف ضد الفلسطينيين، وقوتها العسكرية المنيعة، من شأنها أن يمنحها السلام والأمن. إن هذا الحال يتركنا، نحن الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضعفاء ونواجه خطرا جسيما على حياتنا ووجودنا المستقبلي في هذه الأرض.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل ذلك، أجد نفسي أردد كلمات صديقي (راجي الصوراني)، الصديق الذي مررنا معا بالكثير من المآسي على مدى العقود الماضية، والذي كتب الأسبوع الماضي في مجلة جاكوبين: «نحن نستحق العدالة ونستحق الحرية، ونعتقد أننا على الجانب الصحيح من التاريخ وأننا حجارة الوادي، وعلى الرغم من ضخامة التحديات التي نواجهها، فإن الناس هنا لا يستسلمون.
رجا شحادة محام وكاتب فلسطيني، ومؤسس منظمة (الحق) لحقوق الإنسان.
عن ذي جارديان البريطانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الفلسطینیین فی ما کان لم یکن
إقرأ أيضاً:
تمديد حالة الطوارئ في إسرائيل.. لماذا وافق الكنيست الإسرائيلي عليه؟
صدق الكنيست الإسرائيلي اليوم، على توصية بتمديد حالة الطوارئ في إسرائيل لمدة عام إضافي، وفق ما أفادت به «القاهرة الإخبارية» نقلا عن صحيفة معاريف الإسرائيلية، والتي ذكرت أنّ التمديد يسري حتى 15 ديسمبر 2025، على خلفية الأحداث التي وقعت في 7 أكتوبر 2023.
تفاصيل قرار الكنيست الإسرائيليوبحسب الصحيفة الإسرائيلية، فإنّ 29 عضوًا في الكنيست الإسرئيلي أيدوا الاقتراح، مقابل 7 عارضوه وامتنع 2 عن التصويت، وأوضحت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أنّه يحق للحكومة الإسرائيلية في حالة الطوارئ وضع أنظمة طوارئ وتجاوز تشريعات الكنيست، وتكون صالحة فقط في وقت إعلان حالة الطوارئ.
وأعلنت إسرائيل حالة الطوارئ المدنية يوم 7 أكتوبر 2023، في ضوء العملية العسكرية التي شنتها الفصائل الفلسطينية في إسرائيل، كما صدّقت الهيئة العامة للكنيست على قانون زيادة العجز في القراءة الثانية والثالثة، بسبب إنفاق الدولة على الأمن خلال الحرب. وأيد 62 عضوا في الكنيست الاقتراح مقابل 52 عارضوه، بحسب الصحيفة.
وبموجب القانون، لن يتجاوز معدل العجز الإجمالي لعام 2024 نسبة 7.7% من الناتج القومي الإجمالي، وسيزيد الإنفاق الحكومي المسموح به بنسبة 17.8% مقارنة بالعام الماضي.