الأسرة نافذة السياسات العامة
تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT
تستخلص هذه المقالة بعض أفكارها من الورقة البحثية التي ناقشتها الأسبوع الفائت في المؤتمر الدولي السنوي الثامن متعدد التخصصات لمركز دراسات الخليج في جامعة قطر، والذي عقد بالتعاون مع معهد الدوحة الدولي للأسرة تحت عنوان: الأسرة في منطقة الخليج: الاستمرارية والتغيير. حملت الورقة التي قدمتها عنوان: «الأسرة والسياسات العامة المستجدة في سلطنة عُمان: أي تغير في التركيب؟»، وناقشت جملة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي انتهجتها الدولة في عُمان منذ عام 2020 حتى 2023 وما التأثيرات المحتملة لها على تركيب الأسرة.
في الواقع هناك سؤال محوري: لماذا نفكر في الأسرة في اللحظة الراهنة من تركيب المجتمع في عُمان؟ وأزعم أن هنالك أربعة دوافع تُلح بضرورة توسيع النقاش حول وضع وتركيب الأسرة في عُمان اليوم: أولها حداثة السياسات العامة وجدتها، وضرورة توقع وقياس تأثيرها المباشر وغير المباشر على (البنى - الاتجاهات - التركيب - التفضيلات - التماسك) الأسري، قد يبدو لبعض الراصدين علامتين أساسيتين؛ أولهما صعوبة القياس في اللحظة الراهنة لحداثة السياسات، وثانيهما الحاجة إلى نهج يستطيع التفريق بين قياس تأثير السياسات على الأفراد، وعلى الأسرة. وفي كلتا الحالتين نعتقد أن اللحظة الراهنة تتطلب تكثيف الدراسة عن موضوع الأسرة من خلال أربع خطوات أساسية: الأول فهم تغيرات التركيب الاجتماعي والاقتصادي الذي مرت به الأسرة -خلال عقد على الأقل- والثانية: استطلاع رأي الأفراد وأرباب الأسر حول رؤيتهم إزاء السياسات العامة المستجدة وإمكانية تأثيرها على التركيب الأسري، أما المرحلة الثالثة: فهي التعمق في دراسة الممارسات المباشرة التي انتهجتها الأسرة للتكيف أو للاستثمار في السياسات العامة المستجدة، وصولا للمرحلة الرابعة التي تعنى بالقياس الفعلي للتأثير، والذي قد يكون على موجات زمنية دورية متعاقبة.
ولنقرّب الصورة بمثال عملي، فسياسات العمل الجديدة، وسياسات دعم العمل الحر، وتحفيز إنشاء المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي أقرت خلال الثلاث سنوات الماضية، يفترض بها أن تدفع عددا أوسع من أفراد الأسرة للالتحاق بالفرص الوظيفية المتاحة في القطاع الخاص (متى ما توفرت تلك الفرص وقُرنت بما يناسب مؤهلاتهم)، وأن تدعم الأسر أفرادها وخصوصا في مراحل التخرج وتهيئ لهم البيئة المناسبة للانخراط في تأسيس مشروعاتهم الصغيرة والمتوسطة، كما تدعم من لديهم مهارات ومواهب للاستثمار في تهيئة بيئة أعمال العمل الحر وتنشيطها، وتؤكد على استقرار الفرد وتقليل اتجاهات تفكيره في الدوران الوظيفي في القطاع الخاص، وتمنح الأسرة فرصا أفضل للاعتناء ورعاية مرحلة الطفولة المبكرة، وتحسن اتجاهات ومفاهيم الصحة الإنجابية لدى الأسر، وتدفع بجزء من التشاركية بين الآباء والأمهات في تقاسم الأدوار، والانسجام مع الموازنة بين الحياة الأسرية والحياة المهنية.
هذه (بعض) الآثار المحتملة، وكل أثر يمكن قرنه بمادة من القوانين واللوائح أو سياسة تم إقرارها. فهل سيحدث هذا فعلا في ظل توقعات الأسر؟ وهل سيتحقق حتما بعد مدة من أقرار هذه السياسات ونفادها؟ يمكن قياس نموذج هذه السياسات على أشكال أخرى من السياسات، وقد نجد من بينها: سياسات اللامركزية، التي يفترض أن تدفع في جانب من جوانبها للحد من الهجرات الأسرية إلى المركز، وتستطيع تحقيق توطين الخبرات والإنفاق والكتلة السكانية والاقتصادية داخل سياق المحافظة الجغرافي، وبالتالي تمكين الأسرة من المحافظة على امتدادها داخل حيزها الثقافي والجغرافي وتحقيق الانسجام والتربية الجيدة للأبناء. ونماذج أخرى يمكن قياسها مثل: سياسات الزواج من الخارج، والسياسات الضريبية ومدى تأثيرها على السلة الاستهلاكية للأسر، وكذلك سياسات التدرج في رفع الدعم وعلاقتها بالقدرة الاقتصادية للأسرة، عوضا عن الموضوع الموسع في سياسات الحماية الاجتماعية.
أما الدافع الثاني الذي يُلح للتفكير في الأسرة في الوقت الراهن فهي جدلية (هل نوسع الكتلة السكانية لنخلق قدرة اقتصادية استهلاكية) أم (نظل على مقاربة الاستثمار في تحسين رأس المال البشري). في الواقع -كمحللين للسياسات العامة- فإن ما نقرأه من مجمل سياسات التنمية الاجتماعية والاقتصادية خلال خمسة عقود ماضية في سلطنة عُمان هو ترجيح واضح لسياسات الاستثمار في تحسين رأس المال البشري، ولكن هل هناك اتجاه آخر يمكن اليوم تبينه؟ نعتقد أن وجود سياسة أسرية -كما ألمحنا إلى ضرورة ذلك في مقالات عديدة سابقة- هو الكفيل بالإجابة على هذا التساؤل وحسمه، وهذا التساؤل في ذاته سيصوغ ويوجه مسار واتساق العديد من السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يمكن تبينها في السنوات والعقود القادمة.
لا يمكن أن نغفل الدافع الثالث الذي يمثل في «الانتقال الأسري»، وهو غالبا ما يُمثل بمعدلات الخصوبة، والتي هي أيضا سؤال يصعب التنبؤ به على مستوى الأسرة في عُمان، حيث تشير بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى انخفاض خصوبة العُمانيات خلال الفترة بين 1993 و 2003 بشكل كبير من حوالي 6.2 مولود في تعداد 1993 ثم إلى 3.4 مولود في تعداد 2003 ثم ارتفعت إلى 3.7 في 2010. فيما تشير بيانات عام 2022 إلى أن معدلات الخصوبة وصلت إلى حدود 3.2 وبعيدا عن مقارنة المعدل في سياقه الخليجي، السؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل تأتي حالات الارتفاع والانخفاض هنا كنتيجة مباشرة للسياسات المقرة، سواء تلك السياسات التي تعنى بشكل مباشر بالمباعدة بين الولادات وتنظيم الأسرة، أو الأوضاع الاقتصادية والمفاهيم والقيم الموجهة للأجيال، أو الأفكار المتبناة عبر الثقافة الفرعية، أم أن كل هذه الارتفاعات والانخفاضات هي تطور طبيعي للمجتمع؟ نعتقد أن هذه المسائل في ذاتها تدفع للتفكير كذلك في صلب السياسة الأسرية.
أما الدافع الرابع والأخير، فهو الدافع القيمي والتربوي -والذي أكدت عليه القيادة السياسية في أكثر من موضع وخطاب- ونعتقد أن فهم الوضع القيمي للأسرة يرتبط أيضا بتوسيع نطاق البحث حول المصادر القيمية المهيمنة والغالبة على تكوين منظومة القيم داخل الأسرة وحولها، وتحديد ماهية القيم المطلوبة والمؤكدة والتوافق عليها، وإعادة التفكير في الآليات التي تقدم بها القيم. قد يكون الوقت الراهن يتطلب ربط تلك القيم برموز معاينة، أو بشخصيات ملهمة ومؤثرة، وقد يتطلب إعادة التفكير في الآليات التي تقدم بها في مؤسسات العلم والمعرفة، أو وسائط الإعلام. كل ذلك نعتقد بأنه مرتهن بإعادة دراستها والتوافق عليها. وفي المجمل العام فإننا نعتقد أنه بات من الضرورة إفراد مساحات مؤسسية لدراسة الأسرة، وقد يرقى الأمر لإيجاد مركز وطني متخصص يعنى بذلك. ويمكن من الربط المباشر بصناعة السياسات العامة، كما يكون دوره في توليد بيانات وأفكار واقتراح سياسات مباشرة لمواجهة التحديات التي تواجه الأسرة، أو تعزيز الاستثمار في تكوينها واستمرارها وتضامنها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السیاسات العامة الأسرة فی نعتقد أن فی ع مان
إقرأ أيضاً:
شباب الإمارات بـCOP29.. نماذج مؤثرة في صياغة السياسات المناخية العالمية
يقود شباب الإمارات مناقشات ومفاوضات الدولة في مؤتمر الأطراف COP29، بما يمتلكونه من طاقات وأفكار مبتكرة ودور فعّال ومؤثر في صياغة السياسات المناخية العالمية، بهدف إحداث تغيير حقيقي لمستقبل مستدام والبناء على نتائج "اتفاق الإمارات" التاريخي الصادر عن COP28.
ويقدم شباب الإمارات في COP29 نماذج مُلهمة من المفاوضين والمشرفين على الجناح الوطني للدولة في مؤتمر الأطراف للتعريف بإرث الإمارات، وجهودها الفاعلة على مستوى العالم في العمل المناخي للحفاظ على كوكب الأرض ليحظى النموذج الإماراتي، لتمكين الشباب بتقدير واحترام المشاركين في مؤتمر الأطراف COP29. دور فاعل وتجسد مشاركة شباب الإمارات في COP29 حرص القيادة الرشيدة على تمكينهم وتفعيل دورهم في تحقيق التقدم المناخي الدولي؛ انطلاقاً من إيمانها بأهمية بناء قدرات الشباب وإشراكهم في دفع مسارات التنمية المستدامة، وتوفير الفرصة لهم للمشاركة في الفعاليات الدولية متعددة الأطراف وطرح أفكارهم الخلاقة وإثراء العمل المناخي الدولي من خلال صياغة الحلول المبتكرة والمستدامة بأيدي شباب الإمارات.وأشاد فريد غايبوف وزير الشباب والرياضة الأذربيجاني، بالنموذج الإماراتي في تمكين الشباب وإشراكهم في مناقشات ومفاوضات مؤتمر الأطراف COP29 للعب دور مؤثر في دفع جهود العمل المناخي من خلال حضورهم المشرف الذي حظي باهتمام الزوار والمشاركين في مؤتمر الأطراف.
وقال في تصريحات لوكالة أنباء الإمارات "وام"، إن بلاده ستواصل العمل مع دولة الإمارات من أجل إطلاق المبادرات المشتركة لدعم شباب البلدين وتعزيز حضورهم في مختلف مجالات العمل المناخي.
وأشار إلى دور الإمارات في تقديم الدعم لبلاده في استضافة فعاليات مؤتمر الأطراف COP29، إضافة إلى تعزيز دور الشباب وإتاحة الفرصة لهم لحضور مثل هذه المؤتمرات الدولية متعددة الأطراف، وأن يكونوا جزءاً من النقاشات، وقال إن هذا ما شاهدناه في مؤتمر الأطراف COP28 الذي عقد في دبي وأرسى أسساً مهمة لإيصال صوت الشباب والاستماع إلى أفكارهم وآرائهم وطموحاتهم في كل ما يخص العمل المناخي. أفكار ومبادرات من جانبهم، أعرب عدد من شباب الإمارات في تصريحات لـ "وام"، على هامش مشاركتهم في فعاليات COP29، عن فخرهم بالمشاركة في هذا الحدث الدولي المهم من خلال طرح الأفكار والمبادرات والمشاركة في النقاشات والمفاوضات بمؤتمر الأطراف.
وقالت إيمان أستادي نائب رئيس فريق الإمارات التفاوضي، إن مشاركتها وفريق الإمارات التفاوضي في مؤتمر الأطراف COP29 بأذربيجان تأتي استكمالاً لمسيرة الإمارات في العمل المناخي والاهتمام بتمكين الشباب، وإعطائهم الفرصة للمشاركة في المؤتمرات متعددة الأطراف، وبلغت نسبة الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً ضمن فريق مفاوضي الإمارات في COP28، نحو 70%.
وأضافت أن الشمولية والاحتواء شكلًا النهج والمبدأ في COP28 وبفضل توجيهات القيادة نجحت الإمارات في جمع جميع الأطراف من القطاعين العام والخاص والشباب والمجتمع المدني وقادة الأديان والشعوب الأصلية، وكانوا جزءاً من "اتفاق الإمارات" التاريخي؛ الذي احتوى على نتائج متوازنة وشاملة لمختلف المجالات التفاوضية، ووصل إلى نتائج غير مسبوقة مثل تحقيق انتقال عادل ومنظم ومنطقي في مجال الطاقة.