سؤال الوجود والمعنى: قراءة في ماهية العقل
تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT
جال بعقل الأديب الروسي الكبير «دوستويفسكي» سؤال ملّح قُبيل أنْ يُنفَّذَ عليه حكمُ الإعدام بعد أن قَدَّر الوقت المتبقي له في هذه الحياة -قبل إعدامه- بحدود خمس دقائق، وكان الخاطرُ الذي أيْقَظَ هاجسه: ماذا عليَّ أن أفعل في هذه الخمس دقائق المتبقية من حياتي قبل الولوج إلى عالم «الماورائيات»، الذي طالما غاصت عقول الفلاسفة في بحره العميق والمجهول؛ لبلوغ معناه وماهيته؟ فاهتدى «دوستويفسكي» إلى أن يجعل أول دقيقتين لتوديع أصحابه الذين سيعدمون معه، ودقيقة للتأمل في الوجود والنظر في فضائه المفتوح، وآخر دقيقتين لطرح أهم سؤال في الحياة: ما معنى الوجود؟ والإجابة عنه ، رغم أن «دوستويفسكي» نجا من تنفيذ حكم الإعدام في اللحظات الأخيرة، ومع ذلك صنعت تجربة الإعدام الوشيكة لدوستويفسكي عقدة نفسية انعكست إيجابًا في إبداع أدبي فريد من نوعه، ومنحت هذه الدقائق الخمس -حتى لو أخذنا بمجازيتها- مفهوما للإنسان والوجود والحياة والموت والمجهول.
بدأت الفلسفة -عبر تاريخها القديم والحديث- بأسئلة الوجود والبحث عن مفاهيم لعناصر الوجود وكلياتها، واتخذت العقلَ وسيلة لتفكيك هذا السؤال إلى أسئلة جزئية وسرد إجابات تُغلّف بغلاف المنطق والرياضيات والعلم، وفي حالات بغلاف الحَدَس -مع اختلاف مفاهيم الحدس عند الفلاسفة مثل الغزالي وديكارت-، ولا يمكن أن نختزل الفلسفة وسؤالها العميق في فلسفة ما؛ فجميع الفلسفات -وإن تعددت مآربها ومآلاتها- تسير إلى غاية معرفة الوجود والمعنى النابعة من تجليات العقل وضروراته المُلّحّة؛ فندرك «سقراط» فيلسوفا لا يبرز فلسفته إلا بغطاء المُحب للحكمة عبر حواراته مع السفسطائيين، وعبر شذرات أفكاره التي ينثرها للعامة والبسطاء؛ بغية استفزاز عقولهم للبحث في الوجود ومعناه، و«أفلاطون» بمثاليته الفلسفية البارزة عبر نظريته في المُثل معتقدا بوجودٍ صميمٍ آخر لا نرى إلا ظلاله التي لا تُظهر ماهية الوجود، ولا سبيل للعقل إلى بلوغه إلا بواسطة اليقين الفلسفي -وهذا ما أراه أنه ألهم «كانط»؛ فينعكس في فلسفته الشارحة لمقتضيات العقل المحض وبواعثه الوجودية-، وأتى «أرسطو» بمنطقه ومقولاته العشر التي لم تتزعزع كما تزعزعت بضربات «كانط» الفلسفية عبر مقولاته الاثنتي عشرة، وضربات «كوبرنيكس» التي أفقدت الأرض مركزيتها الراسخة منذ قرون طويلة.
جاءت الفلسفة العقلانية -في بعض فروعها وحالاتها- لتجعل من العقل «إلها» تَحْتَكِمُ إليه كل أسئلة الوجود وقضاياه المعقّدة، إلا أن «كانط» أحيا بفلسفته قواعد «أفلاطون» في المُثل، وأقام للعقل جدارا -لا سبيل لتجاوزه- يفصل بواسطته العقل عن الوجود الميتافيزيقي؛ فيركن العقل في وجوده الطبيعي «المحسوس»، وحينها لا سبيل للعقل إلى بلوغ منتهى الوجود ومعناه، إلا في حدود ظواهر الوجود عبر النشأة العقلانية والفعل التجريبي؛ إذ لا تنشئ المعرفة -حسب كانط- إلا بوجود العقل ومقولاته القبلِية -الاثنتي عشرة- وبالبدء بالتجربة التي تُؤسس بعدها إلى صناعة المعرفة وتحققها، وأما مقتضيات الإيمان فهي ضرورة مستقلة وجودها لا يُثبت بالعقل ولا بالتجربة، وهذا أشبه بمبدأ «الضمان الإلهي» الذي أعان «ديكارت» في تجربته الفلسفية في الشك المنهجي الذي آله إلى منتهى يقيني -كما لخصها في كتابه «مقال عن المنهج»-، وهذا ما يُحسب لتجربة أبي حامد الغزالي في تجربته السابقة لديكارت في الشك المنهجي؛ حيث إن الحدس والإلهام -دون حتمية العقل والتجربة- سبيلان -ممكنان- إلى محطة اليقين «الإيمان»، وهنا يكتمل مسار «كانط» بعدهما في نقده للعقل المحض، ويُبرهن بوجود ماهية للوجود لا تخضع لسلطة العقل وحتميته المطلقة؛ ليقدّم أهمّ عمل فلسفي استطاع الوقوف بوجه فلسفات مادية تَعشعشَتْ في داخلها منطلقات الإلحاد، ومع ذلك استدرجت فلسفة كانط العقل إلى شكيّة حديثة -تطورت مع الكانطية الحديثة- نعرفها بـ«اللاأدرية» غاب عنها مبدأ «الضمان الإلهي» -رغم تمسك «كانط» به بطريقة أو بأخرى-، وهذا ما أخضع المعرفة إلى سلطة جديدة لم تعدّ تحت مظلة العقل -كما أراد كانط- بل أعاد المعرفة إلى الوجود وطبيعته المادية؛ فتتشكّل سلطة العلم التي أبعدت العقل عن كل مقولاته القبلِيّة -سواء الأرسطية أو الكانطية-؛ فيكون العقل كأنه صفحة بيضاء -كما يقول الفيلسوف التجريبي الإنجليزي «جون لوك»- يكتب الوجود عليها وتجاربه منطلقات المعرفة وتفاصيلها، وتبدأ مرحلة التنوير الحديثة أو مرحلة ما بعد العقل؛ إذ يجد العقل -نفسه- مُبعدا عن سلطته الطاغية -السابقة-، ويعيش تحت كنف العلم وتجاربه، ولم تتحقق مآلات الفلسفة في فهم ماهية العقل ومغزاه؛ فتارة نرى العقل -حسب المنهج العلمي الحديث- مجرد أداة بيولوجية -تُفسر بآلية عمل الدماغ وتعقيده البيولوجي والتطوري- مهمتها التفاعل مع الوجود وصناعة المعرفة، وتارة نراه -حسب بعض المناهج الفلسفية- بمثابة وعيّ كلّيّ يعكس الوعيَّ الكوني الكلّي «الجمعي» بجميع وجوده وتجاربه؛ لينعكس في التجربة الفردية الساعية إلى نبش دفاتر المعرفة والبحث عن إجابات لأسئلة وجودية عميقة، وهذا مبحث يحاول العلم أن يتحد فيه مع الفلسفة عبر منطلقات علمية حديثة مثل نظرية الكوانتم -بحاجة إلى تفصيل مستقل في مقالات قادمة بإذن الله-، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا باحثا عن جواب: ما الوجود وما معناه؟ لتبقى الفلسفة صامدة أمام أسئلة العقل والوجود؛ لتقدّم كلّيات معرفية جوهرية بعد أن انحصر دور العلم في تناول جزئيات المعرفة دون التدخل في كلّيات الوجود ومعناه.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
قمَّة المعرفة تستقطب 3000 زائر و22 ألف متابع إلكترونيًا
أعلنت مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة اختتام عام 2024 بتحقيق سلسلة من الإنجازات النوعية التي عززت موقعها الريادي في مجال الابتكار ونشر المعرفة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
وتماشياً مع رسالتها في بناء مجتمعات معرفية مستدامة قائمة على أسس العلم والتكنولوجيا، أطلقت المؤسَّسة عدداً من المبادرات والمشروعات النوعية ونظَّمت فعاليات متنوعة، مجسدةً رؤية القيادة الرشيدة لتعزيز مكانة دولة الإمارات كمركز عالمي للمعرفة والابتكار.
أبرز إنجازات مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة لعام 2024
قمَّة المعرفة 2024:
تُعد قمَّة المعرفة في دورتها التاسعة واحدة من أبرز الفعاليات التي نظَّمتها المؤسَّسة خلال العام. شارك فيها أكثر من 100 شخصية عالمية وأكاديمية بارزة في مجالات الذكاء الاصطناعي، التكنولوجيا، الاقتصاد، التعليم، والبيئة، ضمن أكثر من 40 جلسة نقاشية وفعالية معرفية، استقطبت القمَّة أكثر من 3000 زائر، و22 ألف متابع عبر الموقع الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي.
فعاليات بارزة على هامش القمَّة:
- استضافة "مؤتمر اليونسكو العالمي الثالث للموارد التعليمية المفتوحة"، وهو الحدث الأول من نوعه في المنطقة العربية.
- تكريم الفائزين بجائزة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة تقديراً لإسهاماتهم في مجالات التعليم والبحث العلمي.
- انعقاد الاجتماع الأول لـ"التحالف العالمي لتنمية وتطوير المهارات"، بهدف توحيد الجهود الدولية لتدريب الشباب وتنمية قدراتهم.
إطلاق "أكاديمية مهارات المستقبل":
أطلقت المؤسَّسة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنصة "كورسيرا" العالمية مشروع "أكاديمية مهارات المستقبل"، الذي يهدف إلى توفير فرص تعليمية مجانية لـ10 ملايين متعلم بحلول عام 2030.
مشاريع ومبادرات رائدة
مشروع "توثيق إرث الشيخ راشد":
بادرت المؤسَّسة إلى توثيق مسيرة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، لتكون مرجعاً شاملاً يُبرز إرثه القيادي وقيمه التي أثرت في تاريخ دبي ودولة الإمارات.
ملتقى شباب المعرفة:
نظَّمت المؤسَّسة النسخة الثانية من هذا الملتقى في مصر، بهدف تشجيع العاملين في مجالات المعرفة على الإبداع والابتكار.
منصة "مركز المعرفة الرقمي":
واصلت المنصة نموها، حيث بلغ عدد المحتويات فيها أكثر من 800 ألف عنوان، ما يعزز من مكانتها كمرجع معرفي عربي شامل.
مبادرات أخرى:
- تنظيم برنامج دبي الدولي للكتابة العديد من الورش والفعاليات الفكرية.
- إطلاق مبادرة "استراحة معرفة" التي ضمت أكثر من 40 جلسة حوارية مع رواد الأدب والمعرفة.
- المشاركة في العديد من المعارض المحلية والدولية.
مبادرة "بالعربي" في دورتها الثانية عشرة
اختتمت المؤسَّسة العام بمبادرة "بالعربي"، التي تهدف إلى تعزيز استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية. شهدت المبادرة تفاعلاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي وفعاليات متنوعة في دول مثل البحرين، مصر، بريطانيا، كازاخستان، وباكستان.
أكد جمال بن حويرب، المدير التنفيذي للمؤسَّسة، أن عام 2024 شهد إنجازات بارزة تجسّد التزام المؤسَّسة بتعزيز المعرفة والابتكار، وأضاف أن هذه الجهود تسهم في استشراف المستقبل ودعم الشباب لتحقيق التطور والنمو، مشيراً إلى دور المؤسَّسة في ترسيخ مفاهيم الابتكار وريادة الأعمال المعرفية.