لجريدة عمان:
2024-09-18@10:27:55 GMT

ابحث عن أمريكا

تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT

أمريكا تذكرني بلعبة «ابحث عن فضولي» التي تنشرها إحدى مجلات الصغار الأسبوعية، تقوم اللعبة على البحث عن شخصية فضولي وهو أحد الأشخاص الذي يدخل نفسه في أشياء لا تعنيه وكما يقال يدخل أنفه في شيء لا يخصه، تستهويني اللعبة وأمارسها بمزيد من الشغف والحب، وكم أكون سعيدا عندما أنجح بعد عناء البحث المضني في الكشف عن ذلك الفضولي الذي أرهقني بحثا على الورق، شغوفا وأنا أرسم دائرة على تلك الشخصية المثيرة.

عندما كبرت رأيت السيدة أمريكا أمامي، ومنذ ذلك الوقت وهي لا تتوقف عن الكبر تكبر لكنها لا تشيخ ولا تهرم، جمالها فاتن لا تحتاج إلى أصباغ أو أن تذهب إلى الكوافير فهي متصابية منذ خلقت لا تفارقها الزينة. كان سهلا عليّ أن أكتشف أمريكا، ولم يحتج الأمر إلى عناء أو تذاكٍ أو «فهلوة» في البحث عنها، فهي حاضرة ويزداد حضورها قوة. فأصبح الوله أمريكيا والسطوع أمريكيا والانبهار أمريكيا.

أمريكا في عنفوانها وغطرستها هي السيدة الفضولية، فأينما يممت وجهي أجدها ظاهرة، متعالية، متطاولة تقف هكذا لا يمكن أن تخطئها العين. أمريكا في كل شيء وتتربع على كل شيء، لا تتحرج عندما تتدخل في أشياء لا تعنيها أبدا، أمريكا التي نجحت في أمركة العالم قاطبة، فكان لون العالم لونها. كل شيء لا يستساغ إلا إذا كان من صنع أمريكا.

(أردنا أن نغير أمريكا فغيرنا العالم) عبارة قالها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان (1988-1980) في كلمته الوداعية عقب انتهاء فترته الرئاسية الأخيرة. فتلك العبارة رغم أنها مقتضبة إلا أنها عبارة موحية جدا، فتغير العالم لا يتأتى إلا من خلال أمريكا، ولا يمكن أن يتحول العالم إلا من خلال أمريكا، فهي الراهبة والعالمة والقوية والمسيطرة، لا يتأتى أمركة العالم إلا من خلال أمريكا، فبالرغم أن أمريكا لا تحتاج إلى تغيير، فأنظمتها الدستورية ومؤسساتها وثقافتها راسخة، العالم هو من يحتاج إلى أمركة وتغير بما يتوافق مع هوى أمريكا. كأن ذلك التغير لم يأت فجأة ولم يكن حديث الساعة آنذاك، بل ضمن سلسلة متواصلة من الأحداث التي عززت هيمنة أمريكا على العالم، لكن ما أشعل جذوة التغير التي تحدث عنها ريجان كانت هي تلك الفترة التي مثلت الإرهاصات الأولى لأفول نظام القطبين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي النظام الدولي الذي كان سائدًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، فقد كانت كل المؤشرات تنبئ بانتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان الجمر تشتد جذوته تحت رماد الكثير من الإرهاصات، فشهدت تلك الفترة صعود ميخائيل جورباتشوف ونظريته البروستيكا وغيرها من العوامل التي أدت في النهاية إلى سقوط المعسكر الاشتراكي وسقوط نظريته وبروز نظام القطب الواحد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. مؤسسة بذلك نظاما دوليا جديدا قوامه القطب الأوحد. عمليا أصبحت أمريكا هي المهيمن والمسيطر والرافعة التي تقود العالم، فأضحت عالية متعالية متربعة حاضرة في التفاصيل والجزئيات، وفي كل العموميات قوية.

الخبث والدهاء كان انجليزيا بامتياز فأصبحت أمريكا وريثة كل ذلك، فلا كارثة تقع في العالم إلا وأمريكا حاضرة فيها بل هي من يعد الطبخة ويدوزن مقاديرها. عندما أتحدث عن أمريكا فإني أتحدث عنها بغضب وقهر وقلة حيلة. ذهبت إلى أمريكا فرأيت ما رأيت وكانت الغواية كبيرة فخفت أن أقع في هواها وأصبح أمريكي الهوى والعقيدة، خفت أن أتبنى ما تقوله وأصدق كل كلمة تتفوه بها.

«أجمل ما في أمريكا أننا نفهمها»، عبارة قالها بريخت وظلت ملتصقة في أمريكا وكل من يعرفها. قد يقول قائل: إن البساطة هي سر الخلود والانبهار، فهي بسيطة جدا ومدركة جدا فمن أراد أن يكون أمريكي الهوى فذلك في المستطاع والمتناول ولا يلزم أي عناء.

أدركت أمريكا فتنتها منذ البداية فصاغت نظامها بما يتوافق مع الطبيعة والفطرة البشرية، فعمدت إلى وضع ما يسمى بالقيم الأمريكية وهي في الحقيقة قيم إنسانية بحتة تتوق إليها النفس البشرية والطبيعة والفطرة البشرية، فحقوق الإنسان، والحرية، والاستقلالية، والخصوصية وغيرها من القيم جعلتها أمريكا في المتناول وتدافع عنها بينما لا تجد ذلك في العالم الآخر. فأمريكا لتنشر قيمها وتحافظ على تفوقها تبنت عقيدتين أو قوتين، قوة خشنة صلبة المتمثلة في جيوشها الضاربة وأسلحتها الفتاكة، وقوة أخرى ناعمة وهي الركيزة الأساسية للتفوق الأمريكي وهي المؤثرة الحقيقية التي تأسر بها قلوب الشعوب والعالم وتمثلت هذه القوة في اللغة الأمريكية والخطاب الذي تتبناه والذي يزخر بالكثير من المصطلحات كالإنسانية، وحقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، والإرهاب، والتوحش، والأمم المتحضرة، والقيم الإنسانية، والعدالة وغيرها الكثير، وعلاوة على ذلك فقد أنشأت منظمات وهياكل دولية تسعى من خلالها إلي ترسيخ تلك القيم والمبادئ وأن تحورها لصالحها وخدمة لأهدافها.

تذكر أمريكا وتذكر أرض الأحلام ويقفز ذلك الحلم الذي اقترن في أذهان الكثيرين بالقيم الأمريكية كالديمقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة والخصوصية وغيرها. قيم قد تصطدم ببعض الشعوبيين كترامب وسياسته وبعض السياسات العنصرية تجاه المهاجرين والمسلمين بوجه خاص، لكن تلك القيم تظل متقدمة لا تتراجع.

اختصرت أمريكا العالم فيها، فالعالم بنظرها لا يعني إلا أمريكا فهي الوحيدة التي تشرع وتنفذ وما على الآخرين إلا الطاعة، وليس كل طاعة مقبولة، طاعة عمياء فقط هو ما يرضي غطرستها وجنونها. فقد تبنت سياسة الإجماع العالمي، وهو نوع من الإجماع ليس إلا إجماعا وهميا، فعندما تقول شيئا أو تفعل شيئا حتى لو أنه قبيح تسارع إلى ربط ذلك بما يسمى بالمجتمع الدولي ويتحول ذلك وكأنه إجماع من كل دول العالم وهي لا تتورع في وصف ذلك بأنها تتكلم نيابة عن المجتمع الدولي أو المجتمع المتحضر، المجتمع الإنساني، فمن ذا الذي لا يجد نفسه متحضرًا ليكون شاذا عن ذلك الإجماع الوهمي.

أمريكا السيئة المبتذلة، قل ما تشاء ولا تخف من أحد بل قل ذلك في عقر دارها وستجد من يصفق لك. قل ما يبدو لك، لكن أمريكا لا تتغير سائرة دون توقف، بقدر ما هي منفتحة وبسيطة وسهلة فهي غامضة وغير مفهومة وعصية، شيء محير وهلامي وزئبقي، فهي الصداع المزمن الذي لا نستطيع التخلص من ألمه ووجعه، وفي الوقت نفسه هي الدواء والترياق. وهي الوحيدة التي تستطيع ضبط هذه المعادلة المعقدة.

فهي التي تقرر لمن تمنح الحرية وهي الوحيدة التي تدلس وتزور وتطمس الحقائق وتختلق الأدلة والبراهين وتنشر الصور المزيفة وعلى مسمع ومرأى العالم لكن كذبها يصدق بل تجبر العالم على تصديقه، وهي عندما تمارس ذلك تكون مبهجة ومختلفة، فهي تجيد العزف على كل الأوتار تضبط الإيقاعات لتجعل العالم كله يرقص على أنغامها.

عندما تقتل أمريكا فهي لا تحتاج إلى تبرير أو اعتذار فحسب منطقها أن ذلك يتناسق مع رسالتها الكونية والحضارية وكان يجب أن تُخلِص في تخليص البشرية من الأشرار لينعم الكون بالسلام. تلوم الضحية لأنه أوجد نفسه في مكان لا يجب أن يكون فيه، وقد تتجمل في حالات نادرة وتواسي ذوي من قتلتهم، فهي كما وصفها الشاعر العراقي أحمد مطر.

أمريكا تطلق الكلب علينا وبها من كلبها نستنجد.

أمريكا تطلق النار لتنجينا من الكلب فينجو كلبها.. لكننا نستشهد

أمريكا تبعد الكلب.. ولكن بدلا منه علينا تقعد

أمريكا المبجلة لا تتوانى أبدا في ممارسة الخطيئة جهارا نهارا وتكيل بمكيالين بل بمكاييل متعددة، وتمارس التفرقة والعنصرية المقيتة لكنها بمجرد ما تحكم على شيء وتقول كلمتها تجد العالم بأجمعه يتبنى قولها ونظريتها، فعندما انبرى كولن باول في مجلس الأمن يكذب على العراق صدقه العالم أجمع.

في 7 من أكتوبر عند انطلاق طوفان الأقصى رأينا كلنا الوجه القبيح لأمريكا، رأينا التوحش في أعلى تجلياته. رأينا كيف تبنت أمريكا السردية الصهيونية فدعمتها وبثت فيها القوة، وكيف تداعى العالم إلى تبنيها هو الآخر وسارع إلى تقديم فروض الطاعة العمياء والولاء، ذهب بايدن ووزير خارجيته إلى إسرائيل فتقاطر زعماء العالم المتمدن إلى ذلك وكأن على عيونهم غشاوة لا يرون إلا إسرائيل.

قال صديقي مرة: اللعنة على كولومبس ذلك الحقير لماذا اكتشف أمريكا، ليته تركها وحدها غارقة في تخلفها وظلامها، ليت ذلك اللعين غمرها بالماء وتركها هناك، لو فعل ذلك لأراحنا منها وأراح العالم. وقال غيره: يا إلهي، أما آن لهذا الكابوس المزمن أن ينقشع، أما آن لهذا التوحش أن ينهار.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

أمريكا تعلن عن دعم كبير لأحزاب يمنية وتوجه دعوة مهمة لليمنيين

أمريكا تعلن عن دعم كبير لأحزاب يمنية وتوجه دعوة مهمة لليمنيين

مقالات مشابهة

  • اكتشاف دبور يثير الرعب في أمريكا.. «يضع بيضه في ذباب الفاكهة»
  • برج القوس.. حظك اليوم الأربعاء 18 سبتمبر: ابحث عن فرصة جديدة
  • عضو مجلس القيادة الرئاسي يدخل أمريكا بجواز سفر غير يمني!!
  • صنعاء تحذر أمريكا من أي استفزاز إضافي
  • مباحثات بين وزيري دفاع أمريكا و”إسرائيل” بشأن الصاروخ اليمني الذي استهدف “تل أبيب”
  • ‏كتابات في زمن الطوفان: حكاية المقاتل الفلسطيني الذي أدهش العالم
  • بزشكيان يضع شرطه لإجراء محادثات مباشرة مع أمريكا: نحن إخوة لهم
  • إيران تفاجئ العالم وتكشف معلومات جديدة عن الصاروخ اليمني الذي استهدف “تل أبيب”
  • أمريكا تعلن عن دعم كبير لأحزاب يمنية وتوجه دعوة مهمة لليمنيين
  • ماذا تريد أمريكا؟