لجريدة عمان:
2024-09-01@13:13:57 GMT

سؤال الوجود والمعنى: قراءة في ماهية العقل

تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT

جال بعقل الأديب الروسي الكبير «دوستويفسكي» سؤال ملّح قُبيل أنْ يُنفَّذَ عليه حكمُ الإعدام بعد أن قَدَّر الوقت المتبقي له في هذه الحياة -قبل إعدامه- بحدود خمس دقائق، وكان الخاطرُ الذي أيْقَظَ هاجسه: ماذا عليَّ أن أفعل في هذه الخمس دقائق المتبقية من حياتي قبل الولوج إلى عالم «الماورائيات»، الذي طالما غاصت عقول الفلاسفة في بحره العميق والمجهول؛ لبلوغ معناه وماهيته؟ فاهتدى «دوستويفسكي» إلى أن يجعل أول دقيقتين لتوديع أصحابه الذين سيعدمون معه، ودقيقة للتأمل في الوجود والنظر في فضائه المفتوح، وآخر دقيقتين لطرح أهم سؤال في الحياة: ما معنى الوجود؟ والإجابة عنه ، رغم أن «دوستويفسكي» نجا من تنفيذ حكم الإعدام في اللحظات الأخيرة، ومع ذلك صنعت تجربة الإعدام الوشيكة لدوستويفسكي عقدة نفسية انعكست إيجابًا في إبداع أدبي فريد من نوعه، ومنحت هذه الدقائق الخمس -حتى لو أخذنا بمجازيتها- مفهوما للإنسان والوجود والحياة والموت والمجهول.

طرح النمساوي «فكتور فرانكل» في كتابه المُلهِم «الإنسان والبحث عن المعنى» سؤالا مماثلا عن الوجود ومعناه إبّان فترة وجوده في المعتقلات النازية، وخَلُصَ إلى نتيجة مفادها أن الوجود يتبنّى المعنى، وأن الإنسان لا وجود له دون تحقق المعنى؛ فيكون السؤال عن الوجود والمعنى ملازما للعقل وبحثه.

بدأت الفلسفة -عبر تاريخها القديم والحديث- بأسئلة الوجود والبحث عن مفاهيم لعناصر الوجود وكلياتها، واتخذت العقلَ وسيلة لتفكيك هذا السؤال إلى أسئلة جزئية وسرد إجابات تُغلّف بغلاف المنطق والرياضيات والعلم، وفي حالات بغلاف الحَدَس -مع اختلاف مفاهيم الحدس عند الفلاسفة مثل الغزالي وديكارت-، ولا يمكن أن نختزل الفلسفة وسؤالها العميق في فلسفة ما؛ فجميع الفلسفات -وإن تعددت مآربها ومآلاتها- تسير إلى غاية معرفة الوجود والمعنى النابعة من تجليات العقل وضروراته المُلّحّة؛ فندرك «سقراط» فيلسوفا لا يبرز فلسفته إلا بغطاء المُحب للحكمة عبر حواراته مع السفسطائيين، وعبر شذرات أفكاره التي ينثرها للعامة والبسطاء؛ بغية استفزاز عقولهم للبحث في الوجود ومعناه، و«أفلاطون» بمثاليته الفلسفية البارزة عبر نظريته في المُثل معتقدا بوجودٍ صميمٍ آخر لا نرى إلا ظلاله التي لا تُظهر ماهية الوجود، ولا سبيل للعقل إلى بلوغه إلا بواسطة اليقين الفلسفي -وهذا ما أراه أنه ألهم «كانط»؛ فينعكس في فلسفته الشارحة لمقتضيات العقل المحض وبواعثه الوجودية-، وأتى «أرسطو» بمنطقه ومقولاته العشر التي لم تتزعزع كما تزعزعت بضربات «كانط» الفلسفية عبر مقولاته الاثنتي عشرة، وضربات «كوبرنيكس» التي أفقدت الأرض مركزيتها الراسخة منذ قرون طويلة.

جاءت الفلسفة العقلانية -في بعض فروعها وحالاتها- لتجعل من العقل «إلها» تَحْتَكِمُ إليه كل أسئلة الوجود وقضاياه المعقّدة، إلا أن «كانط» أحيا بفلسفته قواعد «أفلاطون» في المُثل، وأقام للعقل جدارا -لا سبيل لتجاوزه- يفصل بواسطته العقل عن الوجود الميتافيزيقي؛ فيركن العقل في وجوده الطبيعي «المحسوس»، وحينها لا سبيل للعقل إلى بلوغ منتهى الوجود ومعناه، إلا في حدود ظواهر الوجود عبر النشأة العقلانية والفعل التجريبي؛ إذ لا تنشئ المعرفة -حسب كانط- إلا بوجود العقل ومقولاته القبلِية -الاثنتي عشرة- وبالبدء بالتجربة التي تُؤسس بعدها إلى صناعة المعرفة وتحققها، وأما مقتضيات الإيمان فهي ضرورة مستقلة وجودها لا يُثبت بالعقل ولا بالتجربة، وهذا أشبه بمبدأ «الضمان الإلهي» الذي أعان «ديكارت» في تجربته الفلسفية في الشك المنهجي الذي آله إلى منتهى يقيني -كما لخصها في كتابه «مقال عن المنهج»-، وهذا ما يُحسب لتجربة أبي حامد الغزالي في تجربته السابقة لديكارت في الشك المنهجي؛ حيث إن الحدس والإلهام -دون حتمية العقل والتجربة- سبيلان -ممكنان- إلى محطة اليقين «الإيمان»، وهنا يكتمل مسار «كانط» بعدهما في نقده للعقل المحض، ويُبرهن بوجود ماهية للوجود لا تخضع لسلطة العقل وحتميته المطلقة؛ ليقدّم أهمّ عمل فلسفي استطاع الوقوف بوجه فلسفات مادية تَعشعشَتْ في داخلها منطلقات الإلحاد، ومع ذلك استدرجت فلسفة كانط العقل إلى شكيّة حديثة -تطورت مع الكانطية الحديثة- نعرفها بـ«اللاأدرية» غاب عنها مبدأ «الضمان الإلهي» -رغم تمسك «كانط» به بطريقة أو بأخرى-، وهذا ما أخضع المعرفة إلى سلطة جديدة لم تعدّ تحت مظلة العقل -كما أراد كانط- بل أعاد المعرفة إلى الوجود وطبيعته المادية؛ فتتشكّل سلطة العلم التي أبعدت العقل عن كل مقولاته القبلِيّة -سواء الأرسطية أو الكانطية-؛ فيكون العقل كأنه صفحة بيضاء -كما يقول الفيلسوف التجريبي الإنجليزي «جون لوك»- يكتب الوجود عليها وتجاربه منطلقات المعرفة وتفاصيلها، وتبدأ مرحلة التنوير الحديثة أو مرحلة ما بعد العقل؛ إذ يجد العقل -نفسه- مُبعدا عن سلطته الطاغية -السابقة-، ويعيش تحت كنف العلم وتجاربه، ولم تتحقق مآلات الفلسفة في فهم ماهية العقل ومغزاه؛ فتارة نرى العقل -حسب المنهج العلمي الحديث- مجرد أداة بيولوجية -تُفسر بآلية عمل الدماغ وتعقيده البيولوجي والتطوري- مهمتها التفاعل مع الوجود وصناعة المعرفة، وتارة نراه -حسب بعض المناهج الفلسفية- بمثابة وعيّ كلّيّ يعكس الوعيَّ الكوني الكلّي «الجمعي» بجميع وجوده وتجاربه؛ لينعكس في التجربة الفردية الساعية إلى نبش دفاتر المعرفة والبحث عن إجابات لأسئلة وجودية عميقة، وهذا مبحث يحاول العلم أن يتحد فيه مع الفلسفة عبر منطلقات علمية حديثة مثل نظرية الكوانتم -بحاجة إلى تفصيل مستقل في مقالات قادمة بإذن الله-، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا باحثا عن جواب: ما الوجود وما معناه؟ لتبقى الفلسفة صامدة أمام أسئلة العقل والوجود؛ لتقدّم كلّيات معرفية جوهرية بعد أن انحصر دور العلم في تناول جزئيات المعرفة دون التدخل في كلّيات الوجود ومعناه.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

خاص| مصطفى أبو سريع يرد على سؤال "هل انت مظلوم فنيا؟"

رد الفنان مصطفى أبو سريع على سؤال "هل تشعر أنك مظلوم فنيًا؟"، قائلًا: " ليست المسألة أنني مظلوم فنيًا، بل أنني أبحث عن مشروع فني متكامل يليق بقدراتي وبحب الجمهور لي، مضيفًا: "أريد دورًا حقيقيًا، ليس مجرد بطولة شكلية".

 

وأضاف في تصريحات خاصة لـ "الفجر الفني": "كثيرًا من العروض التي تُعرض عليّ تفتقر للسيناريو القوي والدعم الإنتاجي اللازم ولا تحترم الجمهور، وتجعلني مجرد بطل شكلي، وأنا أقدر حب واحترام الجمهور لي ولا أرغب في تقديم ذلك، وأطمح للعمل مع مخرج وشركة إنتاج كبيرين.

 

أبطال مسلسل عمر أفندي 

 

الجدير بالذكر أنه يعرض للفنان مصطفي أبو سريع حاليًا مسلسل عمر أفندي، بطولة الفنان أحمد حاتم، رانيا يوسف، آية سماحة، محمد رضوان، محمود حافظ، مصطفى أبو سريع، ميران عبد الوارث، وغيرهم، والعمل من إخراج عبد الرحمن أبو غزالة، وتأليف مصطفى حمدي.

تفاصيل مسلسل عمر أفندي 

 

ويتكون مسلسل "عمر أفندي" من 15 حلقة، وتدور أحداثه حول حول رجل ثلاثيني أحمد حاتم، يعثر على سرداب سري يعود به إلى العام 1943 ويكشف له ماض يجهله، ويقع في حب آية سماحة ويعيشان قصة حب رومانسية في الأربعينات، رغم أنه متزوج ولديه بنت في الحاضر.

 

 مواعيد عرض مسلسل عمر أفندي 

 

 ويعرض عمر أفندي على منصة شاهد في تمام الساعة 4 عصرًا، ويعرض على قناة on الساعة 7 ونص كل يوم من الأحد إلى الخميس ويعرض الساعة 10 على on drama  ويعاد الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي، ثم يعاد مرة أخرى في الرابعة عصرًا.

مقالات مشابهة

  • قلق إثيوبي من الوجود المصري في الصومال
  • عامٌ دراسي جديد: توقعات جديدة
  • شاهد| جنود الاحتلال يسرقون سجادا من أمام أحد محال جنين
  • مصيبة العقل (بو جمعة) انموذجاً!!
  • من سيرث السودان و”أن”؟ سؤال المليون… شهيد!
  • أمريكا وإسرائيل.. حدود العقل الاستراتيجي.. قراءة في مآلات طوفان الأقصى
  • وللفلسفة دورٌ وريادة
  • أن تكون إنسانا .. أن تكون متعلما
  • خاص| مصطفى أبو سريع يرد على سؤال "هل انت مظلوم فنيا؟"
  • شيخ العقل: لخطوات سياسية اقتصادية ومالية تدعم صمود اللبنانيين