المحررة مرح بكير للجزيرة نت: سأدرس المحاماة لمقاضاة الاحتلال دوليا
تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT
القدس المحتلة- صبيحة الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2015، خرجت مرح بكير صباحا إلى مدرستها في حي الشيخ جرّاح بالقدس، وفي عودتها أطلق شرطي إسرائيلي 14 رصاصة نحوها، فتهشمت عظام يدها اليسرى من الأصابع حتى الكتف وأُتلفت الأعصاب.
اتُهمت مرح حينها بحيازة سكين ونيتها تنفيذ عملية طعن، وكانت تبلغ 16 عاما ونصفا، وحُكم عليها بالسجن الفعلي 8 أعوام ونصف، لكنها تحررت -أمس الجمعة- في أولى دفعات صفقة تبادل الأسرى التي أُبرمت بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي.
الجزيرة نت أجرت حوارا مع مرح التي دخلت السجن طفلة وخرجت منه ممثلة للأسيرات، وشابة طموحة تسعى للالتحاق بإحدى الجامعات خارج البلاد لدراسة المحاماة، لتدافع عن قضية الأسرى وترفعها في أروقة المحاكم الدولية لا المحلية فقط.
ما الفرق بين مرح بكير عام 2015 ومرح في عام 2023؟مرح 2015 هي تلك الطفلة التي كانت تتلقى تعليمها في الثانوية العامة بالفرع الأدبي على مقاعد إحدى مدارس القدس، وهي التي لم تكن تعرف كثيرا مما يدور حولها. ومرح 2023 هي تلك الشابة التي صقلت سنوات السجن الثمانية شخصيتها بشكل مختلف، فأصبحت أقوى وأكثر صبرا وأقرب إلى الله. كنت دائما أردد "من كان الله معه فمن عليه؟" وبهذه العبارة تحديت الصعاب لأنني عرفت أن الله لن يتركني في محنتي. اكتسبت خبرة داخل السجون في كيفية التعامل مع مختلف شرائح المجتمع ومع الشخصيات المختلفة، ولدي الآن حكمة في تقدير الأمور والمواقف.
مررتِ بمراحل عدة خلال الاعتقال بداية من المكوث في المستشفى، مرورا بالزنازين وليس انتهاء بالتنقل بين السجون، أيُّها أصعب مرحلة؟هي الأيام والأشهر الأولى في الاعتقال، كان كل شيء جديدا بالنسبة لي، مكثت 22 يوما في المستشفى أُجريت لي خلالها عمليتان جراحيتان، ثم تم تسريحي دون أن أكمل علاجي المتمثل بضرورة إجراء عملية جراحية أخرى لمعالجة تلف الأعصاب. نُقلت بعدها إلى زنازين سجن عسقلان ومكثت فيها 18 يوما، ومنها إلى زنازين سجن الرملة لأسبوعين إضافيين، ومن هناك نُقلت إلى سجن الشارون. طيلة فترة الزنازين لم يتابع أحد جروحي ولم يغيروا لي الشاش أو حتى يفكّوا الغُرز، ووجدت نفسي أمام تحدّ كبير بضرورة الاعتناء بنفسي وحدي دون مساعدة من أحد، في ظل غياب أهلي القسري عني وبالتحديد أمي.
كيف اعتنيت بنفسك؟في سجن الرملة نقلوني مرتين إلى العيادة لأتلقى هناك جلسة علاج طبيعي، لكنني نفرت من المعالج في المرة الثانية، لأنه قال لي يدك ستصاب بالشلل ولن تتحسن. حفظتُ التمارين اليدوية التي تعلمتها في الجلستين وبدأت بممارستها وحدي، وعندما وصلت سجن الشارون أقنعتني ممثلة الأسيرات حينها لينا الجربوني بالتردد على العيادة برفقتها للخضوع لجلسات العلاج الطبيعي، وقال لي المعالج إنني سأحتاج عاما كاملا لأتمكن من تحريك يدي بشكل طبيعي، لكنني تحديته وواظبت على التمارين وتمكنت من تحريكها خلال 6 أشهر فقط.
كيف غدت مرح الطفلة ممثلة للأسيرات ومثلتهن أمام إدارة سجن الدامون في السنوات الأربع الأخيرة؟الأسيرات رشحنني لأمثلهن أمام إدارة السجن، ولا أحب أن أتحدث عن نفسي، لكنني بشكل عام صاحبة شخصية قوية، وتعاملت مع الجميع بودّ واحترام وصدق، وهذا جعل الأسيرات يثقن بي، فتم ترشيحي لأمثلهن أمام الإدارة التي لديّ أسلوب قوي في التواصل معها، ولم أتنازل يوما عن أي مطلب أو حق.
ما المهام الملقاة على عاتق ممثلة الأسيرات؟تنهدت ثم قالت: ماذا لا تفعل ممثلة الأسيرات؟ هي تفعل كل شيء. أول وأهم وظيفة تتمثل بحماية قسم الأسيرات الأمنيات من أي اختراق من الإدارة عبر أي ثغرة في القسم، فمثلا لا يمكن أن تخرج أي أسيرة من القسم إلى العيادة دون مرافقتي، وهذا ما تعلمناه من الممثلات السابقات، لأن المخابرات تنتظر عادة أن تستفرد بالأسيرة في العيادة إذا كانت وحدها، وتبدأ بطرح أسئلة عليها في محاولة لتجميع معلومات عن القسم، وقد تقع الأسيرة في فخ بعض الإجابات التي تظنها عادية.
ومن مسؤولية الممثلة أيضا ترتيب تنقلات الأسيرات بين الغرف إذا وقعت أي مشكلة وتعذر حلّها، فأقوم على الفور بتقديم طلب للإدارة لنقل الأسيرة لحل المشكلة، دون الإفصاح تحت أي ظرف عن سببها، وتضاف إلى ذلك الكثير من المهام.
هل شكّلت هذه المهام ضغطا عليكِ؟بالتأكيد، كنتُ أعمل على مدار الساعة، وفي حال حدثت أي مشكلة بالقسم كانت الإدارة تخرجني من الغرفة لحلها حتى وإن كان ذلك بعد منتصف الليل.
أحيانا تقرر الإدارة عمل عدّ مفاجئ في القسم في تمام الرابعة فجرا، وتكمن وظيفتي هنا في إيقاظ كافة الأسيرات ليقفن بهدف عدّهن. وفي حال قررت إدارة السجن إجراء تفتيش مباغت فإنه يمنع عليها الدخول إلى الغرف والاحتكاك بالأسيرات دون وجودي.
أي أسيرة تتعرض لانتهاك أو إهمال طبي أو عائق مع الإدارة، وظيفتي محاربة الإدارة حتى لو دفعت الثمن بشكل شخصي، وفي بعض الأحيان تستمر الحرب الشفوية بيني وبين الإدارة لمدة شهرين بهدف السماح لإحدى الأسيرات مثلا بالاتصال بشقيقها الأسير. وفي حال لم أُفلح بالمفاوضات الشفوية، نبدأ بإجراءات احتجاجية تصعيدية لنحقق مطلب الأسيرة، ونحن نعلم أن العقاب قد يشمل جميع القسم لكن لا مفر من ذلك، هذه مسؤوليات وضغوطات كبيرة بلا شك.
والدة الأسيرة في سجون الاحتلال مرح باكير تتحدث عن مشاعرها بعد الإعلان عن الإفراج عنها ضمن صفقة التبادل#حرب_غزة #الأخبار pic.twitter.com/nBGvdh0udZ
— قناة الجزيرة (@AJArabic) November 24, 2023
كيف تُستقبل الأسيرة الجديدة في السجن؟أستقبلها بشكل شخصي وأشرح لها القوانين العامة والأمور الإدارية في السجن بحيث تعرف طبيعة العلاقة بين الأسيرة والإدارة من جهة وحقوقها وواجباتها من جهة أخرى. ثم تستلم "شاويشة" (مسؤولة) الغرفة الأسيرة الجديدة وتشرح لها الأمور والقوانين الداخلية في القسم، وهكذا نتكامل في إطلاع الأسيرات الجديدات على القوانين الإدارية والداخلية منذ اليوم الأول.
كيف تبني الأسيرات الخبرة في التعامل مع السجّان؟يجب أن يعرف الجميع أن الأسيرات لا يحصلن على أي مطلب عن طريق الحوار، لأن الإدارة لا تفهم سوى لغة الخطوات الاحتجاجية. نُعيد وجبات الطعام، ونرفض الوقوف لإجراء العدد ونتمرد عبر الاعتصام في ساحة السجن كي يعلموا أننا محتجون ونريد تحقيق المطالب، فننتزعها أحيانا ونعاقب أحيانا أخرى.
عندما دخلنا السجن تعلمنا على يد ممثلة الأسيرات السابقة لينا الجربوني كل شيء، وعندما يستعصي علينا أمر نستعين بالأسرى لأن خبرتهم أطول، بحكم وجود أحكام مؤبدة وأسرى يقبعون في الأسر من سنوات طويلة، وفي بعض الأحيان كان يجب علينا أن نجتهد فأصبنا أحيانا، ودفعنا نتيجة مجازفتنا ضريبة بعقابنا جماعيا في أحيان أخرى.
تعرضتِ لعقوبة العزل الانفرادي مرتين، حدثينا عن هذه العقوبة؟كانت المرة الأولى عام 2021 واستمر عزلي لـ9 أيام في سجن الجلمة، ثم أُنهي بعد تفاوض بين قيادة الأسرى وإدارة السجون وأعدت إلى سجن الدامون. المرة الثانية كانت في السابع من أكتوبر المنصرم وفي زنزانة سيئة جدا في سجن الجلمة أيضا، كنتُ مراقبة بـ4 كاميرات إحداها مسلطة على مكان الاستحمام.
مياه المرحاض كانت تملأ أرضية الزنزانة ولم أتمكن من الصلاة على مدار 20 يوما، لم يحترم السجانون خصوصيتي ووجهوا لي شتائم نابية لا يمكن سماعها أو ترديدها.
سألت عن سبب عزلي، فأخبروني أن جميع ممثلي الأسرى معزولون بسبب الحرب، ولأنني مؤثرة في القسم بالإضافة لأسباب لا يمكنهم الإفصاح عنها، لكنها صدرت عن جهات عليا خارج السجون وفق ادعائهم.
نعلم أنك تقدمتِ لامتحانات الثانوية العامة في السجون ونجحتِ بها، ماذا عن تعليمك الجامعي ومستقبلك؟أريد أن أصبح محامية لأدافع عن الأسرى وقضيتهم ليس في المحاكم المحلية بل في الدولية، لأن الانتهاكات التي يتعرضون لها كبيرة جدا، وأعلم أن الضوء يسلط على الأسرى، لكن ليس كما يجب وخاصة الأسيرات التي نشعر دائما أنهن مهمشات. وأتمنى كذلك أن أتلقى تعليمي الجامعي خارج البلاد وهذا ما أطمح إليه.
قلتِ لحظة تحررك إن الحياة في السجون ليست سهلة لكنها ليست صعبة في الوقت ذاته، ماذا تقصدين بذلك؟
أنا أؤمن بقضاء الله وقدره ومتأكدة أن الأسر هو امتحان من الله وأن بيدنا النجاح أو الفشل به. يجب ألا يستسلم الأسير لقسوة السجن وعليه أن يستغل وقته ويطور من نفسه، ولدينا الكثير من قصص النجاح من إكمال للتعليم الجامعي وانتشار للجان الثقافية وغيرها من اللجان في كافة السجون. لا بد من تحويل المحنة إلى منحة، وقوتنا وتخطينا للصعاب كانت دائما تزعج إدارة السجن التي كانت تغضب إذا رأتنا نضحك.
ورغم الصعوبات تخرجت 7 أسيرات من جامعة القدس المفتوحة مؤخرا، بعد محاولات إدارة السجن منع إدخال الكثير من الكتب وحتى الروايات، إلا أن الطالبات نجحن وحصلن على درجات أكاديمية عالية.
هل تحررك في صفقة تبادل كان حلما يراودك خلال الأسر؟ وما شعورك حيال ذلك الآن؟رافقني شعور داخلي دائم هو أنني والأسيرات جميعا سنتحرر بصفقة تبادل، لأنني كنت أخشى كثيرا التحرر وترك الأسيرات خلفي لشعوري بمسؤولية كبيرة تجاههن.
سعيدة بالتحرر وهذا حق لكل أسير لأن مكاننا ليس في السجون، لكن المحزن والصعب -وجميعنا رددنا هذه الجملة- أننا لم نكن نريد أن نتحرر مقابل هذا الشلال الكبير من دماء الشهداء. للأسف كانت الصفقة هذه المرة مقابل دم أكثر من 14 ألف فلسطيني في غزة، ونحن بالتأكيد لسنا سعداء بتحررنا أمام هذا الدمار الكبير.
حتى قبل تحرري بيوم واحد كنت مغيبة عن كل ما يجري خارج زنزانتي الانفرادية، لكن عندما خرجت وشاهدت الدمار الكبير عرفت أن ثمن الحرية كان عاليا، وأن الضريبة التي دفعتها غزة لنعود إلى بيوتنا كانت باهظة جدا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: إدارة السجن فی القسم
إقرأ أيضاً:
فضيحة “الدرونز” التي كشفت مشاركة فرنسا في إبادة غزة
#سواليف
في ليلة 17 يوليو/تموز 2014، كانت عائلة شحيبر التي تنحدر من #غزة على موعد مع حادث أليم ومُعتاد في #فلسطين المحتلة، حيث قصف #جيش_الاحتلال منزلهم. أما الهدف الإستراتيجي، فتمثل في قتل عدة أطفال: أفنان (8 سنوات)، ووسيم (9 سنوات)، وجهاد (10 سنوات)، الذين استُشهِدوا وهم يُطعِمون الحَمام على سطح المنزل، فيما تسبب القصف في استشهاد طفلين آخرين.
بعد القصف مباشرة، بدأت منظمتان حقوقيتان هما “الميزان” الفلسطينية و”بتسيليم” الإسرائيلية في البحث عن السبب الحقيقي وراء الاستهداف، لكنها خلصت إلى عدم وجود أي هدف عسكري في منزل شحيبر حسب ما أكدته الأمم المتحدة نفسها بعد ذلك في تقرير نشرته في يونيو/حزيران 2015.
هناك سؤال ثانٍ كان يؤرق المحققين المستقلين حيال #السلاح الذي استُخدِم في القصف، وما أثار الاهتمام في أثناء تنقيب المحققين هو أسطوانة سوداء حملت نقوشا مسحها الانفجار جزئيا وعليها كُتب “أوروفارد ـ باريس ـ فرنسا”.
مقالات ذات صلةبسبب هذا الاكتشاف رفعت أسرة شحيبر دعوى في فرنسا ضد شركة “إكسيليا”، بسبب تواطؤها المحتمل في جريمة حرب اقترفتها إسرائيل في عملية “الجرف الصامد”. تقول هذه الأسطوانة الكثير عن الدعم العسكري والتقني الفرنسي لصالح جيش الاحتلال، وأحدث فصل فيه ما كشف عنه موقع “ديسكلوز” في تحقيق يورط فرنسا في #جرائم_إسرائيل في حق أهل غزة أثناء #حرب_الإبادة الدائرة حاليا.
رمادية فرنسية
قبل انطلاق الحرب على غزة يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت فرنسا رسميا وإعلاميا أيضا تصرح بالدعم الكامل لجيش الاحتلال للرد على ما حدث في السابع من أكتوبر. لكن إسرائيل حولت هذا الزخم الغربي من التعاطف إلى الإقدام على #جرائم حرب يصعب إخفاؤها.
بدأ التوجس يجد طريقه إلى أروقة الداعمين الغربيين، خصوصا مع ارتفاع الأصوات الرافضة للإبادة في الرأي العام الغربي، ومحاولاته الضغط على صناع القرار لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل.
في فرنسا، سبق أن وجَّه 115 برلمانيا في أبريل/نيسان من عام 2024 رسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطالبين إياه بإيقاف مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، لأن أي تحرك عكس ذلك يعني ضلوع باريس في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
قبل ذلك بأيام، كان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد أصدر قراره بحظر تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال، وصوَّتت 28 دولة لصالح هذا القرار، فيما اعترضت 6 دول على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا، أما فرنسا فوجدت لنفسها مكانا مريحا في المنطقة الرمادية التي جلست فيها 13 دولة من الممتنعين عن التصويت.
يتسق موقف فرنسا من هذا القرار الأممي مع موقفها العام حيال حرب غزة، وملف تزويد إسرائيل بالأسلحة، أو ببعض القطع التي تستعملها تل أبيب في صناعة أسلحتها التي توجهها في الغالب نحو الفلسطينيين العُزّل.
منذ بداية الحرب على غزة، سلكت فرنسا مسلكا يرقص على جميع الحبال، فهي لم تعلن قطع أي تعامل عسكري مع دولة الاحتلال، لكنها في الوقت نفسه نزلت بهذا التعاون إلى أقل درجة ممكنة، بحيث تحافظ على خيط رفيع يربطها بتل أبيب، مع بذل كل الجهد المطلوب للمحافظة على هذا الخيط من الانقطاع.
موضوعيا، لا تُمثِّل تجارة الأسلحة بين فرنسا وإسرائيل إلا 0.2% فقط من 27 مليار يورو من صادرات باريس إلى دول العالم التي يمكنها استعمالها عسكريا أو في مجالات تقنية أخرى وتكون غالبا مجرد قطع غيار، حسب تصريح سيباستيان ليكورنو، وزير القوات المسلحة الفرنسي.
لا تمانع فرنسا من تبادل المساعدة مع الإسرائيليين فيما يخص بيع الأسلحة، لكن المساعدة تخضع لحسابات أخرى أفصحت عنها مصادر لصحيفة “لوموند” أثناء التحقيق الذي نشرته الجريدة الفرنسية عام 2021 حول برنامج “بيغاسوس” للتجسُّس، حيث يقول المصدر: “نحن قريبون من الإسرائيليين بمسافة تسمح لنا أن نعرف ماذا يفعلون، لكن في الوقت ذاته، لدى فرنسا رغبة واضحة في عدم مساعدة إسرائيل في أي عمليات تقوم بها في غزة، لذلك لا نريد أخذ أي مجازفة في إرسال بعض الأسلحة التي قد تُستعمل في ذلك”.
أسلحة فرنسا.. للدفاع فقط
في تقرير لها في 28 أبريل/نيسان الماضي، أفادت صحيفة “لوموند” أن فرنسا حتى قبيل الحرب الأخيرة على غزة كانت تزود إسرائيل بقطع ضرورية لصنع القذائف المدفعية، لكن في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قررت باريس وقف العقود الخاصة بهذه القطع.
وتشير تقارير البرلمان الفرنسي الصادرة عام 2023 إلى أن فرنسا أرسلت إلى إسرائيل عددا من المعدات الخاصة بتدريع السيارات والمراقبة عبر الأقمار الصناعية.
بعيدا عن المعلومات التي جاءت في وسائل الإعلام الفرنسية، ثمَّة أخبار أخرى أكثر لفتًا للأنظار، منها التحقيق الاستقصائي الذي نشره موقع “ديسكلوز” الفرنسي في مارس/آذار 2024، وقال إن باريس سمحت في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023 بإرسال شحنة تضم ما لا يقل عن 100 ألف خرطوشة (ما يغلّف الطلقة)، انطلقت من مرسيليا عبر شركة “أورولينكس” الفرنسية المتخصصة في صناعة المُعدات العسكرية.
يشير التحقيق إلى أن حجم الشحنة وصل إلى 800 كيلوغرام من الذخائر أُرسِلَت إلى شركة “آي إم آي سيستمز” الإسرائيلية، المُزوِّد الحصري للجيش الإسرائيلي لهذا النوع من الذخائر، ويتعارض هذا التمويل المباشر مع تأكيد باريس عبر قياداتها السياسية أن الأسلحة والمعدات الدفاعية فقط هي ما تصل إلى تل أبيب.
فضيحة المُسيَّرات
مع جولة خفيفة في مواقع التواصل الاجتماعي للعالقين في غزة، نجد أن صوت الخلفية المشترك بين الفيديوهات يغلب عليه ضجيج الطائرات المُسيَّرة، أو ما ُسميه أهل غزة بـ “الزنّانات”.
شكَّلت حرب غزة فرصة لإسرائيل لتفعيل الكتيبة 166 التي تحمل اسم “سرب الطيور النارية”، بحسب ما نشر موقع “إسرائيل ديفِنس”، والهدف من هذه الطائرات هو مراقبة غزة، ثم تنفيذ الضربات. وضمن هذا السرب هناك الطائرة “هيرميس 900” التي يصل طولها إلى نحو 15 مترا، وهي قادرة على الطيران لمدة 30 ساعة متواصلة، وعلى ارتفاع 9000 متر.
لا يحتاج الضباط الذين يوجِّهون هذه الطائرات إلا إلى غرفة تحكم تبعد مئات الكيلومترات عن مسرح العمليات، ثم تنفيذ الضربات مستفيدين من الدقة الكبيرة التي توفرها هذه الطائرات الحديثة، حيث بإمكانها مثلا الإجهاز على سائق سيارة على بُعد 5 أو 10 أمتار دون إصابة أي راكب آخر في السيارة نفسها، رغم أن الاستعمال الإسرائيلي لهذه الأسلحة لا يهتم كثيرا بالقتلى المدنيين.
في تحقيق جديد حول صفقات السلاح بين فرنسا وإسرائيل، نشر موقع التحقيقات الفرنسي “ديسكلوز” وثائق تُثبت تورط شركة “تاليس” الفرنسية، التي تمتلك الدولة 26% من أسهمها، في تسليم إسرائيل مجموعة معدات إلكترونية تساعد في جمع قطع طائرة “هيرميس 900″، من بينها قطعة “TSC 4000 IFF”، وهي تساعد هذه المُسيَّرات على تجنُّب الصواريخ والمُسيَّرات “الصديقة” التي قد تعترض طريقها، حتى لا تسقط الصواريخ الموجهة نحو الفلسطينيين على الإسرائيليين أنفسهم.
يشير التحقيق إلى أن 8 قطع من هذه الأجهزة أُرسِلَت فعلا إلى إسرائيل بين ديسمبر/كانون الأول 2023 ومايو/أيار 2024، أي بعد أشهر من انطلاق العمليات الإسرائيلية في غزة.
ويسلط التحقيق الضوء على إشكالية مراقبة العقود السرية التي تعقدها الجهات العليا الفرنسية مع بعض الدول ومن بينها إسرائيل، وذلك رغم خروج وزير الدفاع الفرنسي يوم 20 فبراير/شباط 2024 أمام البرلمان مؤكدا أن جميع القطع التي تُرسَل إلى إسرائيل عبارة عن معدات يُتأكَّد من نوع الآليات التي تُستَعمل فيها.
يعود هذا التعاقد السري بين فرنسا وإسرائيل إلى 2 مارس/آذار 2023، حين اشترت شركة “إيلبيت سيستيمز” الإسرائيلية المصنعة لطائرات “هيرميس 900” ثماني قطع إلكترونية بمبلغ 55 ألف يورو للقطعة الواحدة من جهات فرنسية (440 ألف يورو إجمالا). وصل الطلب بعد أسابيع من انطلاق الرد الناري على هجمات 7 أكتوبر، في الوقت الذي كانت تحذر فيه الأمم المتحدة من أن النيران الإسرائيلية غالبا ما تطول النساء والأطفال الرضع.
ورغم ذلك، يقول موقع “ديسكلوز” إن وزارة الدفاع الفرنسية لم تحترم الاتفاقيات التي وقَّعت عليها بعدم بيع أسلحة لجهات تستهدف المدنيين، بل واصلت دعم تحركات حكومة نتنياهو في تدمير قطاع غزة.
كانت فرنسا قد واجهت في وقت سابق دعوة من 11 منظمة حقوقية تتزعمها منظمة العفو الدولية “أمنستي” بسبب إرسالها أسلحة إلى تل أبيب، مع العلم أن الأخيرة لا تجرب أسلحتها ولا الأسلحة التي تحصل عليها من حلفائها إلا في مواجهة الفلسطينيين.
سكوربيون
تجمع فرنسا وإسرائيل علاقة تسليح وتكنولوجيا وطيدة، ويكشف تحقيق مهم لموقع “أوريان 21” عن العلاقة بين جيش الاحتلال وجهاز الدفاع الفرنسي، وعن الغموض الكبير الذي يكتنف هذه العلاقة، التي تشهد تعاونا بين الفرنسيين والإسرائيليين على حروب المستقبل التي سيكون أبطالها الروبوتات والطائرات المُسيَّرة.
تمتاز العلاقات بين فرنسا وإسرائيل بنوع من الودية، وإن كانت قد تعكرت في الفترة الأخيرة، بيد أن الأمر ليس بذلك الوضوح أو الشفافية فيما يتعلق بالجانب العسكري، لأن العلاقة تتأرجح بين الود والمنافسة، بل تصل أحيانا إلى الاختراق. لا يحب الفرنسيون الطريقة التي يتعامل بها الإسرائيليون في مجال الصناعات العسكرية، فهم يكسرون الأثمان بهدف الاستيلاء على أسواق السلاح.
وليس هذا فحسب، بل أصبح جيش الاحتلال منذ سنوات يتوجه إلى أهم الأسواق التقليدية التي كانت فرنسا تتمتع بالأفضلية المطلقة فيها لينافسها هناك، وهي سوق أفريقيا.
منذ اتفاق أوسلو، استثمرت إسرائيل كثيرا في القارة السمراء، خصوصا في مجال حماية الأنظمة القائمة. وفي السياق نفسه، حافظ الإسرائيليون رغم ذلك على نوع من التعاون مع الفرنسيين كما حدث في الكاميرون، حيث دعموا الجيش الكاميروني للقتال ضد جماعة “بوكو حرام”، وأقدم مرتزقة إسرائيليون على تأطير كتيبة التدخل السريع، التي تعمل تحت قيادة الرئاسة مباشرة، وجهز الإسرائيليون كتيبة التدخل السريع ببنادق كانت حتى الأمس القريب لا تأتي إلا من الصناعة الفرنسية.
تجاوز تأثير السلاح الإسرائيلي رعايا فرنسا السابقين من الأفارقة إلى فرنسا نفسها. وصحيح أن جيش الاحتلال منذ بدء عدوانه الغاشم على غزة قد استعان بكل مَن له إبرة يمكنها أن تغطي حاجتها العسكرية لإبادة غزة وسكانها، إلا أن الإسرائيليين في الظروف العادية يؤثّرون بالفعل في مجال التسليح والدفاع الفرنسي، مع أن العكس ليس صحيحا بالضرورة.
ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت فرنسا هي التي تبيع الأسلحة لجيش الاحتلال، أما اليوم، فأضحت تل أبيب تبيع لباريس، إذ استوردت فرنسا أنظمة المراقبة الإلكترونية والمُسيَّرات، وحتى الجنود الآليين. ولا يُخفي الفرنسيون انبهارهم بالتكنولوجيا الإسرائيلية، وبالقليل من البحث، يمكننا الوصول إلى بعض نتائج هذا التعاون الخفي، أما الفاكهة المسمومة الأكثر نضجا هي “برنامج سكوربيون”.
لا يعلم الفرنسيون الكثير عن برنامج خفي يسمى “تآزر الاتصال المعزز بتعدد الاستخدامات وتثمين المعلومات”، المعروف اختصارا بـ”سكوربيون”، وهو برنامج “ذكي” سيدخل في قلب إستراتيجية القوات البرية الفرنسية للعقدين المقبلين.
أهم نقطة في برنامج “سكوربيون” هي تطوير قيادة رقمية واحدة تعتمد على وصلة مشتركة، تسمح للجنود المختلفين والأدوات العسكرية المنتشرة، وبالخصوص المُسيَّرات والروبوتات، بالاتصال في وقت واحد لاستباق أي ردود فعل يقوم بها العدو المفترض.
لذا، سيتمكن الجندي الفرنسي من الحصول على جميع هذه المعلومات عبر مواقع “جي بي إس” خاصة بالبرنامج، الذي عملت عليه شركة “إلبيت” الإسرائيلية، من أجل حرب “بدون ضوضاء”، وبحيث يُتيح هذا النظام الاستباقي لفرنسا أن تتجنَّب مقتل العديد من جنودها عبر قراءة التحركات الاستباقية لعدوها.
عمل جيش الاحتلال على تطوير تقنياته عبر تجريبها في غزة وفوق جثث أهلها، ولذلك تمكن من التقدم في نقاط ثلاث: أولها محو أصوات محركات المُسيَّرات، وثانيها تصغير حجمها وتطويرها بحيث يماثل حجمها حجم الحشرات، وأخيرا القضاء على أي آثار رقمية لها مع تحديد إشارات العدو.
كل هذا وأكثر يوجد في برنامج “سكوربيون” الذي لا تقتصر أهميته في الصناعة الفرنسية على الاستخدام، بل تتجاوزه إلى التصدير، حيث أبدت بعض الدول، ومنها دول عربية، حماسها الشديد للحصول عليه، وهو برنامج وصل بالطبع، قبل كل هؤلاء المشترين، إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وبذلك يبدو الموقف “المحايد” الذي تحاول القيادة السياسية في فرنسا اتخاذه من حرب الإبادة الحالية، موقفا لا تعضده مواقف الجانب العسكري، الذي بات بصورة أو بأخرى جزءا من هذه الحرب، وجزءا من آلة القتل التي تحرق وتدمر يوميا كل ما تطاله دون رادع.