حاتم الطائي
◄ المقاومة الباسلة أدارت المعارك باحترافية منقطعة النظير.. ونجحت في انتزاع النصر المُبين
◄ هدف الاحتلال لم يكن سوى الإبادة الجماعية والتهجير القسري للشعب الفلسطيني
◄ الاحتلال الإسرائيلي تكبَّد هزائم مُذلّة.. ولم يحقق هدفًا واحدًا في ظل صلابة المقاومة
بعد نحو 46 يومًا من القصف الهمجي واللامعقول واستخدام كل الأسلحة المُحرَّمة في قطاع غزة، والتدمير المُرعب الذي أحدثه الطيران الحربي الإسرائيلي لبيوت السكان المدنيين الآمنين، والمذابح الشنيعة التي ارتُكِبَت، وعمليات الإبادة الجماعية دون رحمة ودون مُراعاة للإنسانية والقانون الدولي، واعتقال النساء والأطفال والشيوخ والعجزة، والقتل بدم بارد.
لذلك.. سجِّل يا تاريخ أنَّه على مدى قرابة 6 أسابيع من القصف الجوي الإسرائيلي والمدفعية الثقيلة، سقط على قطاع غزة ما يزيد عن 45 ألف طن من المُتفجرات، أي ما يفوق القنبلتين النوويتين اللتين أُطلقتا على هيروشيما وناجازاكي في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وأحدثت دمارًا هائلًا، وهو ما يُؤكد أن دولة الاحتلال استهدفت أولًا وأخيرًا إبادة الشعب الفلسطيني ومن ثم تنفيذ المُخطط التآمري لتهجيره خارج أراضيه، والعمل بكل قوة وبدعم أمريكي وغربي لا محدود ولا مشروط من أجل أن تحتفظ دولة الكيان الإسرائيلي بتفوُّقها العسكري، في ظل ما ألحقته المقاومة الباسلة بهذا الكيان من خسائر مُذلّة، اعترف بها جيش الاحتلال، بل وصل به الأمر أن أعلن بعض قياداته أنهم مستعدون للتضحية بكل الأسرى لدى حماس من أجل تنفيذ أهدافهم الشيطانية!
ما يعنينا هنا هو التأكيد على ما تحقق من نصر مُظفّر للمقاومة والشعب الفلسطيني، وهذا النصر لم يكن ليتحقق لولا إيمان هذا الشعب المُناضل بحقه في تحرير أرضه، مهما كلّف ذلك من أثمانٍ غالية، ويجب عندما نتحدث عن النصر ألّا نخلط الأوراق فيُشير البعض إلى ارتقاء أكثر من 14 ألف شهيد (معظمهم من الأطفال والنساء)، فكل روح شهيد صعدت إلى بارئها، أسهمت فيما تحقق من انتصار، فثمن الحرية لا يُقدر، واسترداد الأرض يتطلب التضحية بالدماء لا سواها!
ولذلك نُؤكد أن ثمّة عناصر فاعلة أسهمت في تحقيق هذا النصر المُبين على الاحتلال الغاصب، نوردها كما يلي:
أولًا: استبسال المقاومة الفلسطينية؛ فالتخطيط والترتيب لمعركة السابع من أكتوبر المجيد، نُفِّذ على أعلى مستوى من الدقة والسرية، وبإرادة فلسطينية حُرّة، خططت وقررت ونفذت وتحملت النتائج بدعم ومؤازرة الشعب الفلسطيني الراغب في الانعتاق من نير هذا الاحتلال المُجرِم. نجحت المقاومة في التحضير المُذهل لذلك اليوم المشهود، يوم سقوط إسرائيل في بئر الهزيمة، وانهيار تلك الصورة الخُرافية المزعومة عن جيش الاحتلال، الذي لم يصمد أمام مُقاومة الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، ولم يجرؤ جندي إسرائيلي واحد على الخروج من دبابته المُحصّنة، فتحولت تحصيناتهم إلى قبور لهم؛ إذ اشتبك معهم أبطال المقاومة من "المسافة صفر" وقضوا عليهم في كل مُواجهة مباشرة وغير مباشرة. ونجحت المقاومة في اصطياد الدبابات والآليات العسكرية التي توغلت في قطاع غزة، وأجبرت الكثير منهم على التراجع، ودمّرت على الأقل 335 دبابة وآلية عسكرية كليًا أو جزئيًا، وفي كلتا الحالتين لن تصلح للاستخدام.
ثانيًا: إدانة الرأي العام العالمي لإسرائيل ودعمه وتأييده للشعب الفلسطيني. فقد شاهدنا منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على غزة، مسيرات حاشدة في أنحاء العالم، وكان للعُمانيين قولهم الفصل في ذلك، فقد خرجوا في أنحاء عُمان وتحت أشعة الشمس، ليصدحوا بقول الحق تأييدًا ومؤازرةً للشعب الفلسطيني الشقيق، ورفضًا وتنديدًا بأشد العبارات لما ارتكبه الاحتلال من مذابح دموية راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء، إلى جانب المصابين، فضلًا عن آلاف آخرين ما زالوا تحت الأنقاض.
وقد كانت المُفارقة الصارخة أنَّ المسيرات الاحتجاجية المليونية انطلقت في قلب عواصم التأييد والدعم اللامحدود للاحتلال، ففي لندن وواشنطن خرجت أشد المظاهرات، بأعداد غير مسبوقة، وحتى الأمس، ما زالت المظاهرات تنطلق في شوارع أوروبا وأمريكا، ومختلف أنحاء العالم، لتُعلن للعالم أجمع أن الضمير الإنساني للشعوب الحُرّة لم يمت، وأنَّ القيم الإنسانية- وإن غابت عن القادة والزعماء- فإنها مُتجذرة في وجدان الشعوب يدافعون عنها بأرواحهم.
ثالثًا: فَشَلُ الحربِ الإعلامية؛ فقد راهن الاحتلال الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى على الانتصار الإعلامي قبل كل شيء، لكن حتى هذه الحرب الإعلامية النفسية تكبد فيها هزائم متتالية، بدءًا من الادعاءات الكاذبة بأنَّ المقاومة حرقت الأطفال وذبحت النساء مع عرض صور مُزيفة لهذه الأراجيف والتي- للأسف- انطلت على أكبر رئيس دولة في العالم، بعدما كرر جو بايدن مزاعم إسرائيل، والتي اتضح لاحقًا أنها ليست سوى تزييف باستخدام تقنيات تعديل الصور! كما أطلق الاحتلال كتائبه الإلكترونية التي سعت لنشر انتصارات مزعومة في قطاع غزة، بينما الواقع كان مريرًا، وغزة تحوّلت إلى مقبرة للغزاة الإسرائيليين.
سجِّل يا تاريخ أنَّ الاحتلال وطوال 46 يومًا من العدوان، كان يرتكب المذابح ليل نهار، بينما يدّعي مظلومية تاريخية قائمة على الأكاذيب واختلاق الأحداث، وزعم تحقيق الانتصارات الوهمية، حتى عندما ارتكب جريمة الحرب بقصف المستشفيات واقتحامها للبحث عن أنفاق، لم يقدم دليلًا واحدًا على ذلك، ولم يجد ما يبحث عنه، لأنه لم يكن موجودًا من الأساس، وإنما كان ذلك غطاءً لمواصلة حرب الإبادة.
ولذلك وبعد أن تأكد العالم من زيف الادعاءات الصهيونية، بدأ الغرب في رفع يده عن الاحتلال، وأخذ بايدن خطوة إلى الوراء بإطلاق تصريحات ترفض بعضًا من أفعال إسرائيل. وهذا يؤكد أنَّ أكاذيب عديدة مثل: مُعاداة السامية، والدفاع عن النفس وأن حركات المقاومة "مجموعات إرهابية"، تبخّرت، وأدرك العالم أجمع أن الاحتلال الإسرائيلي ليس سوى استعمار شرير هدفه الأول والأخير إبادة الفلسطينيين.
رابعًا: نجاح الضغط الشعبي؛ فعلى الرغم من المواقف الرسمية للدول والحكومات، خاصة في الغرب وأمريكا والتي جاءت داعمة ومُساندة بالمال والسلاح لإسرائيل، إلّا أن الضغط الشعبي حقق نجاحات كبيرة، وهذا الضغط لم يتمثل فقط في المظاهرات- كما ذكرنا سابقًا- بل من خلال المُقاطعة الشعبية للمنتجات الداعمة لإسرائيل، وقد شاهدنا في عُمان وفي العديد من الدول حول العالم، أن المطاعم والمقاهي المؤيدة والداعمة للاحتلال، تكبدت خسائر هائلة، وهوت أسهمها في البورصات العالمية بمعدلات كبيرة.
نخلُص مما سبق إلى أن الاحتلال الإسرائيلي تجرّع هزيمة نكراء، وفشل تمامًا في تحقيق أي انتصار؛ إذ لم ينجح في استعادة الأسرى لدى المقاومة عبر فوهة المدافع وبعشرات الآلاف من الأطنان من المتفجرات، ولا من خلال التوغل البري الهمجي؛ إذ إن أجهزة استخباراته (الموساد- الشاباك- أمان، وغيرها) ولا المخابرات الأمريكية ولا الغربية التي نشطت في سماء غزة بطائراتها المُسيَّرة ليل نهار، لم تستطع تحديد موقع تواجد الأسرى. فشلت حكومة الإرهاب بقيادة بنيامين نتنياهو وبعضوية وزراء التطرف والعنصرية، في القضاء على حركة "حماس"، وهو الهدف المزعوم الذي أعلن نتنياهو عزمه على تنفيذه. والأهم من ذلك أن الاحتلال فشل على الإطلاق في توفير الأمن والسلام، فرغم القصف العنيف إلّا أن صواريخ المقاومة كانت تنهال على تل أبيب ومدن الاحتلال، وكانت الرشقات الصاروخية تُلقي الرُعب والهلع في نفوسهم، حتى في ظل اعتمادهم على منظومات الدفاع الجوي مثل "القبة الحديدية"!
سجِّل يا تاريخ تلك الهزائم المتتالية للطرف الإسرائيلي المُعتدي، وسلسلة الانتصارات المجيدة للمقاومة الفلسطينية الباسلة، التي تحققت بفضل إرادة النصر أو الشهادة التي يؤمن بها مقاتلو المقاومة، وبدعم ومؤازرة من الشعب الفلسطيني الأبي الحُر المُستعد للتضحية بالنفس في سبيل إعلاء كلمة الحق واستعادة الأرض ونيل الاستقلال.
ويبقى القول.. إنَّ التاريخ يجب أن يُسجِّل ما تحقق من نصر مُبين للمُقاومة، وهزيمة مُرّة للاحتلال، حتى تَعلَمَ الأجيال القادمة أنَّ التضحيات جزء من تكوين هذا الشعب العظيم، وأن انتزاع الحرية والتحرر من الاحتلال وطرد المُستعمر لن يتحقق إلّا بالمُقاومة، لأنَّ هذا العدو الغاصب لا يؤمن بالسلام؛ بل يُدرك جيدًا لغة القوة، ولقد قالها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر: "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلّا بالقوة".
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل أصبح المقاومون مرتزقة ودواعش؟!
هناك سؤالٌ كبير يطرح نفسه بقوّة منذ أن شرعت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في حملتها الشرسة ضدّ المقاومة في جنين إلى حدّ الساعة، وهو: ما الذي تجنيه السلطة من هذه الحملة المشبوهة التي لا تخدم إلا أجندة الاحتلال؟!
في العقود الثّلاثة الماضية، كانت السلطة الفلسطينية تمنع أيّ عمل مقاوِم في الضفة الغربية، بذريعة أنّها تُفاوض الاحتلال على دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 جوان 1967، أمّا الآن وقد توقّفت المفاوضات نهائيًّا، وانهار مسلسل “السّلام” الكاذب، وأكّد الاحتلال مرارا رفض قيام أيّ دولة فلسطينية ولو كانت منزوعة السلاح، فلماذا تصرّ السلطة الفلسطينية على محاربة المقاومة في الضّفة نيابة عن الاحتلال؟!
الاحتمالُ الأرجح هو أنّ السلطة تريد أن تُثبت للاحتلال وأمريكا أنّها لا تزال موجودة وتسيطر على الأوضاع في الضفة الغربية أملا في أن يمنحاها دورا في غزة بعد نهاية الحرب، لذلك قامت بهذا الهجوم الكاسح على مخيّم جنين وحاصرت عشرات المقاومين هناك، لتصفيتهم أو نزع سلاحهم واعتقالهم، وقد قتلت إلى حدّ الساعة ثلاثة منهم وفي مقدّمتهم قائد كتيبة جنين، يزيد جعايصة، الذي يطارده جيش الاحتلال منذ 4 سنوات كاملة ولم يستطع الوصول إليه، فوصلت إليه هذه الأجهزة واغتالته!
منذ 7 أكتوبر 2023 إلى اليوم، قتلت أجهزة السلطة 13 مقاوما بالضفة الغربية واعتقلت 150 آخر، أغلبهم مطارَدون ومطلوبون للكيان، كما قام الاحتلال باغتيال العديد من المقاومين الذين طاردتهم أجهزة السلطة وفشلت في اغتيالهم أو اعتقالهم ومنهم “أبو شجاع” في طولكرم، أليس هذا تكاملا بين الطرفين، يؤكّد أنّ أجهزة هذه السلطة أصبحت ذراعا أمنيّا للاحتلال وتؤدّي دورا لا يختلف عن “جيش لحد” المنهار في جنوب لبنان؟! ألا تدرك السلطة أنّها بهذا الدور المخزي تريد تأبيد احتلال فلسطين وتصفية قضيّتها؟!
والمُثير للاشمئزاز أكثر أن يظهر أحد قادة هذه الأجهزة في قناة عربية، ويقول إنّ هدف الحملة في جنين هو “محاربة المرتزقة والمأجورين والدواعش الذين يعملون لصالح أجندات إقليمية ويريدون تحويل الضّفة إلى غزّة ثانية؟!”.. أليس من العار أن يُهاجَم المقاومون بهذا الحقد والكراهية ويوصَفون بـ”المرتزقة” و”المأجورين” و”الدواعش” وهم الذين يبذلون دماءهم رخيصة في سبيل تحرير فلسطين والأقصى؟!
كأنّها تقول له: أنهِ ما بدأته في غزة، أمّا المقاومة في الضِّفة فسنريحك من عبئها
لو كانت هذه السُّلطة تعقل، لدفعتها المجازر الوحشية التي يرتكبها الاحتلال في غزة وتدمير بنيتها التحتية منذ أزيد من 14 شهرا، وحملات التجويع والتهجير والتطهير العرقي لسكّانها، فضلا عن انهيار مسلسل “السّلام” معه بعد 31 سنة كاملة من اتّفاق أوسلو، إلى التوبة والعودة إلى أحضان شعبها ودعم مقاومته الشريفة في الضِّفة، لكنّها للأسف فقدت كلّ قيم الوطنية والعروبة والشهامة والإحساس بالعزّة والكرامة، وانبطحت تماما للاحتلال وخنعت.
وبدل أن توجِّه سلاح 60 ألفًا من عناصرها الأمنية للدفاع عن الفلسطينيين بالضّفة ضدّ الانتهاكات اليومية للاحتلال وقطعان مستوطنيه، آثرت أن تتحوّل إلى ظهير له، تكمل ما عجز عنه في شتى معاقل المقاومة هناك، وكأنّها تقول له: أنهِ ما بدأته في غزة، أمّا المقاومة في الضِّفة فسنريحك من عبئها!
يكفي هذه السُّلطة خزيًا ما كشفه موقع “أكسيوس” الأمريكي من أنّ بعض مسؤوليها أطلعوا مسبقا إدارة الرئيس بايدن ومستشاري ترامب، على عملية جنين، وأنّ المنسّق الأمني الأمريكي، مايك فنزل، اجتمع بقادة أمن السُّلطة قبل العملية لـ”مراجعة خططهم”، وبعدها طلبت الولايات المتحدة من الكيان السَّماح لها بتزويدهم بالمُعدّات والذخائر، لإنجاز “مَهمّتهم” هناك.
وقد كشفت صحيفة “هآرتس” العبرية أنّ الاحتلال سيقدّم لهم مُعدّات عسكرية متطوّرة وفي مقدّمتها أجهزة إبطال العبوّات الناسفة، إضافة إلى زيادة التنسيق الأمني بين الطرفين، ومع ذلك تسمّي السلطة هذه المهمة القذرة “حماية الوطن!”، وتُشيطن المقاومة الشريفة وتجرّمها، أيّ عار هذا؟!
السُّخط الشعبي ضدّ السلطة الفلسطينية يتنامى في الضِّفة، والمظاهرات تملأ الشوارع في جنين ونابلس وطولكرم ومعاقل أخرى، وحتى بعض عناصر الشرطة وقياديين من “فتح” بدأوا يتململون ويعارضون هذه الحملة الأمنية التي تتساوق مع المخططات الصهيونية والأمريكية، وبمرور الأيام قد يتحوّل التململ إلى رفض لمواجهة الأشقاء في مخيّم جنين، وحينها يصبح انهيارُ السلطة تحصيل حاصل؛ فحينما رفض الجيشُ السوري القتال، لم تستطع روسيا، القوة العظمى الثانية في العالم، إنقاذ نظام الأسد وانهار في ظرف 12 يوما فقط، فعلى السلطة أن تعتبر وتعود إلى أحضان شعبها بدل الاستقواء الأجوف بأعداء الأمّة والبشرية: أمريكا والاحتلال.
الشروق الجزائرية